للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي


الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*]
(٣)

(تفنن المابين في أكل الرشَى ومنح الرتب والأوسمة)
كان لرجال المابين في الارتكاب وسوء الاستعمال ظرف ورقة وتورية بديعة،
فلما أنشئ قضاء (بئر السبع) في تيه بني إسرائيل، وعين له قائمقام في الآستانة،
قال له دولة الناظر حسبما أفاد: (بالطه كيرماش اورمانه كوندر يورم) أي إني
أرسلك إلى غابة لم تدخلها بلطة الحطاب. فذهب وحطب في الناس حتى عزل،
وأخذ تحت المحاكمة، ثم عين في محل آخر. وهذا مثال من ألف بل آلاف أمثلة
للارتكاب الذي أفسد أخلاق الأمة وأخرها عن اللحاق بالأمم المتمدنة، ويروي عنه
الناس نوادر عجيبة وأساطير غريبة تحتاج إلى الجمع في كتاب أو الإفراغ في قالب
قصصي، وبعد أن كان تعيين الموظفين يكون بطلب الباب العالي والنظارات،
صار التعيين وتوجيه الرتب من المابين مباشرة!
تهافت الناس على احتجان الرتب مع لقب بك، الذي لا وجود له في الحقيقة
بين الألقاب الرسمية، كوجود لقب باشا مثلاً، وإنما اشتهر فريق باسم بك، وفريق
باسم أفندي، فكانوا عند توجيه الرتبة ينظرون إذا كان الاسم مقرونًا بلقب بك،
صدرت الإرادة السنية بموجبه ونشرت في التوجيهات الرسمية، فصار بائعو الرتب
يتعمدون وضع لقب في الطلب، لتصدر بموجبه الإرادة السنية وتنشر في القسم
الرسمي من الجرائد، فتتناقلها الجرائد العربية وتقول وجهت الرتبة الفلانية مع لقب
بك، لتوهم القارئ أن لقب بك توجيه جديد، كلقب كونت أو مركيز عند الإفرنج،
وامتلأت دوائر الآستانة بالموظفين، بلا تمييز في جدارتهم واستحقاقهم واضطلاعهم
بالعمل الذي هم فيه، ولم يكن الغرض من التعيين التحري على موظف قادر على
إيفاء الوظيفة حقها من العمل، بل إيجاد وظيفة وعمل للمقربين والملتمس لهم أو
للذين يُخْشَى بأسهم! ! فزاد عدد الأعضاء في شورى الدولة عن المائتين، ونظامهم
أن يكونوا سبعة وثلاثين عضوًا، وكذلك مجلس المعارف ومجلس التفتيش والمعاينة
الضاغط على حرية نشر الكتب وإدخالها، وهو الذي محا من كتب اللغة كلمات
كثيرة مثل: حرية، وطن، اختلال، انقلاب، جمعية، رشاد... كما غيرت أسماء
الموظفين من عبد الحميد وسلطاني ونحو ذلك إلى أسماء أُخَرَ، وبعضها حرفت
وكتبت سلتاني، وامتلأت نظارة المعارف بالموظفين حتى قال ناظرها الأخير لما
عرضوا عليه الميزانية: لولا وجودُ معاشات المعلمين لأمكنني وضع الموازنة! !
فكانت معاشات المعلمين تضايقهم وهم يريدون حصر المعاشات بالموظفين من
الرؤساء والأعضاء والكتاب والمفتشين، وزاد عدد أعضاء الجمعية الرسومية عن
ثمانين عضوًا، وكذلك مجلس المالية والأوقاف والعسكرية والبحرية وغير ذلك من
أنواع المجالس ودوائر الحكومة والمعية الشاهانية، حتى ضاقت المجالس والأقلام
بالموظفين وصار أكثرهم لا يجد له كرسيًّا للجلوس عليه! ! وكانوا يأخذون رواتبهم
وهم نائمون في بيوتهم.
* * *
(اختلال المالية وإرهاق الفلاح)
اختلت الموازنة المالية اختلالاً عظيمًا أدَّى بها إلى حجز نحو نصف رواتب
الموظفين والعساكر ومخصصاتهم في كل سنة، واستفحل الظلم في جباية الأموال
الأميرية وطرح الأعشار وتحصيل رسوم الأغنام، وتسابق الموظفون إلى المزاودة
بأعشار الأقضية والألوية، وعدوا ذلك فضيلة وسببًا مشروعًا للمكافأة والترقي،
والمكلفون من الزراع والفلاحين يئنون تحت أثقال هذه التكاليف والمظالم ولا ناصر
لهم ولا مفكر في شئونهم، وقَلَّمَا كان يمر على القرية شهر من دون أن يأتيها
المعشرون وجباة الأموال الأميرية ونصيب المعارف ومصرف (بنك) الزراعة
وإدارة الرسوم الستة، أي الديون العمومية والإعانات المختلفة، وكان الظلمُ أشدَّ
على المسلمين منه على المسيحيين الذين كانوا يحتمون بأديارهم وبرؤسائهم
الروحيين، ولقد سمعت كثيرًا من الفلاحين أنهم اضطروا إلى بيع أراضيهم وتزويج
بناتهم ليأخذوا صداقهن ويعطوا للجباة ما يطالبونهم به من الأموال الأميرية! !
فصار الفلاح يتجنب زراعة الأرض إلا بقدر حاجته الضرورية. ومن القواعد التي
قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين: (إن الأراضي يقل
إيرادها بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها) ، فإذا كان الفلاح حرًّا عمر
الأرض المَوَات وجعلها خصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه
الخصبة مواتًا بسبب الظلم والاستبداد. وعليه فإن ما نشاهده اليوم في أوربا من
العمران إنما هو نتيجة الحرية، فحيثما توجهت فيها لا ترى إلا مروجًا نضرة
وأشجارًا وكرومًا مخضرة وأنهارًا جارية، كأنها بستان عظيم ليس فيه قطعة أرض
خراب.
