للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


السنن والأحاديث النبوية
(٢)

كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
(الكلمة الثالثة) في بيان ما استشكله الأستاذ الشيخ اليافعي في تفسيرنا
للآيات التي يستدلون بها على النسخ في القرآن. إن استدلالهم على النسخ بقوله
تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) قد
فنده الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسيره كما نقلنا ملخصه عنه في مقالة الناسخ
والمنسوخ، وقلنا: إن المراد بالآية هنا هي العلامة والدليل على النبوة كالمعجزة
ونحوها، ومعنى نسخها: ترك العمل بها في التأييد وعدم إظهارها مرة أخرى
لتصديق النبي، وذلك على حد قوله تعالى في آية أخرى في هذا المعنى: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨) أي لكل زمن حال مكتوب عليهم ومقدر
لهم لا يناسبهم غيره {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (الرعد: ٣٩) من الآيات السابقة
وغيرها، فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة، لعدم مناسبتها لحالهم، فهو كقوله
هناك: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: ١٠٦) فالمجرد النسخ في الآيتين بمعنى واحد
{وَيُثْبِتُ} (الرعد: ٣٩) ما يشاء مما يرى الحكمة في إبقائه أو إعادته {وَعِندَهُ أُمُّ
الكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) أي العلم التامّ بكل حال وما يناسبه: فالسياق في هاتين
الآيتين يدل على ما قلناه فيهما، وهما مُفسِّرتان بعضهما لبعض.
يقول الأستاذ الفاضل: لو كان تفسيرنا لهذه الآية صحيحًا لكان التقدير فيها:
ما ننسخ من مثل آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ونقول: نعم , فليكن كذلك
فهو كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: ٥٩) , فإن تقديره: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي تقترحونها إلا أن
كذب بمثلها الأولون، وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) ,
فإنما المثلية في قوة الحجة والإقناع، لا في كُنْهها وماهيتها، فأي عيب يراه
الأستاذ في هذا المعنى، وكيف يفسر هذه الآيات وآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} (الرعد: ٣٨) إلخ الآية التي سبق ذكرها؟ .
فكل آية من آيات الأنبياء السابقين التي نسيها الناس أو لم يظهرها الله تعالى
مرة ثانية على يد النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمثلها في الإقناع والهداية أو
بخير منها في ذلك، فأظهر تعالى على يده معجزات كثيرة، وأنزل عليه آيات
الكتاب العزيز، فهو المعجزة العظمى الباقية، وآية الآيات الكبرى الخالدة، التي
رآها الناس في كل زمان ومكان، ويقدرها العقلاء قدرها، فإنها لا تشتبه بسحر ولا
بشعوذة أو غش أو تدليس، فهي خير من جميع المعجزات التي سبقتها، وأعم فائدة
وأتم دليلاً، وأكثر مناسبة لحال البشر، وقد ظهر ذلك الآن أتم الظهور، فنرى
العلماء اليوم في أوربا وكثير من البلاد المتمدنة صاروا ينفرون من ذكر المعجزات
الحسية، ويودون لو أوتي أنبياؤهم معجزات غيرها علمية عقلية أدبية، أي كمعجزة
القرآن الشريف. فلو لم يؤت صلى الله عليه وسلم سواه لكفى، ولذلك قال تعالى:
{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: ٥١) فما بالك وقد أعطي معجزات كثيرات غيره، كما
تواترت به الأخبار.
واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يقبل أي معنى آخر سوى ما
اخترناه فيها، ولذلك ختمت بقوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) , فلو كان المراد آيات الأحكام، كما يقولون لقال: ألم تعلم أن الله
عليم حكيم، فإنه أتم مناسبة وأشد ملاءمة لما يقولون، ولما قال بعدها: {أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة: ١٠٧-١٠٨) فقد سأل بنو إسرائيل موسى من قبل
مقترحين آيات غير ما أراهم عنادًا وكفرًا {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء:
١٥٣) , فإذا كان تفسيرهم صحيحًا، فما مناسبة هذا الكلام هنا، وما معناه؟ ! وإذا
كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل الله تعالى أتى بدل الآيات المنسوخة
بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف نسخ كثير من أحكام القرآن بالسنة
على قول بعضهم؟ مثلاً قالوا: إن آية {الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (البقرة:
١٨٠) قد نسخت بحديث (ألا لا وصية لوارث) فلم لم يأت بدلها في القرآن؟
وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؟ كقوله: عشر رضعات معلومات
يحرمن، الذي نسخ على زعمهم بقوله: (خمس رضعات معلومات) , ثم نسخ لفظ
هذا الأخير، ولم يأت بدله، ولا يزال حكمه باقيًا، كما في مذهب الشافعي، وكذلك
لم يأت بدل للفظ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، وغير ذلك كثير! !
