للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ندوة العلماء الهندية

تأسيسها دارًا للعلوم
إن لندوة العلماء في الهند مساعٍ في خدمة الدين الحنيف، وسعيًا في خير
النوع الإنساني مبرورًا، وقد اتجه عزمها إلى إنشاء مدرسة كبرى للعلوم (جامعة)
دعتها (دار العلوم) ، واحتفلت في أول شهر ذي القعدة الماضي بوضع الحجر
الأول من أساسها، وقد قالت في ذلك مجلة البيان التي تصدر في مدينة
لكنؤ (الهند) :
(عقدت حفلة ندوة العلماء في ٢٨، ٢٩، ٣٠ نوفمبر الفارط في مدينة لكنؤ
فأمها المسلمون من كل الأصقاع من الأمراء والعلماء والوجهاء، وكانت الحفلة بهيجة
لم ير الناس مثلها في حسن انتظامها، وبلاغة ما ألقي فيها من الخطب الداعية إلى
نشر المعارف وإعادة مجد العربية في بلاد الهند، ومحو المراسم والبدع التي تجري
عليها العامة باسم الدين، ورفع الخصام الملي، وإصلاح ذات البين، وتوطيد الإخاء
والوئام بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وتمت الحفلات، ولم يحدث
فيها ما يريب ذوي الألباب أو يشين الجمعية المعروفة بندوة العلماء.
وقد اجتمع في هذا الاحتفال جمهور كبير من صنوف الناس، فيهم المسلمون
والإفرنج والهنود، وكان بين المسلمين أهل السنة وعلماؤهم، والشيعة ومجتهدوهم
والمقلدون والمستقلون، والصوفية والأحناف والوهابية والمتفرنجة. وهو أول
اجتماع ديني حفل أهل المدن المختلفة، كأنما هو طاقة رياحين مختلفة نفحاتها
وألوانها.
ولما حانت الساعة المعينة أتى الوالي السرجون هويت وقرينته، فاستقبلهما
أعضاء الندوة، وأتوا بهما إلى الدكة المقامة لجلوسهما، فجلسا على كرسيين من
الفضة، وافتتح الاحتفال بعد أن تلا القارئ آيات من القرآن الحكيم، وقدمت إلى
الوالي عريضة الحال، فأجاب بخطبة مسهبة أثنى فيها على الخطة التي سارت
عليها الندوة؛ من رفع الخصام، ونشر المعارف الحديثة ممزوجة بعلوم الدين، وعد
أعضاء الندوة من مخلصي دولته، وقام بعد ذلك مع جماعة من وجهاء المسلمين،
ووضع حجر أساس المدرسة) .
وهذا نص العريضة التي قدمت إلى الوالي، نقلناها عن المجلة الخاصة التي
تصدرها الندوة باسمها:
مولاي الأكرم: نحن أعضاء ندوة العلماء، نرحب بكم من حيث كونكم نائب
الحكومة في هذه الإيالة، ونشكركم على إجابتكم دعوتنا؛ لوضع حجر أساس دار
علوم الندوة، فيشكركم على ذلك كافة المسلمين، فإن الندوة كأنها لسان حال الأمة،
ولا يوجد قدر شبر من الأرض إلا وفيه أنصار الندوة وحماتها، وقد استبان بهذا منا
للدولة من التسامح الديني الذي هو من مزايا الأمة الإنكليزية خاصة، والذي هو
ملاك الحكومة وعمودها، فإن الندوة ليست إلا جمعية دينية.
مولاي الأكرم: نحن نستدعي من حضرتكم أن تسمحوا لنا بإبداء مطالب
الندوة وطوارئها التي من أحد مظاهرها الجلية دار علومنا هذه.