وصار رجال المابين يحرضون الولاة والمتصرفين على الإسراع بتحصيل
الأموال والبعث بها إلى الآستانة، وكان القائمون بأدائها لا يدرون أين تنفق وكيف
تصرف، لعدم نشر الموازنة المالية (Budget) ، بخلاف إدارة الديون العمومية
التي هي تحت مراقبة الأجانب، فإنها في غاية الانتظام والترقي، تزيد وارداتها في
كل سنة فتدفع رواتب موظفيها ومرتبات الديون بأوقاتها المعينة، وقد حدا ذلك الدولة
إلى العود إلى الثقة المالية بها، وأصبح أصحاب الديون في أوربا آمنين على
أموالهم، ولو حدثت قلاقل في المملكة العثمانية، فإن قيمة أسهم الديون لا تتنزل إلا
قليلاً، وإذا أردت المقايسة بين إدارة الديون العمومية وبين نظارة المالية، فانظر
إلى قرية من قرى الألمان أو اليهود المستعمرين في سوريا وفلسطين، وما فيها من
الانتظام والعمران والترقي، وإلى قرى الأهالي المجاورة لها وما فيها من الفقر
المدقع والخراب - يتضح لك الفرق بين الإدارتين.
* * *
(اختلال الإدارة العسكرية بإدارة الجواسيس لها)
اختلت إدارة العساكر البرية والبحرية، وأصبحت لا تمرن على التعليم الناري
وإصابة الهدف، ولا تساق سوق الجيش خوفًا من الهيجان وحدوث الانقلاب! ! مع
أن دول أوربا ولا سِيَّمَا ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا تقوم جيوشهن في كل سنة
بمناورات حربية، يحضرها الإمبراطور نفسه مع أولاده وأسرته وجميع ضباط
السفارات الأجنبية، فيستطلعون أحوال الجند ويشوقونهم. وصار الأسطول العثماني
الذي أنفق على شرائه الملايين كالْمُقْعَدِ الذي يَرُومُ النهوضَ ولا يَقْدِرُ عليه لطول
مكثه، فصدأت آلاته بسبب عدم الاستعمال والجري في البحار، واختلست أموال
كثيرة من التجهيزات العسكرية، ولا سِيَّمَا في تجهيز الأسطول وشراء البواخر
والمدرعات، وصار الترقي في المراتب لا يبنى على القدم والاضطلاع والاستحقاق،
بل على الالتماس والانتساب والرشوة، فكان الضابط يرتقي إلى المراتب الكثيرة
في أوجز مدة، وقد يكون لا يعرف للجندية مَعْنًى، حتى ولا احترام من فوقه في
الرتبة، وكان الضباط يبيعون رواتبهم التي تبقى دينًا عند الحكومة للسماسرة بأثمان
بَخْسَة، حتى بِيعَتِ المِائَة قرش بأربعة قروش! وَبِيعَ حُلَّة (بدلة) العسكري التي
تشتريها الدولة بمئات من القروش بعشرين قرشًا.. أي أن المستحق للراتب والحلة
كان يوقع على الورقة المؤذنة بالوصول إليه على القاعدة والأصول، كأنه استلم
الحلة من مخزن الألبسة أو قبض الراتب من صندوق الخزانة! ثم يسلمها للسمسار
فيعطيه هذا في مقابلها ما يتفقان عليه، ثم يتفق السمسار مع المحاسبة جي ومن فوقه
ويربحون الفرق، ويقيدون ذلك في الدفاتر (إيراد ومصرف) ، كأنها جرت على
القاعدة والأصول. وبهذا أصبح الضباط في حالة يرثى لها. وكنت ترى ضباط
البحرية، البالغ عددهم نحو ستة آلاف، في قهوات الآستانة، خلوا من العمل،
يتجولون في شوارعها وحاراتها! !
اشتبهت الإدارة المستبدة في أمراء العسكرية الذين تعلموا في أوربا، وخدموا
الأمة والوطن وصارت لهم ملكة ومعرفة تامة بأحوال الزمان، فأبعدتهم عن الآستانة
وأشغلتهم بالوظائف الثانوية، بداعي ميلهم إلى الأفكار الحرة وإعادة القانون الأساسي
ولقد بلغ عدد الراجعين منهم إلى الآستانة بعد حدوث الانقلاب ستين شخصًا من
الباشوات وأمراء العسكرية، وخمس مائة ضابط، ومنهم رجب باشا وفؤاد باشا
الشهير وناظم باشا وهو صِهْر عالي باشا. وأصبحت قيادة العساكر وإدارة المدارس
العسكرية بأيدي أناس لا كفاءة لهم، وليس لهم عمل إلا التجسس على أصحاب
الأفكار النيرة، وإبعادهم عن مركز الإدارة، وكانوا يعدون ذلك خدمة لمنافع السلطنة
والمحافظة على الخلافة الإسلامية! ! ! فأصبح للتجسس والمراقبة دائرة من أعظم
دوائر الدولة، لها مراكز وشعب كثيرة ومعاشات وافرة غير الإحسانات والإنعامات! !
فكان الجواسيس ينظمون التقارير في كل حادثة ومسألة صغيرة كانت أو كبيرة،
ويختلقون المسائل ويفترونها ويصورونها في قوالب مستحيلة، ينبذها العقل ويأباها
أولو النظر الصحيح والوجدان السليم، وما ذلك إلا لإظهار خدمهم وإثبات تيقظهم
ومغالبتهم لنيل المكافأة، والمابين لا يَكلّ من تحقيق مضمون هذه التقارير، لعله يجد
في مائة كاذبة واحدًا صحيحًا، فإذا قالوا: (فلان له قصد سَيِّئٌ بالخليفة) ، أو:
(له مخابرة مع حزب تركيا الفتاة) ، أو: (عنده أوراق ضارة) كانت كل واحدة من
هذه التهم كافيةً للدمور على منزله وتفتيش أوراقه، وهتك حرمته، ثم نفيه أو حبسه
أو عزله وإبعاده، فكانت شبههم هذه تدور على حدوث المؤامرة ضد الذات الملوكية
والمس بحقوق الخلافة الإسلامية، على أنهم لم يتخذوا في الحقيقة سياسةً إسلاميةً،
وهي المعبر عنها عند الإفرنج بقولهم (بان إسلاميزم Panislamisme) كما
توجد سياسة سلافية (بان سلافيزم Panslavisme) وسياسة جرمانية (بان
جرمانيزم Pangermanisme) ، ولا تجد في دوائر الدولة كلها قلمًا مخصوصًا
للمصالح الإسلامية، كما يوجد في باريس وبرلين وبطرسبرج أقلام ودوائر خاصة
بدرس المسائل الإسلامية درسًا تاريخيًّا علميًّا للوقوف على أفكار المسلمين وهيئتهم
الاجتماعية، وعلى أحوال العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، ليكون
الوزراء والموظفون على بصيرة ويقين من حقائق هذه المسائل الحيوية الاجتماعية.
