للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الجديدة

(نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان)
أهدانا المعلم عبد الحميد الفراهي (من العلماء في الهند) بضع رسائل في
تفسير سور متفرقة من القرآن العزيز، سماها بما ذكر في العنوان , وهي: سورة
التحريم والقيامة والشمس والعصر والكافرون والمسد أو (تبت) ، وقد ألقينا على
بعض هذه الرسائل لمحة من النظر، فإذا طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير
يشترك مع طريقنا في القصد إلى المعاني من حيث هي هداية إلهية، دون
المباحث الفنية العربية. ولكنه لا يفسر كل آيات السورة وكلماتها، ولا يتكلم على
ما يفسره بالترتيب، وإنما يتكلم عن المسائل الكلية والمقاصد التي تهدي إليها الآيات
كلامًا عامًّا مبسوطًا مفصلاً معدودًا بالأرقام. فمن فصول تفسير سورة التحريم:
(١) نظام السورة وموقع آياتها (٢) سنة الله في الاحتساب (٣) عمود السورة
هو الاحتساب والتشمير له (٤) دين الفطرة هو الاعتدال بين الفسق والرهبانية
(٥) تفرق الفسق والرهبانية (٦) نزول القرآن حسب أحسن المواقع (٧) شأن
نزول هذه السورة حسب الكليات (٨) شأن نزول آيتين ١ -٢ حسب جزئيات
الواقعة والفوائد الكلية منها وهي ست ... إلخ. وإن للمؤلف لفهمًا ثاقبًا في القرآن،
وإن له فيه مذاهب في البيان وطرائق في الاستطراد، منها القريب والبعيد، وإنه
لكثير الرجوع باللغة إلى مواردها والصدور عنها ريان من شواهدها، فقد كتب في
تفسير كلمة (صَغَت) من قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: ٤) أكثر من صفحة، على أنه قد صنف كتابًا في مفردات القرآن كما
فعل الراغب الأصفهاني ٠ وإن أدري أفسر القرآن كله على هذا النمط إذ هو يشتغل
بذلك الآن، ويريد طبع تفسير كل سورة عند إتمامها. وقد رأيت فيما قرأت ذكر
كتب أخرى له في القرآن والدين: كالمفردات وتاريخ القرآن والأمثال الإلهية
وأصول الشرائع، فعسى أن يتفضل بإخبارنا عنها، أهي تامة أم لا؟ أطبع منها
شيء أم لا؟ .
هذا، وقد أرسل إلينا عدة نسخ من تفسير بعض السور؛ لأجل بيعها عندنا،
وهي مطبوعة طبعًا حجريًّا عن خط فارسي حسن، فمن أحب أن يطلع عليها
فليطلبها من إدارة المنار، وثمن تفسير سورة التحريم قرشان، وما عداه فثمنه قرش
أو قرش ونصف.
***
(رحلة الحبشة)
هذه الرحلة من أحسن الرحلات أسلوبًا وفائدة وفكاهة، ألفها بالتركية صادق
باشا المؤيد العظم الفريق الأول بالجيش العثماني للسلطان عبد الحميد بأمره، وهو
الذي أرسله إلى نجاشي الحبش بكتاب منه، فكتب ما رآه وشاهده في طريقه وفي
البلاد والمواقع التي نزل بها لا سيما الصومال، وما ارتآه واستنبطه من المسائل
العسكرية والاجتماعية وما علمه من التقليد والعادات، مع شيء من كل فن، وذكر
في آخرها الوقائع الحربية بين إيطاليا والحبشة مفصلة، وختمها بذكر من نال
شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الحبش رجالاً ونساء وقد ترجمها
بالعربية رفيق بك العظم وحقي بك العظم , وطبعتها شركة طبع الكتب العربية
على النسق الذي طبعت به في التركية، مزينة بالصور والرسوم ومنها صورة
النجاشي بلباسه الرسمي، ومتصلاً بها خريطتان: إحداهما رسم فيها الطريق الذي
مر به، والثانية رسمت فيها بلاد الحبش , وقد زادت صفحات هذه الرحلة على
٣٢٠، وثمنها اثنى عشر قرشًا صحيحًا.