مولاي الأكرم: إن المسلمين منذ وجدوا إلى يومنا هذا، لم تزل فيهم طائفة
تلقب بلقب العلماء، وهم قادة الحزب الإسلامي في أمور الدين وأحكامه، والأمة
كانت تقفو أثرهم، وتتبع هداهم في كل ما يمس بالدين ولو في أمور الدنيا، وكانوا
أنموذجًا لتمدن الإسلام ومكارم أخلاقه. والأمر الذي استوجب وجود هذه الطائفة؛
هو أن ما تتقوم به جنسية المسلمين ليست خصوصية الإقليم، ولا الشعب، ولا
الأسرة، كما هي للأمم الأخرى، بل كل من اعتنق دين الإسلام، يحصل له كل ما
كان للمسلمين قاطبة على اختلاف جنسيته وعشيرته ومبدئه. ولما لم يكن للمسلمين
حزب يختص بدعوة الدين، كانت الأمة تحتاج إلى مثل هذه الطائفة؛ لكي لا يحيدوا
عن قصد المحجة. وهذا الأمر دعا إلى أن نشأت طائفة كبيرة من العلماء لا يقل
عددهم عن أمثالهم في الأمم الأخرى، ومن مزية أمة الإسلام أن العلم كان فيها
يكتسب لأجل العلم فقط، مع صرف النظر عن كل مرمى وغاية - وما في هذه
الأمة من احترام العلم، والخضوع له والتفاني أمر لا تشاركها فيه أمة، حتى إن
الرؤوس المتزينة بالتيجان كانت تخضع لها كرامة. والحق أن تأخر الأمة ما كان
إلا بعد ما فقدت هذه الطائفة مزاياها، فذهب ما كان لها من المكانة عند القوم،
وحينئذ حرمت الأمة من قيادتها وتبدد نظامها، وعند ذلك اشتغلت هذه الطائفة
بمحقرات الأمور، وبلغ الحال إلى أن رفعت الشكاوي إلى المحاكم السلطانية، فقام
حينئذ حزب من العلماء لسد الخلل وإقامة معالم الإصلاح، وكان من أول مظاهره
هذه الجمعية المسماة بالندوة، انعقدت حفلتها الأولى في كانفور سنة ١٨٩٣م، وفي
سنة ١٨٩٨م صادقت الحكومة عليها رسميًّا، وبلغت حفلاتها اثنتي عشرة حفلة،
اجتمع فيها العلماء وعامة الناس على اختلاف أهوائهم وأذواقهم - أما مطالب
الندوة فتحصر مهماتها في أربعة أمور:
(١) ترقية المدارس العربية وإصلاحها.
(٢) رفع المخاصمات الدينية.
(٣) إصلاح أمور المعاشرة والأخلاق.
(٤) نشر الإسلام وكل ما يتعلق بالمنافع العمومية.
في بدء الأمر ظهر الترحيب بالندوة من جميع الأمة كافة، فتوسعت حينئذ
مطالبها، وكان من أول مساعيها أنها اجتهدت في رفع الخصام الحادث في أحزاب
الأمة، وإصلاح ذات البين، وفازت في ذلك إلى حد لا يستهان به، وكذلك سعيها
بتخفيض نفقات عوائد الفرح والألم لِمَ يذهب أدراج الرياح، ثم إن الندوة أقامت دار
الإفتاء في لكنوء، ومحلاًّ للأيتام في كانفور. ولكن كان أهم مطالبها أمر التعليم،
بإصلاح ما فسد منه؛ ليكون سببًا لوجود شرذمة تهدي الناس في الأمور الدينية.
ومن البَيِّن أن التعليم الصحيح هو الذي يزيل كل داء اعترى الأمة، وحجزها
عن سبيل رقيها. ونظرًا إلى ذلك أسست الندوة في سنة ١٨٩٨ م مدرسة سمتها بدار
العلوم، كانت في أول الأمر مدرسة ابتدائية، ثم تحولت إلى كلية في سنة ١٩٠١ م
وصارت كأنها أساس لجامعة دينية، ولما كان أمر التربية أعظم خطرًا من التعليم
أسست دار إقامة للطلبة. ولكن كان من شؤم الحظ أن الأمة لم تقدر مسعى الندوة
حق قدره، فالفئة القديمة أساءت الظن أن إدخال الفلسفة الجديدة في نصاب التعليم،
يورث وهنًا في الدين! حتى ألَّفت كتب ورسائل في تكفير حزب الندوة. وفوق ذلك
أن الناشئة الجديدة أيضًا كانت تتقاعد عن الأخذ بناصرنا، فإنها كانت تحسب أن
الندوة تقيد حرية الأفكار، وكانوا عاجزين عن فهم منافع إحياء العلوم العربية أصلاً
ومع أن الندوة كانت هدفًا لسهام كلتا الطائفتين، لم تزلَّ لها قدم، ولزمت محجتها
واختارت لنفسها جادة وسطًا، فرتبت نصابًا جديدًا رجح فيه جانب الأدب والعلوم
الدينية، ومع أن دار العلوم لم يمض عليها ردح من الزمان، أنشأت تلاميذ يقدرون
على ارتجال الخطب من غير روية، وهذا شيء لم يسبق له مثيل! وكان يُعد أمرًا
نادرًا في إبان الحكومة الإسلامية أيضًا، وقد أضفنا إلى نصاب التعليم الفلسفة
الجديدة، وكانت هذه بدعة تعد، وكفرًا في المدارس القديمة، ومما زاد الطين بلة،
أنا أدخلنا في نصابنا تعليم اللسان الإنكليزي لزومًا، فكان من ثمرته حرمان الندوة
من بعض المساعدات المالية، حتى إن بعضًا منهم استرجع أرضًا كان وقفها على
دار العلوم! ولم نأل جهدًا في الاستفادة مما لأهل الغرب من الاكتشافات الجديدة في
العلوم العربية، وخزانتنا تحتوي على أكثر ما كتبه المستشرقون في أمثال هذه
المسائل، وعلى كتب غير هذه تصلح أن تكون زينًا لكل متحف علمي، وتلامذتنا
لهم مزيد شغف في الاستفادة من تلك الخزانة، ويوجد فيهم من يكتب في مجلة الندوة
مقالات علمية يستحق التنويه بها.
