للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تنبيهُ الجرائد السورية
إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

إذا كانت تربية الأطفال فنًّا من أدق الفنون، وهو لما يبلغ درجة الكمال على
عناية العلماء والفلاسفة به، فماذا نقول في تربية الأمم؟
يوجد ألوف كثيرة من المربيات والمربين في كل أمة من الأمم المتمدنة.
ولكن الذين يربون الأمم قليلون في كل أمة وكل زمان.
إن للأمم أطوارًا كما أن للأفراد أطوارًا، ولا يحتاج المربي للأفراد في طور
من أطوارهم إلى العلم الواسع، والخبرة الدقيقة، والعناية العظيمة؛ كطور
الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، أو من التقليد والإلزام إلى الرشد والاستقلال، وإن
المربي للأمم يكون عند انتقالها من حكم الاستبداد والعبودية إلى حكم الشورى
والحرية؛ أحوج من مربي الأفراد إلى العلم والخبرة والبصيرة والحكمة.
إن خطباء الأمم والقائمين على تربيتها بالإرشاد والتعليم، وانتقاد الحاكمين
والعاملين هم أصحاب الجرائد، وقد كانت الجرائد العثمانية في مأزق لا تستطيع
فيه حِراكًا، فخرجت إلى مجال فسيح وميدان واسع. ولكن الجولان في هذا المجال
أو الجري في هذا الميدان لا ينبغي إلا للفرسان المهرة، فإن الأرض على رحبها
غير ممهدة، والطرق على سعتها غير معبدة، فأمام من يريد الجولان عواثير
يُخشى عليه من التردي فيها، وعقبات يصعب اقتحامها، وأعلام مشتبهة لا يؤمن
الضلال بينها.
فنون الكلام في الجرائد كثيرة، والانتقاد أدقها مسلكًا، وأصعبها مركبًا،
وأشدها على النفوس وقعًا، وأكثرها ضرًّا ونفعًا، فمن وظائف الجرائد: نقد الحكام
والأحكام، ونقد العمال والأعمال، ونقد العلماء، وكتب العلوم، فلا شيء إلا وهو
معرض لنقدهم. فإن أحسن كتابها النقد كانوا خير العون على الإصلاح، وإن أساءوا
كانوا من عوامل الفساد والإفساد، لا سيّما في مثل الطور الذي دخلت فيه الأمم
العثمانية الآن.
لا يعرف أحد كنه تأثير الجرائد في مثل هذا الطور، كما يعرفه أهل البصيرة
الذين خبروا بأنفسهم أمة كان الاستبداد يسومها سوء العذاب، فانتقلت إلى الحرية
فجأة، ووجد فيها جرائد كثيرة مرخية العنان مطلقة من القيود، ورأوا بأعينهم ما
كان لها من التأثير في تلك الأمة. وإن هذا الوصف ليصدق على بعض العثمانيين
الذين أقاموا في القطر المصري زمنًا طويلاً موجهين عنايتهم إلى اكتناه أحواله
الاجتماعية، فإذا اشتغل هؤلاء بالصحافة العثمانية رجونا أن يفيدوا الأمة جميعًا.
لقد نفعت الجرائد في مصر كثيرًا وأضرت كثيرًا، وأذكر على سبيل العبرة
للجرائد السورية مثالاً من نفعها، ومثالاً من ضررها:
إن للجرائد المصرية أحسن الأثر في النهضة العلمية في القطر المصري،
حيث صار الموسرون يتبارون في دفع ألوف من الجنيهات؛ لإنشاء المدارس،
ويقفون عليها وعلى الجمعيات التي تقوم بإدارتها الأراضي الواسعة ذات الريع
العظيم، وقد كان اشتراك الجمعية الخيرية الإسلامية لا يخرج من كيس الغني الكبير
منهم إلا نكدًا بعد مطالبات كثيرة، وما ذلك الاشتراك إلا جنيهان أو أربعة جنيهات
في العام.
