للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرية واستقلال الفكر

آخر خطبة لي ببيروت
دعيت إلى حضور الاجتماع الشهري لجمعية الجامعة العثمانية ببيروت في
أوائل هذا الشهر (آذار) فاقترح عليَّ رئيسها أن أخطب فيهم بما يفتح الله به،
حاكيًا عن رغبة الجمهور، فقمت وقلت ما ملخصه بحسب ما أتذكر:
أيها الإخوان الكرام
إن المسائل التي نحتاج إلى البحث فيها واستجلاء غوامضها، كثيرة جدًّا،
فمن الناس من إذا اقترح عليه أن يخطب، يبادر إلى الكلام في الموضوع الذي
يتبادر إلى ذهنه، سواء كان مطابقًا لمقتضى الحال، يرجى أن يستفيد منه
السامعون ما يصحح أفكارهم أو يقوِّم أعمالهم أو لا. ومنهم من يرى هذه الطريقة
منتقدة، وأنه لا بد أن يخاطب الناس بما يتعلق بحالهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه
في أفكارهم وأعمالهم، فلا يحثهم على ما لا سبيل إليه، ولا يقرر لهم ما لا يفهمون
حقيقته.
مثال من ذلك: أن بعض الخطباء يقف فيقول: أيها العثمانيون، عليكم
بالاتحاد، عليكم بالائتلاف. إن الاتحاد هو مفيض العمران، ومرقي الأوطان،
ورافع شأن الإنسان، ويكتفى بمثل هذه الخطابيات المجملة التي لا يعلم السامعون
كيف يمكن العمل بها، فإن اتحاد المختلفين في التربية والتعليم والعقائد والأفكار
والأخلاق والتقاليد والعادات من الأمور، لا يمكن أن تحصل بمجرد الحث عليها
ومدحها، وإنما يجب بيان ما يشترك فيه من يراد حثهم على الاتحاد وإقناعهم بأن
منافعهم ومصالحهم مرتبطة به، وأنها إنما تحفظ وتنمو باتحادهم واتفاقهم، وتذهب أو
تضعف بتخاذلهم وتفرقهم.
أما أنا فأقول: إن كل كلام صحيح المعنى لا يخلو من فائدة، والفكرة
الإجمالية لا تخرج إلى حيز التفصيل إلا بإبرازها بالقول أو الكتابة، ومن لم يستفد
اليوم من الكلام الصحيح فائدة تامة، يُرجى أن يستفيد غدًا، فليقل كل أحد ما يرى
أنه حق نافع، وليُقَدم الأهم على غيره، وهو ما كانت حاجة الناس إليه أكثر. وإذا
قيل لنا: ما هو أهم ما نحتاج إليه الآن؟ قلنا: إنَّا محتاجون إلى أشياء كثيرة من
العلوم والأعمال؛ لأجل أن ننهض لما نكون به أمة عزيزة؛ ولكن نهوضنا يتوقف
على أمر عظيم لا يحصل بدونه. فما هو هذا الأمر الذي هو شرط للارتقاء في كل
علم وكل عمل، بحيث يلزم من عدمه العدم؟ إلا أنه هو الحرية الشخصية
واستقلال الفكر.
قد قلت في بعض الخطب التي تكلمت فيها عن الحرية: إن استعداد البشر
للارتقاء ليس له حد ولا غاية تحدد، فإذا عاشوا ملايين من السنين يمكن أن يكونوا
في ارتقاء مستمر لا ينقطع، إذا كانت حريتهم في العلم والعمل مصونة من عبث
المستبدين، فهكذا ترتقي الأمم على قدر صيانتها واحترامها للحرية، وتتخلف عن
الارتقاء بل ترجع إلى الوراء، على قدر عبثها بالحرية، وتحكمها في الباحثين
والعاملين.
مضت سُنَّة الله في البشر بأن الفكر يسبق العمل، فإذا كانت أفكار العقلاء
والأذكياء مضغوطة ممنوعة من الحركة والنمو، فإنها لا تكون مستقلة، والأمة لا
تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، إلا إذا أطلقنا العنان لجياد الأفكار تجول في ميادين
الكتابة والخطابة، بلا حجر، ولا ضغط، لا فرق في ذلك بين المسائل الدينية
والاجتماعية والسياسية وغيرها.
يجب علينا أن نحترم رأي من يخالفنا، كما نحترم رأي من يوافقنا؛ لأن
الفلاح متوقف على ظهور الحقائق، وظهورها يتوقف على استقلال الأفكار وحرية
البحث والكتابة والخطابة، ولا يخاف على دينه من حرية البحث إلا من لا ثقة له
بدينه، ومن كان واثقًا بأنه على حق، فإنه يعلم أن مخالفته فيه لا تزيده إلا قوة
وظهورًا، فقد نطق الكتاب العزيز بما هو ثابت عقلاً واختبارًا من أن الحق يعلو ولا
يعلى، وأنه ما تصارع الحق والباطل إلا وصرع الأول الثاني {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: ١٨) {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ
وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) .