أما آية مناجاة الرسول التي فسرناها في مقالاتنا السابقة، فنزيد على تفسيرنا
لها أن قوله تعالى فيها: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة:
١٣) إلخ، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة
الرسول، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم
يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم، فلذا ندبكم
إلى هذا الأمر، ولم يجعله عليكم فرضًا، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة،
فأقيموا الصلاة إلخ، فقوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (المجادلة: ١٣) قد ورد هنا
بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة والعدول عن معاملتها
كسابقيها، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى
أيضًا في آية أخرى في سورة المزمل، وهي قوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ} (المزمل: ٢٠) أي: رجع إليكم بالتخفيف , ورفع عنكم ما يشق
عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب، إذ لا ذنب هنا صدر
منهم.
قال الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي، منتقدًا على تفسيرنا لآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: ١٠١) : إن السياق لا يدل على أن هذا القول صدر عن أهل
الكتاب كما قلنا، فإنه لم يتقدم لهم ذكر في السورة.
ونقول: إن صدور هذا الكلام من أهل الكتاب لا ينافي أن غيرهم من العرب
شاركهم في ترديده والموافقة عليه، عنادًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبًا له،
فلذلك وردت هذه الآية في سياق الكلام عن مشركي العرب، فإنهم وافقوا أهل
الكتاب منهم في دعاويهم الباطلة وتعاونوا بهم على تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام،
ولذلك كانوا يقولون تقليدًا لهم في تكذيب القرآن ? {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ
شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} (الأنبياء: ٥) , فإنهم لا يؤمنون برسل
الأولين ولا يعرفونهم ولا يصدقون بآياتهم، ولكنهم يرددون ما يلقيه لهم أهل الكتاب،
وإن خالف معتقداتهم، مادام فيه تكذيب للنبي وإغاظة له، ولذلك ترى في القرآن
آيات كثيرة أمثال هذه التكذيبات اليهودية أو النصرانية واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب، فإنهم جميعًا كانوا متضامنين ومتحدين بعضهم مع بعض على
بغض النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وعرقلة مساعيه، فهم - وإن اختلفت
أديانهم - أمة واحدة ويد واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أمثلة هذا
التضامن والاتحاد في التكذيب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: ٩١) ولما كان اليهود هم المُوعِزين إلى
المشركين بذلك عنادًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحقدًا عليه ومكابرة له
قال تعالى له: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} (الأنعام: ٩١) الآية، وهي واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب للسبب الذي ذكرناه، وهو أنهم أمة واحدة ومتحدون على بغض
الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه وتلقين بعضهم بعضًا صنوفًا من الشبهات
والتشكيكات غير مبالين بمخالفتها لمعتقداتهم، فلذا صح أن ينسب ما يقوله بعضهم
لهم جميعًا لاتباعهم له وتعويلهم عليه في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك
في جميع اللغات المعروفة، ينسب عمل بعض أفراد الأمة إلى الأمة جميعها،
خصوصًا إذا رضيت به وأقرته، وإن اختلفوا عقيدة، فما بالك إذا كانوا جميعًا
يأتون الشيء ويعملونه.