ولم يكن الحث على إنشاء المدارس والدعوة إلى التربية والتعليم غرضًا
خاصًّا لجريدة من تلك الجرائد، ومذهبًا ملتزمًا تدعو إليه وتجعله مدارًا لنهضة الأمة
وسعادتها؛ إلا مجلة المنار التي صرّح في فاتحة العدد الأول منها بهذه الكلمة:
(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) ثم كنا نستطرد من كل موضوع
يكتب فيها إلى الحث على التربية والتعليم، ولا أريد بهذا الاستثناء أن أنيط المنار ما
ذكرت من النهضة العلمية، فأدعي أنه هو روحها الذي به حياتها ونماؤها؛ بل لا
أنكر أن الجرائد اليومية أعم تأثيرًا منه في ذلك، ناهيك بنشرها لأسماء المتبرعين
بما قل أو كثر مع الحمد والثناء. ولو أنها جعلت الدعوة إلى ذلك مذهبًا متبعًا
ومشربًا موردًا لكان النفع أعظم. ولكن شغلتها السياسة عن ذلك وهو أنفع لهم في
سياستهم.
فهل للجرائد العثمانية أن تعتبر بهذا، فتجعل الدعوة إلى التربية والتعليم
ديدنها، والحث على التبرع لذلك وتأسيس الجمعيات لأجله، مذهبها الذي توجه إلى
نشره جل عنايتها؟ فإذا كان للجرائد المصرية العذر في جعل جل همها في السياسة،
فإن جرائد سورية لا نصيب لها من هذا العذر؛ لأنه ليس في بلادها سلطتان
متعارضتان: إحداهما أجنبية؛ بيدها الحل والعقد بالفعل، والأخرى رسمية لها
الاسم وما لا يعارض سياسة الأولى من الفعل، على أننا قد نبهنا أصحاب الجرائد
السورية إلى تقصير الجرائد المصرية في الدعوة إلى التربية والتعليم على الوجه
الذي هو أرجى لتكوين الأمة، وجعلها أمة عزيزة مستقلة في نفسها استقلالاً يفضي
إلى استقلالها في أحكامها وسياستها.
هذا: وأما المثال لضرر الجرائد المصرية؛ فهو طريق انتقادها ولا سيّما
للحكومة، فقد سلك أكثرها فيه مسلكًا أسقط هيبة الحكومة من النفوس، بعد ما كان
لها من هياكل العظمة في كل خيال، وشعور الخشية والبأس في كل قلب، فوثبت
الجرائد بالشعب المصري من طرف إلى طرف، من غير أن تمر به على الوسط أو
ما يقرب من الوسط ٠
ذلك المسلك هو اتهام الحكومة بمشايعة الإنكليز على ما يريدون من السوء
بالبلاد، فكان أولئك الكتاب ينحون بقدحهم وطعنهم على الوزارة (مجلس النظار)
في الجملة وعلى رئيسها وأفرادها وعلى المديرين وغيرهم من رؤساء الأعمال في
التفصيل، فذلك الانتقاد أو الطعن كان الغرض منه تأييد سياستهم في مقاومة
الاحتلال، والتشفي من الإنكليز وبيان أن الأمر كله في أيديهم وتبعته عليهم، وإن
النظار وسائر الموظفين المصريين آلات صماء تحركها هذه الأيدي كما تشاء؛ ولكن
فيما يضر البلاد ولا ينفعها، وفيما يسلب السلطة الشرعية من أميرها، وهو الذي
يريد لها الخير لولا أنه عاجز عنه. وكان يقوم في وجه هذه الجرائد الكثيرة جريدة
أو جريدتان أو ثلاث تندد بالأمير وبطانته، وتلزم ذلك المقام بما يخفض من قدره
فبذلك كله زالت هيبة الأمير وحكومته الرسمية من النفوس، فتجرأ الأشقياء على
السلب والنهب، وإهلاك الحرث والنسل، وكثرت الجنايات في الأرياف حتى إن
الحكومة لا تزال في حيرة من حفظ الأمن إلى هذا اليوم.
نعم، إنه قد استقر في أذهان جميع المصريين أن الأمر كله للإنكليز، وأنهم
يستطيعون أن يفعلوا ما أرادوا، من حيث لا تستطيع الحكومة المصرية من دونهم
شيئًا. ولكنهم علموا مع هذا أن الإنكليز لا يحفلون بالمسائل الجزئية التي تتعلق
بأفراد الأهالي، وإنما يكلون الأمر فيها إلى الحكومة المصرية، تنظر فيها بحسب
القوانين، فلا يستطيع المأمور، ولا المدير، ولا رئيس النيابة (المدعي العمومي)
ولا القاضي، أن يعاقب جانيًا إلا إذا ثبتت جنايته في المحكمة، وقلما يقدم الجناة
على عملهم إلا هم آمنون من ثبوته عليهم! .
