للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [١]

المحاكم الشرعية
مازال حظ المحاكم الشرعية في البلاد العثمانية دون حظ المحاكم النظامية
وسائر دواوين الحكومة ومصالحها، فإننا لم نسمع حتى الآن صوتًا قويًّا من
المبعوثين في مجلس الأمة بطلب ما يجب من إصلاحها، فهل تتهيب حكومتنا
إصلاح هذه المحاكم أو تتقاعس عنها، كما فعلت الحكومة المصرية؟ !
إن المحرك للحكومة المصرية والمرسل لها إلى الإصلاح أو الممسك لها عنه،
إنما هو الاحتلال الإنكليزي، وكان الرؤساء من الإنكليز يقولون: إننا لا نمس
الأمور الدينية؛ لأنها لا تقبل الإصلاح؛ أو لأن المسلمين لا يريدون إصلاحها؛ أو
يتهموننا فيها تهمة نحن في غنًى عن التعرض لها، ثم محاولة تبرئة أنفسنا منها.
وقد ضج مسلمو مصر بعد ذلك بطلب إصلاح هذه المحاكم، فكانوا مع الإنكليز
كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
إن المحاكم الشرعية في القطر المصري، أمثل منها في سائر الولايات
العثمانية من بعض الوجوه، على أن اختصاص هذه أوسع من اختصاص تلك،
وليس لمجلس الأمة في الآستانة أن يتعلل بمثل ما يتعلل به الإنكليز عند مطالبتهم
بإصلاح هذه المحاكم، فمتى نسمع صيحة أهل العلم المحبين للإصلاح في المجلس
ببيان ما يجب من إصلاحها؟
أينسى أولئك المبعوثون أصحاب الغيرة على الشرع أن هذه المحاكم كادت
تكون حجةً على الإسلام، وفتنةً للمسلمين؟ أينسى أولئك الأحرار الواقفون
للاستبداد بالمرصاد؛ أنه لا يوجد معهد من معاهد الحكومة يباح فيه الاستبداد بغير
تبعة ولا مسئولية إلا في المحاكم الشرعية؛ حيث يحكم القاضي برأيه بلا مشاورة
في الأمر، ولا مشاركة في الرأي، ولا معرفة للمتقاضين بالمسائل التي يجب بها
الحكم! ! . فهل يرضى مجلس الأمة أن تبقى هذه المحاكم على هذه الحال، وهي
منسوبة إلى الشرع الذي بُني على الشورى، وأمر الرسول المعصوم بالمشاورة
صلى الله عليه وسلم، وجرى الخلفاء الراشدين على الحكم بها؟
ألا يعلم نوابنا الكرام أن فساد هذه المحاكم مفسد لكثير من البيوت (العائلات)
التي هي مرجعها في مسائل الطلاق والنفقات وغير ذلك من أمور الزوجية؟
أيستهينون بأمر الأوقاف، وما لها من العلاقة بالأمور الدينية والأعمال الخيرية التي
لها شأن كبير في صلاح الأمة وفسادها؟
أول شيء يجب الالتفات إليه في إصلاح هذه المحاكم هو إدخال الشورى فيها
بجعلها مؤلفة من أعضاء يحكمون بأكثر الآراء، كما هو الشأن في المحاكم
النظامية، حتى ما يحكم فيها بالشرع الشريف؛ كمحاكم الحقوق التي يحكم فيها
بالمجلة , وقد سبقت مصر إلى هذا الإصلاح في محكمة القاهرة التي يرأسها
القاضي الأكبر الذي يرسل إليها من دار السلطنة العثمانية. فإقامة هذا الركن
الإسلامي في المحاكم الشرعية، يبطل استبداد القضاة في الأحكام، ويقلل ارتكابهم
لجريمة الرشوة، ويجعل القضية سريعة الإنجاز، فيصل الناس إلى حقوقهم في
وقت أقرب مما يصلون الآن، إن وصلوا! .
