للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رفيق بك العظم


البلاد العربية والسكة الحجازية [*]

بلاد العرب أو شبه جزيرة العرب مساحتها مليون ومائة ألف ميل مربع،
وعدد سكانها على أقل تقدير سبعة ملايين، وعلى أكثره عشرة ملايين، وهي من
أخصب البلاد أرضًا وأجودها تربة وأعظمها خيرًا، إذا اعتني بها، وتوفرت وسائل
الأمن والراحة والعمران فيها. واليمن أجود بلاد العرب بقاعًا وأكثرها سكانًا
وأعظمها ثروة وخصبًا، ولهذا كانت تسمى قديمًا (العربية السعيدة) إلا أنها محاطة
بصحاري رملية منخفضة شديدة الحر، قليلة المياه، يظن السامع بها أن اليمن كلها
على هذا النمط: صحارٍ ورمال مع أن هذه الصحاري لا تمتد إلى الداخل من
السواحل الشرقية والغربية أكثر من خمسين إلى ستين ميلاً، يجتازها المسافر في
ثلاثة أو أربعة أيام، حيث يرى سلسلة جبال الثراة وبلاد شحر وحضرموت وجبل
صعدة وصنعاء، حيث الوديان الفسيحة المخصبة والسهول المكسوة بالخضرة
والجبال ذات الينابيع الغزيرة والأشجار الباسقة.
وسكان اليمن أهل نشاط وعمل، متوفرون على الزرع والتجارة بقدر ما يتسع
لهم المجال وتساعدهم الحال، ومع هذا فإن بلادهم مفتقرة إلى إصلاح كثير وعناية
من الحكومة كبيرة، لفقد الوسائل الحديثة في تعميم الري واستنبات أنواع الزرع
وفَقْد الراحة والأمن في أيام الحكومة الماضية التي كانت كلها أيام خصام ونزاع بين
الحاكم والمحكوم له كادت تفضي إلى خراب البلاد.
ولو صرفت الحكومة الآن وجهتها إلى إصلاح اليمن مع توفر أسباب العمران
الطبيعية ثمة لكان لها منها مورد رزق عظيم يقدره بعضهم ببضعة عشر مليونًا من
الليرات، وأهم أصول الإصلاح التي يحتاجها رقي البلاد وعمرانها وإثراء الخزينة
والأهلين هي:
(أولاً) إن مياه الأمطار الغزيرة التي تنهمر في اليمن تكون مجاري وسيولاً
لا تصل إلى البحر بل تغور في الرمال، وأكثرها يتجمع في مخازن في باطن
الأرض على عمق أربعة أو ثلاثة أمتار. فإذا تتبعت مظانّ هذه المخازن وحفرت
فيها الآبار , ثم استكثر من عمل الحياض والخزانات الكبيرة في الجبال وسفوحها
جعلت السقيا عامة في أكثر أطراف اليمن، وتحولت تلك الصحاري القاحلة إلى
جنات ناضرة حافلة بالزرع والضرع، ويساعدها على ذلك ما منحتها إياه الطبيعة
من قوة الإنبات والخصب، وهي تصلح لكل أنواع النبات الذي ينبت في البلاد
الحارة، كالبن والقطن والنيلة وأنواع البهارات وغيرها، ويمكن أن تزدرع في
السنة ثلاث مرات ويؤخذ منها ثلاث غلات، والبلاد الجبلية صالحة لاستنبات جميع
أنواع النبات الذي ينبت في البلاد المعتدلة وناهيك بقطر عظيم كاليمن، إذا بلغ نظام
الري والزرع فيه مبلغه في الهند ومصر، فإنه يكون بلا ريب من أغنى البلاد
العثمانية وأوسعها مزدرعًا ومصدرًا لثروة الحكومة والأهلين، إذا أضيف إلى ذلك
بقية الإصلاح المطلوب.
(ثانياً) أنْ تُقَسَّيم ولاية اليمن إلى ثلاث ولايات، إحداها صنعاء , والثانية
عسير , والثالثة تعز، لكي يتسنى بهذا التقسيم إدارة شئون اليمن، إدارة منتظمة
تشرف بها الحكومة على أمور الرعية والبلاد إشرافًا حقيقيًّا، يضم إليه أطراف
البلاد المتنائية، وينشر راية العدل والراحة والأمن على كل البلاد، وهذا العمل
مهما استلزم من النفقات التي ستقوم بها خزانة الدولة، فإنه يعوض على الحكومة
تلك النفقات أضعافًا مضاعفة في بضع سنين. ولقد أجمع على لزوم تقسيم اليمن إلى
أربع أو ثلاث ولايات كل العارفين بأحوال اليمن، والذين اختبروا حالها من إخواننا
الأتراك، فلا مندوحة للحكومة عن هذا التقسيم، إذا عزمت عزمًا أكيدًا على إصلاح
البلاد اليمانية، وهي عازمة على ذلك إن شاء الله.