فقصدهم من السياسة الإسلامية إنما هو أكل الحيات والتظاهر بالكرامات والتكبر
على الناس والتشبه ببني العباس.
لم تباشر الحكومة أمرًا جديًّا لعمران البلاد، واستخراج ثروتها الطبيعية،
والسير بها في معارج التمدن والرفاه، وتعليم رعاياها أصول الزراعة والتجارة
وعقد الشركات والتعاون على ما فيه نفع البلاد، بل عاكست جميع المشروعات
الوطنية، فكانت لا تمكن من فتح المدارس الخصوصية أو تعليم الأولاد، ولا سِيَّمَا
المسلمين في المدارس والبلاد الأجنبية، وحظرت تأسيس الجمعيات، وأطفأت حمية
أرباب الهمم، تذرعًا بأنها تؤدي إلى الثورة والانقلاب! فكم نظر الولاة
والمتصرفون شزرًا إلى مدرسة وطنية أسسها الفرد، أو إلى مدرسة سلطانية أسستها
الجماعة، أو إلى شركة صناعية أو مالية عقدها الأهالي، وسرعان ما كانت تتعطل
ويمحى أثرها، وكم منعوا الآباء من إرسال أولادهم إلى المدارس الأجنبية، أو إلى
مدارس أوربا، وكم اضطهدوهم من أجل ذلك! !
ليس ما أجرته الحكومة من مد بعض الخطوط الحديدية، وإصلاح المرافئ
التجارية، وتطهير المستنقعات إلا إجابةً لطلب الشركات الأوربية، وتوسط بعض
المتنفذين للاستحصال على امتيازاتها، والاستفادة بما يعود عليهم بسببها من المنافع
الشخصية، فمنح الامتياز كان من قبيل الإنعام والإحسان لا يكاد يتم لصاحبه،
ويأخذ به الفرمان السلطاني حتى يبيعَه لشركة أجنبية، ويربحَ منه الملايين، فيوزع
نصفها على الذين كانوا عونًا له في الحصول على الامتياز، ويُبْقِي النصفَ الآخر
ربحًا صافيًا له في مقابل أتعابه بالذهاب من المابين إلى نظارة النافعة (الأشغال)
والصدارة، وملاحظة الخدم والكتاب والتقرب بهم إلى كبير القلم أو الدائرة، وكل
زيارة تحتاج إلى إكرام و (شوفة خاطر) ! !
روى لي أحدُهم عن بعض النظار أنه أوقف ختم مضبطة امتياز في مد سكة
حديدية كبيرة على أخذ أربعين ألف ليرة عثمانية، وأنه لم يقبل أخذ حوالة على
المصرف (البنك) ، أو قوائم نقدية خوفًا من ظهور الارتكاب، واشترط أن يكون
ذهبًا عينًا! قال الراوي: فجاءوا بالمال، وصفوه على منضدة كبيرة مرخمة عمدًا
عمدًا، وكان عدد كل عمود خمسين ليرة، فكان ذلك ثمان مائة عمود مصفوفة
صفوفًا متوازية ملزوزة، وللأصفر الرنان فوق الرخام منظر عجيب، فلما تم العَدّ
والحساب قال دولة الناظر - وكان مستلقيًا على فراش الموت (تماممي؟) يريد
هل العدد تام، فقيل له: نعم يا سيدي تام، فأخرج الختم من كيسه المعلق في عنقه
وختم المضبطة، ثم تُوُفِّيَ بعد ثلاثة أيام، فكانت آخر ملذاته من نعيم الدنيا! !
ولذلك كان فريق من الكبراء والموظفين يتمتع بالقناطير المقنطرة من الذهب،
ويقبض رواتبه سلفًا، وَوَيْلٌ لعمال الخزانة إن لم يدفعوها - وفريق يتضوّر جوعًا
وهو ينتظر رواتبه المتراكمة دينًا عند الحكومة من سبعة وثمانية أشهر في السنة،
وهي التي يعول عليها في الإنفاق على نفسه وعياله النفقة الضرورية، وكان ضباط
العساكر مظلومين أكثر من سواهم، فكانت رواتبهم وتعييناتهم - على قلتها - لا
تعطى لهم، وليس تحت أيديهم أموال ينهبونها أو رعية يرتشون منها، ولقد كان
ذلك من أعظم أسباب الانقلاب، قال فيكتور هوكو: (إن الجوع يثقب في قلب
الإنسان ثقبًا ويملؤه حقدًا) .
* * *
(سقوط هيبة الحكومة في بلادها وفي الخارج)
إن اختلال الإدارة وتذبذبها لم يُبْقِ للحكومة قاعدة مطردة ولا أصولاً مرعية،
لا في سياستها الداخلية ولا الخارجية، وإنما أصبحت ذات قواعد مختلفة وسياسات
شتّى بعضها يناقض بعضها، فكانت تمحو في الغد ما أثبتته في الأمس، وربما
غيرت سياستها مرتين في اليوم بحَسَب الأشخاص والوقائع، ولهذا سقط اعتبارها
عند الدول الأجنبية، فتجرأن على تهديدها حتى في المسائل الحقيرة، كمسألة توبني
دلوراندو التي أوجبت خروج الأسطول الفرنسي إلى جزيرة مدللي (متللين) ،
فصرخ إذ ذاك مارسل سامبا زعيم الاشتراكيين في مجلس النواب الفرنسي، قائلاً:
ما هذه السياسة الخرقاء؟ إنكم لم تحركوا ساكنًا في المذابح الأرمنية، ولم تتداخلوا
فيما توجب معاهدة برلين المداخلة فيه من طلب الإصلاح وإجراء العدالة الإنسانية،
والآن تتكبدون النفقات بإحراق فحم الأمة، وإرسال الأسطول لحماية نفرين من
المرابين أقرضوا أموالهم، على أن يكون ربحهم عشرين وثلاثين في المائة، حتى
أصبح ما يطلب لهم عين السُّحْت! وسقط اعتبارها أيضًا في نظر رعاياها، وصار
أكثر الموجودين منهم في الديار الأجنبية يأنفون أن يكونوا من رعيتها، فكانوا
يبتعدون بقدر الإمكان عن سفارات الدولة وقنصلياتها، وبعضهم استبدل التابعية
الأجنبية بالتابعية العثمانية.