يلي هذا الركن وضع كتاب في الأحكام التي تختص بها هذه المحاكم؛ ككتاب
مجلة الأحكام العدلية، في سهولته، وترتيبه، وتقسيمه إلى مواد معدودة، ومسائل
محدودة، تلزم الحكم بها وبيان عدد المسألة التي يستند في الحكم إليها. ولا حاجة
إلى التذكير بفوائد هذا الكتاب التي (منها) كون المتقاضين يعلمون منه الأحكام
التي يحكم بها في دعاواهم، فيطبقونها عليها، ويطلبون الحكم بها.
(ومنها) توحيد الأحكام في الدعاوى التي موضوعها واحد، لا كما يقع الآن كثيرًا من حكم المحاكم المختلفة، بل المحكمة الواحدة في مثل هذه القضايا بأحكام
مختلفة، يؤخذ فيها مرة بقول فلان، ومرة بقول غيره. ناهيك بما في كتب فقه
الحنفية من الخلاف في التصحيح والترجيح، وما يكون في هذه الأحكام
المتعارضة من الفضائح وضعف الثقة بالدين وأهله , (ومنها) سهولة تناول الحكم
وتضييق مسالك الخلاف فيه بين أعضاء المحكمة. وبوجود مثل هذا الكتاب تتحقق
قاعدة كون الجهل ليس بعذر , وإنه ليعسر الآن على من زاول كتب الفقه عدة سنين؛
أن يعرف الحكم الذي يحكم به القاضي الشرعي في قضية ما، فما بالك بمن لم
يزاول هذه الكتب، وأكثر المسلمين لا يستطعون ذلك.
ولا بد من تعزيز هذين الركنين بثالث؛ وهو وضع نظام لسير هذه المحاكم
في أعمالها وكتبها وسجلاتها، ويجب أن تغل فيه يد رئيسها عن الاستبداد في
الأعمال؛ كعزل الكتاب، ومتولي الأوقاف، وموظفي المساجد , واستبداد غيرهم
بهم أو تقديم بعض القضايا على بعض، بل يجب أن يكون كَتَبَة المحكمة كسائر
عمال الحكومة، لا يُعزلون إلا بمحاكمة يثبت فيها عليهم ما يوجب عزلهم , وإننا
لننتظر من حكومتنا الجديدة قانونًا عادلاً لمجالس أو محاكم التأديب التي يحاكم فيها
جميع عمالها.
أما الرسوم التي تؤخذ في هذه المحاكم وتقسم بين القاضي والكتبة، فيغلب
على ظني أن المالية تبطلها، إن لم تكن قررت إبطالها بالفعل في الميزانية الجديدة
وحددت مرتبات القضاة ورؤساء الكتاب وسائر الكتبة، فإن في أخذ المحكمة للرسوم
مفاسد كثيرة لا تخفى على أُولي الأمر، وما هم لها بمهملين.
الركن الرابع من أركان الإصلاح: جعل هذه المحاكم ابتدائية واستئنافية في
كل ولاية؛ كالمحاكم النظامية، وإبقاء التمييز في الآستانة ما بقي تمييز الأحكام
العدلية فيها، وإن كان في ذلك مشقة على أهل الولايات البعيدة، وتعويق للأحكام
النهائية، يُرجى أن تتلافاها الحكومة أو يتلافاها مجلس الأمة.
وأقترح على باب المشيخة الإسلامية وعلى مجلس الأمة: أن يعهد إلى اللجنة
التي تنظر في إصلاح المحاكم الشرعية بمطالعة تقرير الأستاذ الإمام (الشيخ محمد
عبده) الذي قدمه لنظارة الحقانية في شأن محاكم القطر المصري، وما يلزم
لإصلاحها، ومطالعة لائحة محاكم ذلك القطر القديمة، والنظام الجديد الذي وضع
أخيرًا؛ فإن في ذلك عونًا كبيرًا، والله الموفق.