فاختلاف الأمن في القطر المصري نشأ من سقوط هيبة الحكومة من نفوس
العامة، والتطرف في الحرية، والانتقال من حكومة استبدادية عرفية إلى حكومة
قانونية حرفية؛ أي: يجري فيها الحكام على ظواهر ألفاظ القانون من غير تطبيق
على المصلحة العامة التي وضع لأجلها القانون. وما كان لأكثر الجرائد من عمل
في ذلك إلا ما ذكرنا، فما كان من خطأ يقع، كانوا يحملونه على سوء النية من
الحكومة، وما كان من صواب يسكتون عنه ويحملونه على غير محمله، حتى كانوا
ربما يطعنون في أنفع الأعمال: كإنشاء الخزان في أسوان - فلهذا ولغيره من الخطأ
الذي لا يتسع هذا المقال لشرحه، كان الأستاذ الإمام يقول: (جرائدنا إحدى
بلايانا) .
فيجب أن تعتبر الجرائد السورية بخطأ الجرائد المصرية التي سبقتها في
الاستقلال والحرية كما تعتبر بصوابها، فكما يجب عليها أن تتخذ لها مذاهب في
الإصلاح الاجتماعي لا تشغلها عنه السياسة، يجب عليها أن تتخذ لها أسلوبًا حكيمًا
في انتقاد الحكومة، يرجى نفعه ولا يخشى ضرره، ويجمع بين هيبتها في نفوس
العامة من حيث هي أمينة على مصالحها، ومنفذة لشريعتها وقوانينها التي أقرها
نوابها ووكلاؤها، وبين تكريم الأمة وإعلاء شأنها، وغرس مبادئ الحكم الذاتي في
نفوسها.
كيف تُنتقد الحكومة
تُنتقد أعمال الحكومة لغرضين شريفين أحدهما - وهو الأصل - صيانة الحقوق
وحمل الحكام على العدل، وأداء الأمانة بالتزام الشريعة وتطبيق القانون على
المصلحة العامة. وثانيهما: عرضي تمس إليه حاجة الأمة أو ضرورتها في مثل
الطور الذي نحن فيه الآن في بلاد الدولة عامة والقطر المصري خاصة، وهو بث
مبادئ الحكم الذاتي في نفوس الأمة (أي حكم نفسها بنفسها) .
أما الأول: فطريقه أن يبحث الكتاب عن الأعمال والأحكام، ويبينون ما
يجب بيانه في انطباقها على الشرع والقوانين وعدمه من غير بذاءة، ولا استعلاء،
ولا طعن يسقط المهابة، ويذهب باحترام الحكومة من نفوس العامة. وإنما نعني
بالأعمال؛ أعمال الحكومة دون الأعمال الشخصية التي لا دخل لها ولا تأثير في
المصالح العامة.
ومن كان مخلصًا في انتقاده يتحرى الحق فيه، فإذا ظهر له أنه أخطأ فيما
كتبه، رجع عنه رجوعًا صريحًا، وبيَّن سبب خطئِه الأول، ومشرق انبلاج
الصواب له. وبذلك يكون كلامه مؤثرًا في القلوب ذا سلطان على النفوس، فيقدره
قدره الحاكمون، فإذا لم يرجع به المسيء عن غيه، آخذه رؤساؤه على سوء فعله.
ومن آيات الإخلاص: أن يسعى مريد الانتقاد إن تيسر له؛ كأن يراجع
الحاكم فيما يرى أنه يسيء أو يجور فيه، فإن تم له ذلك وإلا لجأ إلى الانتقاد.
وينبغي أن يبدأ بالرمز والتلويح، ثم يترقى في سلالم التصريح، فإذا استقام
الجائر، وعدل الظالم، وجب أن يقف الناقد عند الدرجة التي ارتقى إليها في نقده،
ثم يثني على العمل الذي يستحق الثناء.