كان أرباب الحمية والغيرة الوطنية من العثمانيين ينظرون إلى هذه الأحوال
بعيون الأسف والاستياء، ويعتقدون أن مصدرها الوحيد هو الاستبداد، ولا تخلص
منه إلا بتعليم الأمة وتنوير ذهنها، والرجوع في الأحكام إلى الدستور المنسوب
لمدحت باشا، وإن لم يكن كله من بنات أفكاره. فكان الاستبداد ضاغطًا على جميع
أفراد الأمة إذا لم يقتصر بضغطه على ضعفائها وأحرارها وحزب تركيا الفتاة فقط،
بل شمل جميع أفراد خاندان آل عثمان وجميع المقربين من رجال الدولة، الذين
أفنوا أعمارهم في تأييد دور الاستبداد، وجمع الأموال والوزراء والموظفين كافة،
وجميع الأهالي ولا سِيَّمَا في الآستانة، حيث بطلت الأفراح والجمعيات المشروعة
لعقد النكاح أو للختان، وحرم على الناس الاجتماع للسمر والحديث، كل ذلك خوفًا
من الانقلاب، وصار لا يؤذن لأحد بالذهاب إلى أوربا، ولو كان مريضًا، كما أنه
لا يؤذن للضباط بالتوجه إلى الآستانة أو المرور بها، وصار كبار الموظفين لا بُدَّ
لهم من إذن مخصوص وإرادة سنية لحركاتهم الشخصية وأفعالهم البيتية، حتى زواج
بناتهم وأولادهم! ! !
دخلت يومًا على السيد جمال الدين الأفغاني وهو في قصر لطيف على بابه
الخدم، وكانت تأتيه مائدة من (المطبخ العامر) ، فقال: أية فائدة من هذا القصر
والخدم والمائدة وأنا إذا اشتهيت أكلة بفتك (شواء) أو نشر فكر في جريدة، أو
التنزه في ناحية من المدينة لا أستطيع. أيهنأ عيش الإنسان بغير الحرية!
ولهذا فر إلى باريس الداماد محمود جلال الدين باشا وابناه الأمير صباح الدين
بك والأمير لطف الله بك، وفر إلى مصر أحمد جلال الدين باشا رئيس الجواسيس،
وكثيرون غيرهم.
* * *
(اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية)
شكلت جمعية الانقلاب الأرمنية بعد مذابح ساسون المتقدم ذكرها فرقة من
الثائرين هجموا على البنك العثماني في الآستانة، وألقوا فيه القنابل سنة ١٨٩٦؛
ليلفتوا بذلك نظر الحكومة العثمانية والدول الأوربية إلى وجوب القيام بالإصلاحات،
وإعطاء الحرية، وتعميم المساواة بين جميع الأهالي بلا فرق في الدين والجنس، ثم
ألفوا لجانًا (Comités) كثيرة أهمها لجنة سيروب التي قاومت ست سنوات في
جبال ساسون، ثم حولت الجمعية نظرها إلى جهة قافقاسيا (القوقاز) الروسية
بسبب اضطهاد أميرها البرنس غالينزين للأرمن التابعين لروسيا وتسليط التتر
المسلمين عليهم، مما أدى إلى حدوث مذابح باكو وفظائعها وعدة وقائع ومقاتلات،
وتصدي الثوار لقتل الرؤساء والقواد والأمراء والضباط الذين سببوا المذابح، وكان
قتل كل واحد منهم يكلف الجمعية الأموال والنفوس، فقتل بليف مثلاً سبب هلاك
أربعة من أعضاء الجمعية وصرف مائتي ألف فرنك، وكذلك إلقاء القنبلة في موكب
صلاة الجمعة أمام سراي يلديز فإنه كلفهم خسائر جسيمة، فعدلت الجمعية الأرمنية
بعد ذلك عن هذه الحركات، ومالت إلى الاتفاق مع تركيا الفتاة فعقدت مؤتمرًا في
ويانة حضره جماعة من الترك والأرمن والمقدونيين والروم والكرد والعرب واليهود
والأرناءوط، وكان الشارع في عقد هذا المؤتمر معلوميان أفندي الأرمني الشهير،
وقد تم اتفاقهم فيه على المسائل الآتية:
(١) قلب الحكومة الحاضرة، والسعي في تحقيق ذلك بجميع الوسائل.
(٢) تأسيس حكومة مقيدة دستورية لجميع رعايا المملكة العثمانية.
(٣) استعمال جميع الوسائل الانقلابية لتحقيق هذا المقصد؛ وذلك لأن
الحكومة المستبدة استعملت جميع الوسائل لخراب المملكة، وإطفاء نور العلم
والحرية، فأقفلت المدارس وحبست المعلمين ونفت التلاميذ، وإن الأماكن التي بقي
فيها شيء من المدارس أنقصت التعليم فيها بإيجاد مراقبة لم يسبق لها مثيل.