(ثالثاً) إصلاح مرفأ الحديدة، وجعله مرسى أمينًا للسفن، ومد خط حديدي
من الحديدة إلى صنعاء، ثم تعميم السكة الحديدية في البلاد بالتدريج بقدر ما يمكن
مالية الحكومة، لأن سهولة المواصلات ضروري لبلاد متباعدة الأرجاء يراد
إصلاحها وتكثير موارد الثروة الزراعية والتجارية فيها، ولا سيما وأن بلاد اليمن
فيها كثير من المعادن والكنوز الأرضية التي لا يتيسر استخراجها والعمل فيها إلا
بسهولة المواصلات، ولقد عرفت اليمن قديمًا بغناها بمعدن الذهب، ويظن بعضهم
أن هذا المعدن النفيس فقد منها، مع أنه لم يزل موجودًا بكثرة فيها، ولقد رأيت
بعيني رأسي قطعًا منه ممتزجة أجزاء ذهبها برمل متحجر، كان استحضرها صديق
لي من بعض أطراف اليمن لأجل تحليلها وتقدير النسبة بين الرمل والذهب فيها،
ليسعى بعد ذلك بتأليف شركة لاستخراجه، فعاجلته المنون وأصبح مطويًّا في
التراب.
ومما لا ريب فيه أن السكة الحديدية الحجازية إذا أمكن إيصالها إلى القطر
اليماني، كانت من خير المشروعات النافعة لبلاد العرب عامة وللدولة خاصة، فإنها
متى بلغت مكة ومد منها ناشط إلى جدة سهل مدها إلى الحديدة عن طريق القنفذة أو
طريق آخر أقرب منها، وهناك تتصل بخط الحديدة الذي يتصل بصنعاء، وبذلك
تكون الدولة قد وصلت بين أقصى بلادها في الجنوب وأقصاها في الشمال والغرب
إذ نصل بين خط الآستانة والحجاز بخط برجيك المَنْوِيّ مَدُّه من حلب، وفي هذا
العمل الجليل من الفوائد الاقتصادية والسياسية ما لا ينكر قدره ومنفعته ولا سيما بعد
أن صار البحر الأحمر مزدحمًا لعدة دول أجنبية، وكان من قبل بحيرة عثمانية.
ويجدر بنا أن نطلب من رجال حكومتنا النظر فيما تقدم من الأمور، وفي
إصلاح شئون بلاد العرب والتوفر على عمرانها. وقد يرون أن الدول الأجنبية تبذل
مزيد الجهد في عمران مستعمراتها في إفريقيا على قلة سكانها وقلة الأيدي التي تعمل
فيها وضعف الأمل في أن تكون تلك المستعمرات بكثرة سكانها وعمرانها والانتفاع
من ثمراتها كمستعمراتها في آسيا وأمريكا وجزائر المحيط، فما أحرى الدولة
العثمانية بأن تنافس الدول بقطر عظيم فسيح كثير السكان متوفرة فيه مصادر الثروة
ووسائل العمران إذا أعطي كل العناية والالتفات ونال حظًّا من الإصلاح عظيمًا،
ولا سيما في عصر الحكومة الدستورية التي نرجو أن تكون حكومة خير وسعادة
على المملكة العثمانية جمعاء إن شاء الله.
أما السكة الحديدية الحجازية التي نتمنى أن تكون خير واسطة لعمران شبه
جزيرة العرب في مستقبل الأيام إذا اتصلت باليمن، فقد انتهى منها الآن قسم عظيم
وبلغت المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام. وقد افتتح هذا الخط باحتفال
عظيم في شهر أغسطس الماضي، والأدوات التي تلزم لإتمام الخط إلى مكة البالغ
ثمنها نحو ثلاثِ مائةٍ وخمسين ألف ليرة كلها معدَّة على ما نعلم، وطول الخط من
دمشق الشام إلى المدينة ألف كيلو متر وثلاث مائة وكيلو متر، يضاف إليه الخط
من حيفا إلى درعا وطوله مائة وواحد وستون كيلو مترًا، فيكون مجموع ما تم من
الخط إلى الآن ألفَ كيلو متر وأربعَ مائة وثلاثة وستين كيلو مترًا، بلغت نفقاته
نحو ثلاثة ملايين ليرة عثمانية، وكانت نفقة الكيلو متر الواحد ماعدا آلات السكة
نحو ألف ليرة وثلاث مائة ليرة.
وطول الخط من دمشق إلى مكة ١٧٥١ كيلو مترًا، وطوله إلى جدة ١٨٣٠
كيلو مترًا.