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول المشركين: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: ٤٨) مع أنهم لا يؤمنون بموسى، ولا بما جاء به، وهو يدل على أنهم
كانوا يقلدون اليهود تقليدًا أعمى، ويطيعونهم في جميع ما يوعزون به إليهم، وإن
نافى معتقداتهم، كما قلنا إرضاءً لهم واستجلابًا لودهم ومعاونتهم لهم على الرسول
صلى الله عليه وسلم. فكثير من مثل هذه الأقوال كان صادرًا عن اليهود , ثم تبعهم
فيه المشركون وصاروا يرددونه عنهم، فلذا اتبعوا اليهود في تكذيبهم النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: إن القرآن نسخ بعض شرائع التوراة، كالسبت وتحريم
بعض اللحوم. ولذلك جاءت آية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: ١٠١) في
سياق الكلام مع المشركين، مع أن القول صدر أولاً من أهل الكتاب، وقلدهم فيه
المشركون تقليدًا أعمى، كما قلدوهم في غيره مما سبق بيانه، وجاءت به الآيات في
سياق الكلام معهم.
هذا وإن الأستاذ الفاضل قد استنكر جَعْل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: ١٠٤) وصفًا لليهود، وفاته
أن الله تعالى قد وصفهم بمثله في آيات أخرى كثيرة، كقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ} (المائدة: ٤٣) - إلى قوله - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة:
٤٣) , وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: ٥) .
(الكلمة الرابعة) - بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين.
أولاً: قد يكون الراوي كذوبًا، لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح والتقوى لسبب
ما من الأسباب التي تحمل الناس على الكذب، وهي كثيرة معروفة، فيغتر به
بعض الناس، لعدم معرفتهم عنه شيئًا يجرحه، لشدة احتراسه وتستُّره. وقد يكون
بعض المحدثين مؤمنًا صادقًا مخلصًا صالحًا لكنه ينخدع لظاهر هؤلاء المنافقين،
فيأخذ الحديث عنهم ويصدقهم، وهم كاذبون، إذ كلما اشتد صلاح المرء، وخوفه
من الله، ظن أن أمثاله كثيرون وكثر انخداعه بأعمال المنافقين وظواهرهم، وتجنب
إساءة الظن والتجسس لشدة ورعه وتقواه، أو بساطته وسذاجته في بعض الأحوال.
وكثرة الكذابين وكثرة ما يضعونه من الأحاديث يشوش على الناقدين الباحثين عملهم
ويوقعهم في الارتباك والخطأ كثيرًا، فيقبلون أحيانًا ما ليس صحيحًا ويرفضون ما
هو صحيح، ولا يلزم مِنْ كوْنِ المرءِ غيرَ صالح أو عرف عنه بعض الكذب أن
جميع ما يقوله كذب، وقد يكون منفردًا بحديث، فلا يقبل منه لذلك، مع أنه قد
يكون صادقًا فيه. وقد يكون المرء صالحًا صادقًا، ولكنه يضطر في بعض الأحيان
إلى أن يكذب، ولو واحدة، فلا يسلم ما يؤخذ عنه من أن يكون فيه بعض الكذب أو
المبالغة.
ثانيًا: قد يكون بعض الرواة من الصالحين الصادقين المخلصين، ولكنه
يخطئ المراد ولا يفهم الحقيقة، فَيُحدِّث كما فهم معتقدًا أنه صحيح. والتحديث
بالمعنى كان عندهم جائزًا. وقد ينسى شيئًا مما سمعه ويقع في الغلط، بسبب ذلك
بدون أن يشعر به. ولذلك قال عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه: (والله إن كنت
لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين،
ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا
كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن
يشبه لي كما شبه لهم) ؛ كما رواه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث.
ثالثًا: إثبات عدالة رجال الأسانيد كثيرًا ما تكون مبنيةً على شهادة شاهد أو
رواية واحد، فكأنهم يثبتون صحة الروايات بعدالة الرجال، ثم يثبتون عدالة الرجال
بالروايات، ولا يخفى على أحد فساد ذلك، فإن ما يقال في رجال الأسانيد يقال مثله
جرحًا وتعديلاً فيمن يشهد لهم ويوثقهم، وربما أدانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في
البرهان.
رابعًا: أكثر الأحاديث والروايات مقتضبة، فلا يعرف المقام الذي قِيلَتْ فيه
ولا مناسباتها، ومن المعلوم أن الأقوال إذا لم تعرف الظروف التي قيلت فيها قد
تخرج عن المراد منها خروجًا كليًّا أو جزئيًّا.