وصارت الجرائد لا تنشر من الأخبار إلا ما يؤذن لها بنشره بعد التحريف
والتغيير أو الاختراع من جانب المراقب. وصارت التكاليف المستوفاة بلا
عدالة لا تصرف على التعليم أو التبسط في الحضارة والعمران، بل على
الجواسيس والجرائد المؤيدة للظلمة المحبذة لأعمالهم، ولا سِيَّمَا في البلاد الأجنبية،
وذلك لإيهام الناس ومخادعة أوربا عن أحوال الممالك العثمانية. فمَنْع العثمانيين من التجول والسفر، ومنعهم من أخذ تذاكر الجواز (port - Passes) أوجبا تعطيل التجارة، كما أن استيفاء التكاليف الأميرية بطريقة غير عادلة وفقدان الأمن في البلاد، وتراكم المحصولات، وكثرة المراباة، وفقدان وسائل الاختلاط، كل ذلك كان سببًا قويًّا في خراب الزراعة. فأصبحت البلاد التي كانت مزرعة الدنيا في عهد المدنيات السابقة خرابًا، وأراضيها قفرًا بلقعًا، حتى هاجر منها أهلها الذين ولدوا فيها، إلى أمريكا وأوربا ومستعمرات إفريقيا ليفتشوا لهم عن قليل من
الحرية والأمن وأسباب المعيشة، فالمهاجرة والقحط أكملا العمل الذي بدئ بالمذابح وأنتج الخراب للبلاد، وخلوها من السكان. فلجميع ما ذكر من الأسباب أصبح
الانقلاب السياسي ضروريًّا لمنع انقراض المملكة العثمانية ولتوقيف انحطاطها. تلك خلاصة المذاكرات والمناقشات التي جرت في المؤتمر.
* * *
(نهضة جمعية الاتحاد والترقي وانتشارها)
وأما فرع جمعية الاتحاد والترقي العثمانية في أوربا، فإنه حدث الاختلاف فيه
على الرياسة، فانقسم إلى أحزاب وفارقه الكثيرون من أعضائه، ولكن صاحب
جريدة مشورت بقي ثابتًا، يتوفر على إصدار جريدته في أوقاتها وغيرها من
المنشورات، وكان الدكتور نظمي بك السلانيكي الأصل وغيره من ذوي الغيرة
الوطنية من خير الأعوان له، وقبل حدوث الانقلاب بأربع سنين كانت جمعية
الاتحاد والترقي العثمانية ضعيفة عاجزة في حكم العدم، ولذلك لم يعبأ بها أرباب
السياسة، ولم يعتدوا بأن لتركيا الفتاة حزبًا موجودًا، بل كانوا يرون أن هناك بعض
المتشردين ينشرون أوراقًا قليلة الجدوى لتخويف المابين، ونيل الوظائف
والإحسان، وكانوا يعدون أحمد رضا بك معاندًا مُصِرًّا على طلبه لتخليد اسمه
بين الفلاسفة الحقيقيين، مفضلاً ذلك على حطام هذه الدنيا الفانية.
تداخلت الدول الأوربية منذ أربع سنين في المسألة المكدونية، أي في ولايات
سلانيك، وقوصوه، ومناستر، وطلبوا إصلاحها، فزال منها بعض الظلم،
وتحسنت إدارتها؛ تحقيقًا لرغبة أوربا وخوفًا من مداخلتها، وسمحوا لأهالي تلك
الولايات بقليل من الحرية، فنفسوا بها عن صدورهم، ونظروا في شئونهم. وكانت
البلغار والروم تشكل الجمعيات السرية السياسية المعروفة باسم كوميته (Comité)
فسموا الداخل فيها (كوميته جي) بإضافة أداة النسبة التركية إلى كلمة كوميته
الإفرنجية؛ للمحافظة على قوميتهم وحقوقهم وأوضاعهم، وكانوا يبذلون أرواحهم
وأموالهم في سبيلها، ويظهرون من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا يقدر ولا يوصف
وكانت الحكومة المحلية تهابهم وتلاطفهم وتستميح رضاهم، فعزَّ ذلك على
المسلمين من الترك والأرناؤوط سكان تلك الولايات، واعتبروا بإخوانهم في الممالك
البلقانية المستقلة استقلالاً كليًّا أو جزئيًّا، كرومانيا والصرب والجبل الأسود
واليونان والبلغار والبوسنة والهرسك، فاستيقظوا من نومهم وأفاقوا من غفلتهم،
وقالوا: إلى متى نبقى في هذا الظلم والاعتساف والجور والاستبداد والذل والتحقير؟
ولا يقيم على ضيم يراد بهِ ... إلا الأذلاَّن عير الحي والوتد
ما لنا لا نفعل كالروم والبلغار والرومان والصرب في محبة الوطن والدفاع
عنه؟ ولما سألوا مشايخهم عن ذلك أجابوهم بأن الإسلام يساعد ويحض على ذلك،
ووجدوا أمامهم تعليمات جمعية الاتحاد والترقي، فدخلوا فيها باختيار وشوق وحمية،
عارفين بما ينتجه فعلهم من الفوائد المادية والمعنوية، فتشكل لهذه الجمعية مركز
في سلانيك، وفروع عديدة في جميع جهات الولايات الثلاث المقدونية، ولقد بلغ
عدد أعضاء الجمعية في سلانيك وحدها سبعة آلاف شخص، والجواسيس غافلون لا
يدرون من أمرهم شيئًا، وكان جمهور الأهالي في الولايات الثلاث المذكورة يعتقدون
بأنه سيصيب بلادهم ما أصاب كريد وولاية الروملي الشرقية والبوسنه والهرسك ...
إلخ، ولذلك كانوا في الباطن يتمنون نجاح الجمعية، وإن لم يقدروا على التظاهر
بذلك.
* * *
(الأمير صباح الدين وسياسته)
أكب الأمير صباح الدين على تحصيل العلم، ولا سِيَّمَا بعد وفاة والده فاستنار
فكره، وجنح للحرية، والأخذ بوسائل المدنية الحديثة، فأسس حزبًا سياسيًّا يعرف
بحزب (المشروطية وعدم المركزية مع التشبث الشخصي) ، ولسان حال الحزب
جريدة (ترقي) التركية، وقد تأسست سنة ١٩٠٦ ومحررها هو أحمد فضلي بك،
كاتب الجمعية. فعدم المركزية (Décentralisation) يقسم إلى قسمين، عدم
مركزية سياسية، مثل مستعمرة كندا الأمريكية مع إنكلترا. وعدم مركزية إدارية،
وهو عبارة عن توسيع اختصاص الولايات، وتزييد حريتها وانتخاب المجالس
العمومية فيها، كما أشير إليه في المادة (١٠٨) من القانون الأساسي، وجرى
تطبيقه قبلاً، فتشكل لولايات الشام مع فلسطين مجلس عمومي اجتمع مرة واحدة في
بيروت، وكان ذلك في أيام ولاية راشد باشا، الذي صار بعد ذلك ناظرًا للخارجية،
وقتل في واقعة جركس حسن بك. فمُرادُ البرنسِ صباح الدين بك بعدم المركزية،
هو عدم المركزية الإدارية، كما صرح به لا عدم المركزية السياسية الذي هو عبارة
عن مختارية الإدارة مثل حكومة كندا.