علينا أن نبحث بعد هذا عن أنفسنا؛ لنعلم هل نحن نحترم استقلال الفكر
وحرية القول والعمل؟ هل قمنا بحق هذا الشرط الذي يتوقف عليه كل مقومات
الحياة: الاجتماعية والسياسية، وأسبابها؟ إن حكومتنا تركت الضغط على عقولنا
وأفكارنا، والحجر على ألسنتنا وأقلامنا؛ لنكون أحرارًا في أقوالنا وأعمالنا، فهل
صرنا أحرارًا بالفعل؟
نعم، إن الحكومة تركت الاستبداد والاستعباد، وأباحت لنا الحرية طوعًا أو
كرهًا. ولكننا ما قبلناها، فإن الأفكار لا تزال مضغوطة محجورًا عليها أن تبرز من
مضيق الدماغ إلى فضاء الوجود الخارجي، والحرية الشخصية مهددة لا من
الحكومة بل منا أنفسنا.
في البلد حوادث حيوية كثيرة، لا يكتب أحد من أصحاب الجرائد رأيه فيها
بالحرية. ولماذا؟ أيخاف من (المراقب) أن يُرَمِّجها له؟ لا إن الجرائد لا تعرض
الآن على المراقبين، كما كانت تعرض في زمن استبداد الحكومة. ولكن ما سقط
مراقب الحكومة إلا وتقاسم مثل عمله من لا يُحْصى من دهماء الأمة يفتاتون على
أصحاب الجرائد وكُتَّابها، وعلى الحكومة نفسها، وربما كان هذا الاستبداد أشد
وطأة، وأثقل ضغطًا من استبداد الحكومة.
إنَّ جرائد بيروت كان لها مدير واحد لسياستها هو المراقب، وكانت نسبة
أصحابها ومحرريها إليه كنسبة محرري الجرائد الكبيرة في البلاد الحرة إلى
رئيس التحرير أو مدير السياسة. فكانوا إذا أرادوا كتابة شيء يتحرون أن يكون
بحيث يرضيه، وقد عرفوا ما يرضيه ويجيزه، فلم تكن مراعاته متعذرة عليهم.
ولكن يتعذر عليهم الآن أن يعرفوا ما يرضي هؤلاء المراقبين الذين حلوا محله؛ لأن
عقولهم وآراءهم ليس لها قاعدة ترجع إليها، ولا ميزان توزن به. فهل يمكن أن
ترتقي الصحافة أو الأفكار في بلاد يفتات على حملة الأقلام وأرباب الأفكار فيها كل
أحد، حتى البحار والحمال وبائع الحمص والفول! ! .
إننا قد تغنينا باسم الحرية في أيام إعلان الدستور، وألقينا الخطب الكثيرة في
وصفها، وأنشدنا القصائد العديدة في مدحها والتغزل بها، وكان هتاف الجماهير
للخطباء والشعراء يعلو في الجو حتى يبلغ عنان السماء، وكتبنا ذلك الاسم الجميل
(الحرية) بالخطوط الجميلة، وزينا به البيوت والمعاهد العامة والخاصة والحدائق
فظهرنا بمظهر العاشق الولهان لهذه الحرية الجميلة. ولكنني أخشى أن نكون في
عشقنا لها كعاشق أم عمرو؟ ولعل بعض الحاضرين لا يعرف خبر هذا العاشق،
فأذكره إعلامًا له، وتذكيرًا لغيره: مر بعض الناس بصديق له مرة، فرآه غير ما
يعهد، رآه قلقًا مضطربًا، فسأل عن حاله، فقال: إنني عاشق ولهان، لا يقر لي
قرار، ولا يطيب لي اصطبار، ولا يهنأ لي طعام، ولا يزور جفني منام قال له
صاحبه: من عشقت؟ قال: عشقت أم عمرو أجمل نساء العصر، قال: من هي
أم عمرو؟ ومتى رأيت وجهها المليح؟ فبرح بك هذا التبريح؟ قال: لا أدرى من
هي ولا لمحتها عيني، وإنما سمعت رجلاً ينشد في الطريق:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه أبرع النساء جمالاً وحسنًا، وأوفرهن
من القسامة قسمًا. لما قال الشاعر فيها هذا القول! فعشقتها.