ومما يتحتم مراعاته أن تكون الفقرة التي ينتقد بها القضاة ورؤساء الإدارة
بحيث يفهمها الخاصة دون العامة، كأن تورد بضروب من المجاز والاستعارة،
وتستعمل فيها الألفاظ الغريبة؛ لئلا تزول مهابة الحكومة من نفوس العوام، وتقل
ثقتهم بالقضاء، ويعتقدوا أنه لا سبيل إلى قضاء مصالحهم إلا بالرشوة، ويطمع
المبطلون منهم بهضم الحقوق، ويطمع الأشقياء بالتعدي على الضعفاء؛ اعتمادًا
على ضعف الحكام أو ظلمهم.
وإنما تجب مراعاة ما ذكر في انتقاد من يسيء مستخفيًا، وأما من يجهر
بالسوء، ويعرف عنه الظلم، فأولئك هم الذين لا تحفظ لهم حرمة، ولا ترقب فيهم
ذمة، فيجهر الكتاب بانتقاداتهم، ويحرضون الأمة على الشكوى منهم، إذا لم يبادر
رؤساؤهم والمفتشون عليهم إلى النظر في أمرهم، ولتكن الشكوى إلى المجالس
العمومية في الولايات، ثم إلى مجلس المبعوثان في الآستانة بعد مراعاة ما اشترطه
القانون الأساسي في ذلك.
أما الطعن في الحكومة على الإطلاق فضرره عظيم جدًّا في مثل بلادنا، ولا
سيما في أول العهد بالانقلاب كهذا الزمن. مثال ذلك طعن المتقهقرين أو الرجعيين
(على الخلاف بين كتاب العرب وكتاب الترك في لقبهم) في حكومة الشورى
الحاضرة من حيث شكلها، والاستدلال على ذلك بالخلل والفساد الذي أظهرته الحرية
في الأمة والحكومة جميعًا بزعمهم، وما هو إلا من رزايا الحكومة السابقة التي
يتعذر تطهير الأرض من نتنها في بضعة شهور أو بضع سنين.
ومن أمثلته استبطاء كثير من المحبين للحكومة الحاضرة لأعمال مجلس الأمة
وإظهارهم قلة الثقة به، وشكهم في أنفسهم، وتشكيكهم للناس في قدرته على القيام
بما عهد إليه من إصلاح حال الدولة، وترقية شؤون الأمة. وما ذلك إلا لجهلهم
بحاله وبحال الحكومة التي ينظر في أمر إصلاحها.
إن مثل مبعوثينا ونوابنا في مجلسهم: كمثل مهندس كلف وضع رسم أو
رسوم لبناء بلد كمسيني - لا (مسينا) كما تضبطه الجرائد - قد دمرته الزلازل، وأن
يستحضر البنائين لإعادة بنائه على أحسن مما كان عليه، ويراقب عملهم إلى أن
يتم، ثم يكون أمينًا عليه حافظًا له، فأراد أن يشرع في العمل، فوجد معظم أنقاض
البلد مفقودة، قد تلف بعضها، وسرق بعض، ولم يجد من البنائين المهرة والصناع
والنجارين عددًا كافيًا للإسراع في العمارة! ! فهل يلام المهندس ويرمى بالتقصير
وحده، وينسى ذلك الزلزال الذي دمر البلد، وأولئك اللصوص الأدنياء الذين كانوا
ينهبون أنقاضه، وما يهيأ لبنائه! ! ؟
ألا إن عذر مبعوثينا أظهر من عذر ذلك المهندس، فإن زلزال الاستبداد
توالى على المملكة العثمانية من زهاء ثلاثة أجيال، وقد اشتد في عهدنا هذا من أول
هذا القرن الهجري، حتى كاد يجعل المملكة أثرًا بعد عين. وقد كان أكثر رجال
حكومتنا في ذلك الدور؛ كأولئك التحوت الذين افترضوا زلزال (مسيني) ،
فسارعوا إلى نهب كل ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة من أموال الهالكين والمشرفين
على الهلاك، فماذا عسى أن يفعل نوابنا في أيام أو شهور؟
قال أمامي بعض هؤلاء المنتقدين الطيبة قلوبهم النائمة عقولهم، أو القليل
اختبارهم: إن بعض المبعوثين يسأل في المجلس أسئلة سخيفة تدل على أن مجلسنا
في سن الطفولية! قلت: هل كان فيها أسخف من سؤال بعض نواب الإنكليز في
مجلسهم الذي هو أعلى وأرقى مجلس نيابي في الأرض عن الكنف (المراحيض)
في القاهرة، وكونها قليلة أو غير موجودة في الأحياء الوطنية!.