ومرادهم بالتشبث الشخصي أن لا تكون الأهالي عالة على حكومتهم، بل أن
يسلكوا سبل التجارة والصناعة والزراعة في أمر معايشهم، حتى لا يكونوا منتظرين
سبب الرزق من حكومتهم، والانكباب على طلب الوظائف للتعيش منها؛ لأن السنة
في الحكومات المستبدة أن ينتظر الأولاد دائمًا الإعانة من أسرهم، والأسر من
أرباب مجالسهم، وأرباب المجالس من حكومتهم. ولكن الأمم الأنكلوسكسونية بعكس
ذلك، فإن أولادهم يعتمدون في تحصيل الثروة على أنفسهم، ويختارون الصناعة
اللائقة بهم. فهذه خلاصة أفكار هذا الحزب السياسي.
* * *
(نهاية الفساد والخراب في أحوال الدولة)
زاد البلاء في السنين الأخيرة وتعسر تدوير دولاب الحكومة مع إجهاد
المأمورين أنفسهم في جره، فحدث في الأذهان كدر من الأمس، وخوف من الغد،
واحتراس من كل إنسان، ويأس من كل شيء، ونفرة زائدة وبغض وحقد كامنان
في النفوس، وعلم المقربون أنهم على وشك الانقراض، فضاق عليهم الوقت
ولزمهم الاستعجال، فتهالكوا على ادخار الأموال واقتناء العقار، وأودع الدهاة منهم
ثروتهم في مصارف أوربا وأمريكا، وتطلبوا أعلى الرتب والمناصب، فنالوها
واستفادوا من الحال الحاضرة بقدر ما أمكنهم. ولم يفكر الواحد منهم إلا بنفسه
وأولاده، ثم بالأقرب فالأقرب من أسرته، واستماتوا في سبيل الوصول إلى السعادة
ونفوذ الكلمة بالتقرب، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها،
ووُجِّهَتْ رتبة أمراء العسكرية ورتبة بالا العلمية على المشايخ ذوي التيجان والعمائم،
ومنحوا الراحة من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم من الرفاعية في جميع
المملكة، فأصبحوا لا ينتظمون في سلكها، فكانت هذه المنحة من غريب التناقض،
وكان إذا انصب الإنعام على فرد أو أسرة انهمل كالغيث المتواصل، وانصب كله
في زرع ذاك الفرد أو الأسرة دون أن يفيض منه شيء على المزارع المجاورة،
ولهذا قال أحد الفضلاء:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ونفس (أبي الضلال) لها فداء
أتحييه وتقتلنا جميعًا ... لعمرك إن ذا لَهُو البلاء
فلا والله ما هذا بعدل ... ولكن أنت تفعل ما تشاء
واحتكروا أوقاف الجوامع ومزارعها؛ بل ضبطوها ضبطًا بلا حكر، وباعوا
امتيازات الأمور النافعة للأجانب، فأضروا الدولة بذلك أضرارًا جمة، وشرهت
نفوسهم للعجب، وتتلَّعَتْ أعناقهم عظمة وكبرياء. وزاد بهم الحرص والطمع حتى
فقدوا جميع المزايا الإنسانية، فصار الواحد منهم كأنه وحش مفترس، ينقلب يوم
سقوطه وإبعاده عن منصب الدولة شيطانًا رجيمًا، كما ظهر من أفعال فهيم باشا،
وهو منفي إلى بروسه، الذي أهلكه الأهالي فيها ضربًا بعد إعلان الحرية.
كنا أشرنا إلى هذه الحالات المنكرة المكدرة، وإلى قرب حدوث الانقلاب في
مقالة عنوانها (حكمة التاريخ) نشرتها جريدة طرابلس الشام في عددها (٥١٧)
الصادر في ١٥ تموز (يوليو) سنة ١٩٠٣ بعد أن بدل المراقب فيها وحرف كما
أراد، ظنًا منه أنها تخفى، وربما خفيت على فطنته ودقت على فهمه، ولكنها عندما
بلغت الآستانة واطلع عليها الملدوغون صدر الأمر بتعطيل الجريدة، فكاد بركان
الاستياء تنفجر منه فوهات في عدة جهات، لأن بقاء الحال على ما ذكر غير ممكن
في القرن العشرين، خصوصًا وأن البلاد العثمانية متوسطة بين أوربا والشرق
الأوسط والأقصى. ومما زاد اختلاطنا بالعالم المتمدن تحديد السكك الحديدية،
وتوارد بواخر الشركات الأجنبية على ثغورنا، ومشاهدتنا صور السينماتوغراف،
وسماعنا أصوات الفونوغراف، وركوبنا الترام الكهربائي والحوافل والدرجات، كل
ذلك كان من دواعي اختلاط الأمم وامتزاجها، وأصبحت المسافة بين الآستانة
وباريس أقلَّ من ستين ساعة بعد أن كانت تقطع في شهور وأعوام.
نمت النابتة الجديدة من الشبان المتعلمين في مدارس الدولة الملكية والعسكرية،
أو في المدارس الأجنبية التي افتتحها الأوربيون والأمريكيون في الشرق رغم منع
الحكومة المسلمين من دخولها، والتضييق عليهم وعلى أوليائهم في ذلك، أو في
المدارس الخصوصية التي أسستها طوائف الروم والأرمن واليهود والبلغار، فتعلمت
النابتة الجديدة من الشبان والبنات اللغات الأجنبية، وطالعوا الجرائد والكتب،
ووقفوا على مواضع الضعف في الدولة، وأدركوا محل الخلل، وصار يتخرج في
كل سنة في هذه المدارس عدد عظيم متشبعون بفكر الحرية، ومتخلقون بالأخلاق
الأوربية والحماسة الوطنية. فكانوا كلهم موضع شبهة أولئك الجهال المستبدين
بالأمر، فضيقوا عليهم واضطهدوا هؤلاء الشبان اضطهادات كثيرة شتى، كالنفي
والحبس والمراقبة ودمور المنازل وتفتيش الأوراق، فكانوا كلهم عرضة لاستبداد
المستبدين.