خامسًا: من المشاهد في جميع الأجيال، وفي جميع الأمم أن حفظ الأحاديث
إذا كانت طويلة أو كثيرة بدون تحريف في ألفاظها أو معانيها، ولا تبديل ولا زيادة
ولا نقص، عسير جِدًّا على الناس، إلا من شذّ، وقليل هو، وخصوصًا إذا ألقيت
مرة واحدة. ولذلك جزم بعضهم بأن من ادعى نقل الشيء كما هو بحروفه في مثل
هذه الأحوال فهو مغتر كذاب، فالنقل في أغلب هذه الأحوال هو تقريبي، ولا يخفى
ما ينشأ من مثل هذا النقل من الافتراءات والاختلافات والأكاذيب، فإذا امتاز بعض
الناس بهذه المقدرة فليس جميع الرواة ممن امتازوا بهذه المزية الشاذة.
سادسًا: قبل زمن تدوين الأحاديث، كان جل رواتها إن لم نقل كلهم، لا
يكتبون الحديث ولا يعتمدون فيها إلا على ذاكرتهم، وقد سبق لنا كتابات طويلة في
هذا الموضوع في المنار ومجلة الحياة وجريدة الدستور، وقد أيدنا فيها الأستاذ الكبير
والعلامة المحقق صاحب المنار الأغر. ومن اعتمد على ذاكرته فقط لا نبرئه من
الخطأ والنسيان في جميع الأحوال مهما كان.
هذا شيء مما يقال في روايات الآحاد، فهي عندنا لا تفيد اليقين لطروء مثل
هذه الاحتمالات عليها، وبذلك قال أيضًا الجمهور، وإن أراد أن ينكر ذلك الأستاذ
اليافعي زاعمًا أنها تفيد اليقين.
وإذا كانت هذه الاحتمالات مما يرد على أحاديث المسلمين ورواياتهم، فما يرد
على أحاديث غيرهم أشد وأقوى وأكثر، فإنه لم يعرف عن أي أمة مثل ما عرف
عن الأمة الإسلامية من العناية والتمحيص في الروايات والنقد والبحث في رجال
الحديث، ولم يكن يخطر على بال غيرهم شيء من مثل ذلك.
ولا خوف على الدين الإسلامي المتين من هذه المطاعن التي أوردناها على
روايات الآحاد، فإن حجته ناهضة بالمتواتر فيه، والمجمع عليه فليهدأ المسلمون
بالاً.
(الكلمة الخامسة) : في ذكر شيء مما خالفوا فيه القرآن لأجل الحديث.
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨) في
هذه الآية - وأمثالها في القرآن كثير - يذم الله تعالى اتباع الظن والقول في دين الله
بغير علم، أي بغير ما يفيد اليقين، وهي واردة في سياق الكلام مع من حرموا
أشياء ليس عندهم دليل على أن الله حرمها عليهم، وقال أيضًا قبل ذلك بقليل:
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١١٦) - إلى قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام: ١١٩) , ومنه ترى أن العمل
بالظن في شريعة الله غير جائز، اللهم إلا إذا اضطررنا إليه، كما في بعض الأحكام
القضائية، بِنَاءً على قاعدة: الضروراتُ تبيح المحظورات المؤيدة بالكتاب والسنة،
وإلا فإنه يحرم على الإنسان أن يحل شيئًا أو يحرمه لدليل ظني، فما بالك بمن
يعارض القطعي بالظني؟ لا شك أنه يكون مرتكبًا لإثم كبير. وقد أقر الأستاذ
الفاضل الشيخ اليافعي بأن الظن إنما يذم إذا عارضنا به الأمر القطعي. يقول ذلك
وقد غاب عنه أنه هو ومن على مذهبه كثيرًا ما عارضوا نصوص القرآن الشريف
الصريحة وخالفوها لأجل أحاديث الآحاد، وهي لا شك ظنية، كما عليه الجمهور.
وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(١) خالفوا قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: ١٨٠) الآيات، لحديث:
(ألا لا وصية لوارث) .