ومن أمثلة الانتقاد المطلق في الحكومة الحاضرة ما يلهج به الناس من جميع
الطبقات في جميع البلاد من تقصيرها في حفظ الأمن، وإرسالها حبال الأشقياء على
غواربهم، وهذا الانتقاد واقع ما له من دافع لظهور موجبه لكل أحد، وهو هو علة
الانتقاد الذي ذكر قبله، ولأمرٍ ما كان كلام الجرائد فيه دون كلام الناس في أنديتهم
وسمارهم وبيوتهم، وسائر مجامعهم، وفي الطرق والأسواق!
وإذا طال العهد على هذا الإهمال، فإنني أخشى أن يتفاقم أمره، ويستشري
شره، وقد كلمت فيه والي بيروت قبلاً (والي سورية الآن) ، ووالي بيروت الآن
والمدعي العمومي لولاية بيروت، ومتصرف طرابلس، فرأيتهم ينتظرون أول
السنة المالية التي قربت خطواتها لإصلاح حال الشحنة والشرطة، والدخول على
حفظ الأمن من بابه.
إن عذر الولاة والمتصرفين في التقصير في حفظ الأمن؛ محصور في ظنهم
أنه لا يمكن بطريقة قانونية لا استبداد فيها ولا ظلم، إلا بعد تنظيم الشرطة وإيجاد
قوة عسكرية كافية؛ لتلافي ما ربما يحدث من الثورات الداخلية! وهو عذر مبني
على عدم اختبار حال البلاد في مثل ولاية بيروت، فقاسوها على مثل ولاية
الموصل، وعلى حوران من ولاية سورية، ويعسر علينا إقناعهم بأن هذه البلاد لم
تصل إلى هذه الدرجة من الشر والفساد، وأنه لا يوجد فيها أحد من الأشقياء يفكر
في مقاومة الحكومة قط، وأن أي والٍ أو متصرف أخذ بالحزم يسهل عليه أن يحفظ
الأمن. على أن من يقنع منهم بذلك لا يتجرأ على الإقدام عليه، وتحمل تبعته في
عهد هذه الحكومة، ولا سيّما مع بقاء الآستانة مستأثرة بالسلطة العليا، ومقيدة لسلطة
الولاة بَلْه المتصرفين فمَن دونهم!
إذا طال العهد على الحال التي نحن عليها - وما هو بالذي يطول إن شاء
الله - يتقوض بناء مهابة الحكومة من نفوس العامة فلا يبقى منه شيء وتصير
البلاد فوضى ولولا أن سلامة القلوب ومحاسن الأخلاق لا تزال ذات السلطان
الغالب في بلادنا، لكانت بضعة شهور كافية لانتشار الفوضى، وطمع الأشقياء في
الخروج على الحكومة , ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ولن يكون إن شاء الله تعالى.
إن الحكومة قادرة الآن على التنكيل بالأشقياء، فكيف بها بعد التنظيم الذي
أظلنا زمانه، وأدركنا إبانه؟ وإن ما حصل طبيعي في طور الانقلاب، فما هو
بالأمر الغريب الذي يبيح للناس، ولا للجرائد الطعن في الحكومة على الإطلاق.
إذا رأينا بعد استقرار الحكومة الجديدة، وإقامة النظام المنتظر عجزًا عن
حفظ الأمن في ناحية؛ لسوء إدارة مديرها، أو في قضاء لجهل القائمقام، أو في
لواء لضعف المتصرف، أو في ولاية لعلة في الوالي فإننا نسعى لدى مرجع كل
واحد من هؤلاء لاستبداله، إذا أعوزنا إصلاح حاله، ولا نطعن في الحكومة طعنًا
مطلقًا يذهب بثقة العامة بها، ولا نتهمها بالخيانة والفساد، ولا نرميها بالعجز
والضعف، فإن ذلك كله تسوء عاقبته على كونه لا يمكن أن يكون صحيحًا على
إطلاقه.
حسبنا هذه الكلمات في بيان الغرض الأول من غرضي الانتقاد الصحيحين
فإن المخاطب بها هم الكتاب الألباء، واللبيب تكفيه الإشارة.