والخط يمر من الشام إلى معان في سهول منبسطة وأراضي خصبة مبثوثة فيها
القرى الآهلة بالسكان، إلا أن حوران أكثر سكانًا وعمرانًا من معان، وربما كانت
أراضي معان أخصب من أراضي حوران.
وأحسن البلاد التي يمر فيها الخط وأجودها هواءً وأعلاها عن سطح البحر هي
عمان، فإنها تعلو عن سطح البحر نحو ١٠٧٤ مترًا، وفيها من الآثار القديمة
والخرائب العظيمة شيء كثير، ومنها الملعب (Amphithéatre) الذي وجدوه
في تلك الخرائب، وخارطة سورية المرسومة على قطعة كبيرة من الحجر (بلاطة)
وهي أعجب وأبدع ما رُئِيَ في أطلال عمان وخرائبها.
وسكان معان وعمان أكثرهم من عرب البادية، ويشتغل قليل منهم بالزراعة،
وفي معان بعض قرى لمهاجري القفقاس. ولو نشط العربان الذين في تلك الديار إلى
الاعتمال في الأرض ونشر الإصلاح جناحه على تلك الديار لكانت من أغنى البلاد
السورية وأكثرها غلة وأجملها بقاعًا. ولقد هم كثير من الناس بابتياع الأراضي التي
على جانبي الخط من الحكومة في معان وعمان لإحياء مواتها واستغلالها، فأبت
عليهم ذلك، لصدور إرادة سلطانية تقضي بالمنع، على أمل أن تضم تلك الأراضي
الفسيحة إلى الجفالك (المزارع) السلطانية أو يستأثر بها أفراد من المقربين، ولم
يكن شيء من ذلك إلى الآن. فنرجو أن توفق الحكومة الحاضرة لإطلاق يد الناس
في استعمار تلك البلاد، بحيث لا تباع أرض إلا على شرط إصلاحها واستثمارها
في بُرْهَة سنتين أو ثلاث سنين، وإذا مضت المدّة ولم تصلح الأرض وتستثمر ساغ
للحكومة استردادها. وفي يقيننا أن كثيرًا من أغنياء البلاد السورية يتقدمون إلى
إصلاح تلك الأراضي وإحيائها متى انتظمت أمور السكة الحديدية وانصرفت همة
الحكومة إلى عمران تلك الجهات ورفع راية الراحة والعدل والأمان على ربوعها.
ومحطة عمان الآن هي من المحطات العظيمة في هذه الطريق، وفيها معمل
(ورشة) لإصلاح القواطر ومخازن للسكة الحديدية، ويليها في العظم محطة تبوك
والأراضي التي بعد عمان ومعان إلى المدينة ليست خصبة، بل هي صحارٍ وقفار
إلا العلا، فإنها قرية عامرة ذات ينابيع وأشجار وحدائق تزرع فيها أنواع البقول
والفاكهة والنخيل، وتجود في أرضها فواكه البلاد الحارة كالنخيل والموز والليمون،
وأهلها بارعون في فن الزراعة؛ لأن أكثرهم يذهبون إلى دمشق ويزاولون فن
الزراعة عملاً في غوطتها، ولا سيما في قرية جوبر المشهور أهلها بالبراعة في فن
الزراعة، ثم يعودون إلى بلدهم لأجل الاعتمال في الأرض. ولقد كان بعد المسافة
بينهم وبين الشام يمنعهم من التوسع في إنشاء الحدائق والإكثار من زرع أنواع
الفواكه والبقول والاتجار بها، وأما الآن فالأمر ليس كذلك، ولو اعتنى أهل هذه
القرية بزرع النخيل والموز واستكثروا من الجيد منهما لانتفعوا بذلك كثيرًا، لأن
دمشق محرومة من هذين الصنفين من الفاكهة، لأن جوها لا يناسبهما في الشتاء
لشدة البرد والصقيع.
هذا ومن الضروري أن يمد ناشط من هذه السكة الحديدية من معان إلى العقبة،
وطول هذا الخط نحو ٩٠ كيلو مترًا، أو من المدور، وهو أقصر مسافة من ذاك،
لأن هذا الفرع يفيد الدولة من الوجهة العسكرية جدًّا، ريثما يصل الخط إلى اليمن.
وكل من رأى خط السكة الحجازية لا يسعه إلا شكر القائمين بالعمل فيه كمسير
باشا ومختار بك وباقي المهندسين والعمال، ولا سيما المشير كاظم باشا رئيس
إنشاء الخط الذي بذل من الهمة في إنجازه والعناية في شأنه ما لا يستكثر على رجل
عظيم مثله، وإنا لنرجو بعد توليه منصب الولاية في الحجاز أن يساعد على إتمام
هذا الخط ووصوله إلى مكة ثم اليمن بما في إمكانه ليكون شكر الأمة له مضاعفًا
جزاه الله وكل العاملين لإنجاز هذا الخط خير الجزاء.