(٢) حرموا أكل الحمر الأهلية التي كانت تأكلها العرب كثيرًا، لما رووه
من أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، مع أن القرآن الشريف يقول: {قُل لاَّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام:
١٤٥) الآية. ويقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ} (البقرة: ١٧٣) الآية،
ونحوها كثير.
(٣) قالوا بحرمة استعمال الذهب والفضة والحرير للأحاديث التي روَوْها،
والقرآن يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢)
فهي للمؤمنين يتمتعون بها في الدنيا، وستخلص لهم وحدهم يوم القيامة فيُحلَّون فيها مِن أساورَ مِن ذهب ولؤلؤًا , ولباسهم فيها حرير.
(٤) حرموا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها للحديث، وخالفوا قوله
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: ٢٤) بعد أن ذكر سائر المحرمات، وليس من بينهن المرأة على عمتها أو
خالتها.
(٥) أوجبوا القتل مطلقًا على من ارتد عن الإسلام للحديث، والقرآن يقول:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) {فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) .
فهذه بعض أمثلة مما عارضوا فيه القطعي بالظني، وهو مما نكرهه ونذمه،
وقد ذمه الله تعالى في كتابه العزيز، كما أقر به الأستاذ المناظر، وإذا تتبعنا
مذاهبهم وجدنا أمثلة غير ذلك كثيرة، فهل يعقل أن الله يبيح للمسلمين ما كان يذم
لأجله غيرهم في كتابه؟ .
أنا لا أقول: إن جميع هذه الأحاديث يجب أن تكون موضوعة، ولكن لا يبعد
أن بعضها كان كذلك والبعض الآخر يغلب الظن أن له أصلاً صحيحًا، وأنه كان
شريعة خاصة بأحوال خاصة وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام، ولا تخفى
حكمة ذلك على الناقد البصير إذا تأملها. وما جاء به القرآن هو الشرع العام لكل
زمان ومكان، ولذلك لم تأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه , ونهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسلمين عن تدوينها كي لا تكونَ خالدةً بينهم كالقرآن الشريف
ولتزول من بينهم بزوال عللها وأسبابها، كما سنبينه إن شاء الله تعالى في رسالة لنا
في هذه المسائل سنطبعها على حِدَة لطولها. فالمسلمون اتبعوا كثيرًا من مثل هذه
الأحاديث مع اعترافهم بأنها ظنية، وخالفوا لأجلها القرآن الشريف مع أن ذلك مذموم
فيه. وقد نسوا علل ما كان صحيحًا منها ولم يراعوا أسبابها ولا الظروف التي قيلت
فيها، مع أن معرفة أسباب الأحاديث النبوية يحتاج إليها أكثر من الاحتياج إلى
معرفة أسباب نزول القرآن الشريف، ولذا لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه
الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز. وهذه الأشياء هي مما ننكره عليهم،
وخصوصًا لأن من الأحاديث التي يسلمونها ما يوجب الطعن في الكتاب المتواتر
نفسه، كما أشرنا إليه في الكلمة الأولى. فلولا تغالبُهم في اعتبار الأحاديث لَمَا وقعوا
في كثير مما وقعوا فيه من الاختلافات والإشكالات والشبهات وغيرها، حتى جعلوا
اليسر عسرًا والسهل لغزًا.
وإني لأعجب من أهل الحديث، هل إذا سمعوا أي قول منسوب إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلزمون أنفسهم بالبحث في رجال سنده وتواريخهم أم عليهم
العمل به لمجرد نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بدون بحث ولا تنقيب.
أما الأمر الثاني فهم لا يجوزونه لظهور فساده، وأما الأمر الأول فكأنه يجب
على كل مسلم بمجرد ما سمع أقوالاً منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يفني حياته في معرفة أحوال رجالها والوقوف على أمورهم، وإذا لاحظنا أن التقليد
في الإسلام منهي عنه وجب على كل فرد أن يبحث في أحوال الرجال وينقدهم
ويمحص كل ما وصله في الأحاديث وما يصله بنفسه، وإلا بقي دينه ناقصًا، فأي
حرج في الدين أكبر من هذا، وخصوصًا كلما طال العهد على رجال الأسانيد وبُعْد
مكانهم وزمانهم عنا. والله يقول: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:
٧٨) .
((يتبع بمقال تالٍ))