وقد طال على هذا العاشق الأحمق تلك المعشوقة المجهولة، حتى مر به
صاحبه يومًا فإذا هو يبكي ويندب، قد ساورته الأحزان، وواثبته الأشجان، فسأله
ما دهاك؟ فصاح أواه واويلاه، لقد بليت بأشد المصائب وأعظم النوائب، فقد ماتت
أم عمرو. وغلبه النشيج، وأخذ في النحيب، ولما سكت عنه الروع، قال له:
ومن أخبرك بموتها فهل رأيتها؟ قال لا؛ ولكنني سمعت الشاعر ينشد في الطريق:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
فقلت: لولا أنها ماتت لرجعت، ولما قال الشاعر هذا القول.
نعم إنني أخشى أن تكون حريتنا المعشوقة هي أم عمرو المجهولة، فإن
الحرية الحقيقية قد تعرفت إلينا فنكرناها، ورغبت فينا فرغبنا عنها، وأحبت
القرب منا فاخترنا البعد عنها، وإلا فما بال الكثيرين منا يسلطون العامة على من
يبدي رأيًا يخالف رأيهم، أو هوى أنفسهم: يهددونه ويهينونه، فإذا لم يوجد له
عصبة تمنعه منهم فإنهم يضربونه، ومتى كانت الحكومة المستبدة تضطهد حرية
الفكر والعلم أشد من هذا الاضطهاد، وتحاول استعبادًا أقبح من هذا الاستعباد، أي
العبودتين أذل: العبودية للحكومة أو العبودية للعامة؟
كان الخطباء والشعراء يقولون في أيام عيد الحرية في مدح الأمة نحوًا مما
يقولونه في مدح الحرية نفسها؛ لإظهار التناسب بينهما، ولا يزال كثيرون منهم
يسمعوننا مدح أنفسنا، ويشيدون بفضلنا وفضل سلفنا، ويتمثلون بقول شاعرنا:
(نبني كما كانت أوائلنا ... إلخ) ، أما أخوكم هذا فيقول: إن ما كان يقال في أيام عيد
الحرية، لا ينبغي أن يقال اليوم، ولا في كل يوم إن الأعياد في عرف الناس
هي أيام السرور والابتهاج، فيحسن أن يتناسى فيها ما يسوء بالتحري فيها ما يسر
هذه أيام الجد والعمل، فيجب أن نعرف فيها ما نحتاج إليه من هذا العصر؛
لنجاري الأمم العزيزة القوية، الراتعة في بحبوحة المدنية، لا أن نمني النفس
بالأقوال التي يلذ سماعها، ونترك السنن التي نرقى باتباعها.
يا قوم، إننا مرضى، ومن كتم داءه قتله، إننا مرضى ويجب علينا أن
نداوي أنفسنا، إن الأدوية لا يقصد بها اللذة، بل يقصد بها المنفعة، فهل سمعتم أن
الأطباء يداوون المريض المدنف بإطعامه اللحوم المعالجة بالبقول والأفاوية والكنافة
والبقلاوة والأشربة المثلجة؟ لا لا، إنهم يداوونه بالمسهلات البشعة الطعم والكينا
المرة، وربما داووه بالسكين ينال شيئًا من بدنه. وكذلك تكون أدوية الأمراض
النفسية. وإنه ليسوءني أن أصرح لكم بما يؤلمكم. ولكنها الحقيقة لا بد منها، وإن
كانت مرة كالدواء: (أخوك من صدَقك لا من صدَّقك) إن من فَضْل الحرية علينا
أن صرنا قادرين على البحث عن مرضنا، وعلى الاجتهاد في معالجته، فيجب أن
نعرف قيمة هذه النعمة، وأن نشكر الله - تعالى - عليها بالعمل الذي نستفيد به
منها.
أعود فأقول: إننا لا يجوز لنا أن ندعي أننا عرفنا الحرية، وإننا نقدرها قدرها
إلا إذا كنا نحترم استقلال الفكر، فلا نعارض أحدًا في إبداء رأيه، وإظهار علمه
باللسان أو القلم، ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام بدون هذا.
فعليكم أيها الفضلاء المحبون لخير أمتكم وتقدم بلادكم، أن تنصروا الاستقلال
الذاتي والحرية الشخصية، وأن تبذلوا جهد المستطاع في بث هذا الفكر في طبقات
الأمة، وتقنعوا أولئك الذين نسمع أخبار افتياتهم على الكتاب وأصحاب الجرائد،
بأن عملهم هذا ضار ببلادهم، وأن الذين يغوونهم بذلك هم أهل الأهواء الذين
يتبعون حظوظ أنفسهم، ولو فيما يضر بلادهم.
انصروا حرية البحث والطباعة؛ لكي تتجلى للأمة الحقائق، فتعرف ما
يضرها وما ينفعها؛ ولكي تتربى فيها العقول الكبيرة بعد رفع الضغط عنها. إن
تعلموا هذا تخدموا بلادكم أجل خدمة. وأراني أطلت عليكم في هذا الكلام الحار مع
حرارة الجو بكثرة الأضواء وازدحام الناس، فحسبي هذا، والسلام.