والآن أردنا أن ننشئ لجنة، يكون أعضاؤها تلامذة مدرستنا الذين يقفون
حياتهم على الفحص عن المسائل العلمية المهمة. وبناء على ما توارثنا من آبائنا لا
نأخذ للتعليم أجرة، ونريد أن نوسع نطاق التعليم حسبما تعيننا على ذلك المساعدات
المالية.
ومن أهم مزايا مدرستنا أن الذين بقوا على الحيادة عن المدارس الدولية؛
لأجل التعصب الديني؛ أو لأجل عدم الثروة، لا يجنحون إلا إلى مثل التعليم الذي
اختارته الندوة، فإنها جعلت تعليمها تحت سيطرة التعليم الديني.
ونحن نجترئ على أن نعرض على مسامعكم أن دار علومنا مع قلة بضاعتها
وقصر باعها، أربت على أمثالها من كلا النوعين بنوع خاص، فإنهم أبعد ذيلاً عن
التقشف، وبراء من الفخفخة الفاسدة. ومع أن مدرستنا لا تقدرعلى إحداث طائفة
يصلحون للتوظيف في أعمال الدولة. ولكن نحن على ثقة أن مدرستنا تنشئ رجالاً
يقدرون على إطفاء الثورات الحالية التي تريد إمحاء سيطرة الخالق والمخلوق معًا،
رجالاً يكون من شيمتهم الاستكانة للإكبار، والمؤاساة للجار، والتواضع للعامة،
وفوق كل ذلك: الانقياد للحكومة والخضوع.
فمدرستنا تنفخ في طلبتها روح المسامحة الدينية التي فتحت أبوابها لكل حزب
فلم يتعين طلبتنا ولا أساتذتهم بالمشاجرات التي حدثت اليوم بين الفئتين العظيمتين
من المسلمين، وعلماء لجنتنا لا يزالون يدعون الناس إلى الخير والصلاح فنرجوا من
دار علومنا والمدارس التي تتبع سبيلها أنها تخرج طلبة سيسودون الأمة ويملكون
أزِمَّتها مرة أخرى، ويحسمون التشاق، ويشقون عصا النفاق، ويصبحون لتوسعهم
في المعارف الحديثة والقديمة واسطة موصلة بين الفئة الناشئة وحزب التقهقر العتيق
ونحن على يقين من أن المسلمين كما يسلم إذعانهم لحكومتهم يزيدون من هؤلاء
العلماء الناشئين طاعة وانتقادًا للحكومة. والآن نقدم إلى جنابكم أزكى التشكرات
حيث تفضلتم علينا بقطعة من الأرض؛ لترفع عليها قواعد مدرستنا، وبعد ذلك نحن
نشكر الذين بلغنا من مساعدتهم ومساعيهم إلى هذا الحد، ونخص من بينهم أولاً سمو
النظام أمير (حيدر آباد) الذي نستغرف من وجود إمارته من نعومة أظفارنا، وإن
لم نرزق زيارته حتى الآن. وبعد ذلك نؤدي مفترض الولاء إلى سمو الملكة أميرة
بوفال التي تمنحنا وظيفة إعانة سنوية، ونبث أيادي إمارة هماوبالفورالتي رفدت
أميرتها غير ما تسمح به إمارتها سنويًّا بمنحة تساوي خمسين ألف روبية، هيأتنا
لنتشرف بأن تضع سعادتكم حجر أساس كليتنا، ونرى من واجباتنا أن نذكر من غير
هؤلاء الكرماء الذين أخذوا بأيدينا، وساعدونا بما توخينا من الخير كرنل خان بهادر
عبد المجيد خان وزير خارجية إمارة بلياليه ونحن نشكر المستر أي - ال- ساندرس
والمستر اس ايج بطلرسي ٠أي٠أي٠ والمستر ال ام جابلتك الذين نصرونا بتحصيل
القطعة التي أنعمتم بها علينا. وفي الختام نشكر جنابكم من صميم أفئدتنا، حيث
نصرتمونا مما ثنيتم إلينا من أعنة فضلكم، ونعيد مرة أخرى تشكرنا الذي نقدم إلى
جنابكم، حيث قبلتم أن تضعوا بيدكم الكريمة حجر الأساس , والآن نسألكم أن
تأخذوا بهذا العمل الخطير الذي يبقى على كر الدهر.