فلما حدث الانقلاب في ٢٤ تموز (يوليو) وانفجر في سلانيك، وما جاورها
من الولايات بركان الاستياء، كان هؤلاء الشبان وجميع العثمانيين مساعدين
ومعضدين لحزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، ولذلك لم تحصل معارضة
ولا مقاومة من أحد؛ لأن الجميع مستاءون حتى المستبدين أنفسهم، والمستفيدين من
الحالة الماضية والوزراء الذين أودعوا السجن، واسترد منهم ما اغتصبوه من
الأموال؛ لأن كُلاًّ منهم كان يتطلب أكثر مما ناله، ولو لم يحدث الانقلاب بالصورة
التي ظهر فيها لحدث بصورة أخرى بعد تبدل السلطنة، ولَكانَ إذ ذاك مدهشًا دمويًّا.
* * *
(انفجار بركان الحرية وحدوث الانقلاب في ٢٤ تموز)
تسنى لجمعية الاتحاد والترقي العثمانية في سلانيك إخفاء أمر هامدة، ولكن
رائحتها فاحت بعد ذلك لكثرة الداخلين، وصعوبة الكتم والإخفاء، فأحس بها
جواسيس سلانيك وبعثوا بتقاريرهم إلى المابين، فأرسلت الجواسيس من الآستانة،
فقررت الجمعية إعدام الذين ثبت لديها تجسسهم وخيانتهم للوطن، وعينت فدائيين
من أعضائها بالقرعة أو بالتراضي.
وكان القائمقام ناظم بك قومندان مركز سلانيك يبذل مجهوده في كشف أسرار
الجمعية، فذهب إذ ذاك إلى الآستانة لعرض معلوماته، ورجع منها نائلاً ألفي قرشٍ
ضُمّا على راتبه، فزاد اجتهاده وتحريه، وطلب ثانية إلى الآستانة، وبينما كان
على أُهْبَة السفر إذ فُوجِئ بضربة من أحد الضباط، فذهب إلى الآستانة مجروحًا،
وحضر بعد ذلك إلى سلانيك صادق باشا، وماهر باشا وأمير اللواء يوسف باشا
وبعض الياورية، وعدة من موظفي الملكية، ونظموا دفترًا بأسماء كثيرين من
المتهمين بعضوية الجمعية، وحبسوا ونفوا، وألقوا الرعب في قلوب الناس، حتى
كاد اليأس يستولي عليهم، فقام في مناستر صلاح الدين بك قائمقام أركان حرب،
والبيكباشي نيازي بك الأرناؤوطي بتشكيل فرقة من العساكر الوطنية، وذهبوا
لناحية (رسنه) ، وهي في الغرب الشمالي من مدينة مناستر، على مسافة ثلاثين
كيلو مترًا، ولحق بهما كثيرون من الوطنيين وأنور بك البكباشي، صهر ناظم بك
قومندان سلانيك، وكان طلب إلى الآستانة، ووعد بمكافأة كبيرة، ولكنه اختار نفع
وطنه على منفعته الذاتية.
ثم قتل في سلانيك أحد الجواسيس، فقلقت حكومة الآستانة قلقًا عظيمًا،
وطلبت مفتي الألاي مصطفى أفندي لتستفهم منه عن هذه الأحوال، وضمت إلى
معاشه خمس مائة قرش! ! وبينما كان خارجًا من الفندق للسفر إلى الآستانة جرحه
أحد الضباط بحضور جم غفير، وهرب الجارح من دون أن يعارضه أحد من
الحاضرين، ولا أخبروا عن أشكاله وصفاته، فندبت حكومة الآستانة للسفر إلى
(رسنه) الفريق الأول شمسي باشا قومندان (مترويجه) ، فاختار من يعتمد عليهم
من الضباط وتابورًا من العساكر، وحضر على القطار إلى سلانيك، ومنها إلى
مناستر، وذهب توًّا إلى إدارة التلغراف لمخابرة المابين، فخرج عليه أحد الضباط
وقتله، وامتنع من معه من الضباط والعساكر عن الزحف على (رسنه) ومقاتلة
إخوانهم.
ثم قتل على هذا الوجه كثير من الجواسيس الملكيين والعسكريين؛ فقرر
مجلس الوكلاء إرسال ثلاثين ألفًا من عساكر الأناضول. ولما وصل منهم إلى
سلانيك الثلاثة توابير الأُوَل امتنعوا عن مقاتلة إخوانهم، وانضموا إليهم أيضًا،
فأحس المابين بأن سَوْقَ عسكر الأناضول إلى الروملي إنماءٌ لقوة الجمعية، فأوقف
إرسال بقية عساكر الأناضول إلى سلانيك. ثم اجتمع في (فيرزو بك) عشرون ألفًا
من الأرناؤوط، وذهب سبع مائة من رؤسائهم إلى إسكوب لإعلان القانون الأساسي
والحكومة المقيدة.
وفي يوم الخميس ٢٣ تموز (يوليو) سنة ١٩٠٨ خرج الناس في سلانيك
صباحًا، ووجدوا إعلانات مختومة بختم الجمعية، أي جمعية الاتحاد والترقي
العثمانية، تدعوهم إلى الاجتماع في يوم الجمعة لإعلان القانون الأساسي والحرية،
فلم يتمهلوا للغد، بل اجتمعوا في ذلك النهار في ميدان أوليمبوس على الطوار
(الرصيف) في مدينة سلانيك، وضج الجمهور قائلاً: إما الحرية، وإما الموت! !