وأما الغرض الثاني من ذينك الغرضين: وهو تقوية روح الحكم الذاتي في
الأمة، فقد يحتاج إليه في البلاد المصرية أكثر مما يحتاج إليه في البلاد السورية؛
لمكان الظن في استئثار الإنكليز بالسلطة، وجعل المصريين الآن في أيديهم. ومع
ذلك نرى الجرائد المصرية، قد قصرت فيما يجب عليها من الرمي إلى غرض نفوذ
الأمة، فكان معظم نضالها أو جميعه دون نفوذ الأمير نفسه؛ أي: لتقرير الحكومة
الشخصية، والانتقال من استبداد أجنبي محدود إلى استبداد شخصي وطني لا حد له
إلا أنه قد كثر خوض هذه الجرائد في هذه السنين الأخيرة في طلب المجلس
النيابي لمصر، وكون ذلك موافقًا لرغبة الأمير في رأي بعضها. ولكن الصحيفة
المصرية التي اتخذت تقوية سلطة الأمة نفسها مذهبًا لها تراعيه في انتقادها على
الحكومة هي (الجريدة) التي أسسها جماعة من الوجهاء وأهل الرأي تنفيذًا لما كان
دعاهم إليه الأستاذ الإمام في آخر حياته. ويعلم الله أن هذا ما كنت اقترحه عليه من
بضع سنين، حتى إنني كنت قد اخترت له المحررين، ووضعت له الميزانية بعد
المذاكرة الطويلة معه في المذهب السياسي - وهو سلطة الأمة -، وفي المنهاج
الاجتماعي الأدبي وجله في انتقاد الأخلاق والعادات. فهل للجرائد السورية أن تفكر
في هذا وتقدره حق قدره؟
إن الجرائد العثمانية كلها تحتاج إلى انتقاد الحكومة فيما يختص بسلطة الأمة
عند وضع بعض القوانين التي تقوي سيطرة الحاكم، وتضع العثرات في سبيل
الأمة: كقانون المطبوعات، وقانون الجزاء (العقوبات) ، وقانون المعارف
ولوائحها، ونظام مدارسها، بل يجب أن تنتقد مجلس الأمة، إذا لم يجعل تنقيح
القانون الأساسي مقيدًا للحكم الشخصي، مطلقاً لحكم الشورى من تلك القيود
المعروفة، وإذا نازعته الحكومة فيما يقوي به سلطة الأمة، وجب على الجرائد أن
تحمل عليها حملة شعواء، وأن لا ترضي أقلامها بما دون الطعنة النجلاء.
كذلك يجب على الجرائد في كل ولاية أن تنتقد الولاة؛ إذا هم حاولوا
الاستبداد في أمر المجالس العمومية ومجالس الإدارة، أو أظهروا التعصب لجنسهم
كتعصب التركي للترك والعربي للعرب، فإن العصبية الجنسية من الحكام تضعف
الجامعة العثمانية، وتحدث فيها الأحداث والمفاسد.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتهم الحكومة في جملتها بهضم حقوق الأمة
وكراهية حكمها الذي هو حكم الشورى، وإن كان الكثيرون من الوجهاء والرؤساء
السابقين قد قل انتفاعهم، ونقص مالهم وجاههم في عهد الحكومة الحاضرة، فهم
يحنون إلى الاستبداد ويتمنون الرجوع إليه، حتى صارت جرائد الآستانة تسميهم
الرجعيين، فمن بقي في الحكومة من هؤلاء، ومن يدخل فيها على عهد الدستور
للجهل بحالهم أو للحاجة إليهم على عوجهم، لا يألون جهدًا في الاستبداد إذا وجدوا
منفذًا من المنافذ، وأمنوا المُراقب والمؤاخذ.
فمن أقدس وظائف الجرائد وواجباتها أن تتبع عورهم، وتقلم أظفارهم،
وتكبت أنصارهم، مع مراعاة ما أشرنا إليه من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال
بالتي أحسن، كما أرشدنا الذكر الحكيم. وليكن الإخلاص رائدنا، وإيثار المصلحة
العامة غايتنا، فلا شيء أنفع وأرفع من العمل لخير الناس، ولا مرشد إلى ذلك أهدى
من الإخلاص.