وأول من خطب على طَنَف (بلكون) فندق (أوليمبوس بلاس) غالب أفندي
بالتركية، ثم مانويل قره صو باليهودية (الأسبانية) ثم روصو أفندي بالفرنسية
وسليمان أفندي بالتركية، وفضلي بك نجيب محرر جريدة (عصر) بالتركية،
وفيلوطاش بابا جورج بالرومية والتركية وترجمان المحكمة المخصوصة
(فوق العادة) بالبلغارية، وفي ختامهم عادل بك رئيس البلدية بالتركية، ثم
هتف الجميع (فليحيا الوطن، فلتحيا الجمعية، فليحيا الجيش، الحرية أو الموت) ،
وأعدوا في تلك الليلة مأدبة ضربت فيها الموسيقى العسكرية على الأنغام
المرسيلية:
[١] Allons enfants de la patrie le jour de gloire est arrivé
وكانت ترجمت بالتركية هكذا: (قالقك أي أهل وطن شان كونلري كلدي) .
وفي ليلة الجمعة وردت رسالة برقية إلى حلمي باشا المفتش العام لولايات
مكدونية بصدور الإرادة السنية بإعادة القانون الأساسي، فاجتمع الناس في سراي
الحكومة، وأعلنت الحرية والقانون الأساسي رسميًّا بحضور المفتش العام ومشير
الفيلق الثاني إبراهيم باشا، وموظفي الحكومة والبلدية وأعضاء الجمعية، وابتدأ
موسم الأفراح والسرور.
* * *
(الخلاصة وأسباب الانقلاب بلا سفك دماء)
حدث الانقلاب العثماني بلا سفك دماء، ولا حصول اضطراب، أو قلاقل في
المملكة، كما حصل عند باقي الأمم من الإنكليز والفرنسيين والأمريكان والمجر
والروس وغيرهم؛ وفي ذلك قال بعض رجال السياسة: (لا تنبت الحرية ما لم
تُسْقَ بالدم) ولذلك أسباب كثيرة منها:
(١) أن الحكومة ليست حكومةً مطلقةً، كما يظنها الناس، ويسميها الإفرنج
(Théocratique) ، وإنما هي مقيدة بأحكام الشرع الشريف الذي يأمر بالشورى،
ويحض عليها كما ذكر في صدر هذه الرسالة. فالانقلاب لم يضيّع حقوق السلطنة
والخلافة كما ضيع انقلاب الفرنسيين وغيرهم حقوق ملوكهم المطلقة المقدسة الإلهية
! ! ! حتى انتصر لها فريق من الناس، وقاتلوا في سبيل استرجاعها، ولم يزالوا
يطالبون بها في هذا القرن العشرين، عصر التمدن والعلم والنور.
(٢) عدم وجود امتيازات لصنف من أصناف الأمة العثمانية، كما يوجد
عند الفرنسيين للأشراف وللرهبان امتيازات وحقوق مشروعة على الأراضي بحسب
عرفهم وشرعهم القديم، ولذلك قاتلوا عليها لما حدث الانقلاب الفرنسي، وحرمهم
من حقهم المشروع على زعمهم واعتقادهم، أما الانقلاب العثماني فلم يضيّع لأحد
حقًّا، فإن الحقوق التي كانت على الأراضي للدره بكوات (دره بكلر [٢] ) المعروفين
عند الإفرنج باسم (Féodalité) وهي في المملكة العثمانية حقوق الزعامة،
ألغيت بعد التنكيل بالإنكشارية في عهد السلطان محمود خان، وأعطي لأصحاب هذه
الحقوق ضمانة ورواتب استوفوها مدة حياتهم، ومنهم من لا يزال في قيد الحياة
ليومنا هذا يستوفي حقه من الخزانة في كل سنة، ووضع أخيرًا قانون الأراضي
الموافق لأحكام الشرع، وهو من أحسن قوانين الدولة وضعًا وترتيبًا، كما هو معلوم
عند طلبة مدارس الحقوق. فالمسلمون لا فرق في الحقوق بين الشريف منهم
والوضيع، وغير المسلمين (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا) . أما الامتيازات التي
وهبها السلطان محمد الفاتح للروم، وأقرهم عليها والامتيازات الأجنبية التي أنعم بها
سلاطين آل عثمان على الأجانب تفضلاً منهم وإحسانًا لا بحرب وغلبة، فسيجري
الإنفاق عليها بصورة حِبِيّة يرضى بها الجميع.
(٣) إن الأفراد الذين عزلوا من وظائفهم وصُودِرَ ما استحوذوا عليه من
الأموال المنقولة وغير المنقولة؛ بسبب ارتكابهم واستبدادهم يعترفون بأنهم ادَّخَرُوا
هذه الأموال الكثيرة من غير الوجوه المشروعة، بل بأكل أموال الأمة والدولة
بالباطل، كما يعترف الأذكياء منهم بمشروعية هذا الانقلاب ولزومه وفائدته، وقد
صرحوا بذلك وأقروا به، فلا يتصور قيامهم للمطالبة بشيء، أو لإعادة الإدارة
السابقة المستبدة، وليس لهم عصبية تساعدهم على ذلك إن هم أرادوا أو حاولوا.
وإن الأمة بأجمعها عرفت الحق من الباطل، والنافع لها من الضار. نعم، إن
الموظفين الذين خدموا مدة، ثم ألغيت وظائفهم، أو عُزِلُوا منها لهم حق في طلب
راتب التقاعد أو التوظيف في وظائف أخرى؛ إذ لا يليق بشرف الأمة أن تلقي على
قارعة الطريق جمًّا غفيرًا قضوا حياتهم في خدمة الإدارة السابقة ولا معاش لهم
ولعيالهم غير ما كانوا ينقدونه من الرواتب، فإن هذا الانقلاب الذي بدأ بالشفقة على
الأهالي المظلومين من شأنه أن يستعمل الشفقة والحنان أيضًا في حق الظالمين، لتتم
سعادة الأمة ولا يلحق بأحد ضرر ولا خسران.
والحاصل أن الفضل في حدوث الانقلاب العثماني من دون سفك دم، ولا
حصول اضطراب وقلاقل في المملكة إنما هو للشريعة الإسلامية، وما في أحكامها
من العدل والمساواة في الحقوق. ولهذا كان رد الفعل أو الرجعة (Réaction)
في هذا الانقلاب غير محتمل، بل هو مستحيل لعدم وجود أسباب معقولة أو
مشروعة تحفز إليه، بخلاف ما حدث في فرنسا وأمثالها، إذ كان للقائمين برد الفعل
أسباب كثيرة تحملهم على القيام لإعادة الإدارة السابقة. اهـ.