وإننا ننقل شيئًا من كلامه عن مسلمي الصومال وتعلقهم بالدولة العلية. قال
في سياق كلامه عن جيبوتي حاضرة مستعمرة الصومال الفرنسية ما نصه:
(ومنذ خرجنا إلى البر، أخذ الأهالي وكلهم من المسلمين، يفدون علينا
أفواجًا مرحبين بنا بعبارات الاحترام والتعظيم، ولم يكتفوا بذلك، بل انتظرونا
بينما كنا عند الوالي (آتو يوسف) خارج المحل، وعندما خرجنا رافقونا
مهللين مكبرين، واستمروا كذلك كلما نخرج يرافقوننا من محل إلى آخر،
وينتهزون كل فرصة لإظهار سرورهم العظيم من ورودنا لثغرهم، فإذا طلبنا مركبة
يجري العشرات منهم لإحضارها، واذا سألناهم الطريق يقدم مئات أنفسهم للقيام
بخدمتنا، وما كنا نحتاج لهم؛ لأن الوالي كان عقب وصولنا عين سكرتيره ليكون
(مهما ندارا) لنا مدة إقامتنا في جيبوتي. ولكن اعتذرت عن ذلك شاكرًا إنسانيته،
واكتفيت بجنود الشرطة الذين خصصهم لخدمتنا.
وبعد قليل من وصولنا الفندق، تكأكأ المسلمون بعضهم على بعض في
الردحة الكائنة أمام الفندق، وأخذ يزداد عددهم كثيرًا، فكانوا لا يقتنعون برؤية
الوفد المرسل من قبل خليفة الإسلام مرة واحدة، بل كانوا يريدون أن يروه كثيرًا
على قدر استطاعتهم، واستمر الزحام على هذا المنوال أمام المنزل إلى ما بعد
العشاء) .
ثم ذكر أنه قبل السفر من جيبوتي، آذنه خادم الفندق بقدوم رؤساء بعض
القبائل لزيارة الوفد السلطاني، قال:
هذا، وقد غاب الخادم قليلاً ثم جاء ومعه الزائرون، وكان عددهم ثمانية،
وهم رؤساء قبيلتي عبسا ودانجالي، وهم سمر الوجوه، لون البعض منهم يميل
للجوزي، وكلهم طوال القامة متناسبو الأعضاء، تجللهم سمات الوقار والمهابة،
ويلبس البعض قميصًا طويلاً، وعلى رأسه طاقية، والبعض ليس عليه سوى
(فوطة) وهو مكشوف الرأس. وشعرهم الكث فوق رؤوسهم يشبه العمامة
المدورة الكبيرة، يضعون في خلاله سهمًا طويلاً مصنوعًا من أغصان الأشجار مثل:
(الدبوس) الذي يربط به السيدات الغربيات قبعاتهن على شعورهن. ويستعملون
هذا السهم لحك جلد رؤوسهم عند اللزوم؛ لأنه لا يمكن وصول أصابعهم لجلد
رؤوسهم بسبب كثافة الشعر. وكان بعضهم وهم الذين كانوا يترددون على الحجاز
يتكلم اللغة العربية جيدًا، والباقون لا يعرفون منها إلا قليلاً.
وبعد المصافحة والسلام، أخذوا يدعون وهم وقوف على الأقدام للحضرة
العلية السلطانية، وأبلغني أنه سيصل مساء وفود من طرف القبائل القريبة من
جيبوتي؛ للتسليم على الوفد السلطاني، ثم جلسوا فصاروا يسألون عن أحوال
الآستانة؛ مستفسرين عن عدد سكانها، وعن مساجدها الجامعة، والمحلات
المباركة فيها، وعن الوجهة التي أقصدها وسبب سفري إليها.
(وكسوة هؤلاء الرؤساء بسيطة جدًّا، والبعض منهم حافي القدمين،
والبعض يلبس في رجله نعلاً مثل النعال الحجازية. ومع كل ذلك ترى الإنسان
يشعر بهيبتهم ووقارهم حال رؤيته لهم. وسمات الشجاعة والبسالة الظاهرة على
وجوههم تجعل كلاًّ منهم شبه تمثال للحرب والكفاح صنع من (البرونز) .
بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، إذا جاء الموسيو بونهور والي الصومال
الفرنسية؛ لرد الزيارة ومعه حاشية، والكل مرتدون أرديتهم الرسمية، وكان يمشي
أمام مركبة الوالي فارسان من جنود الشرطة فلما رأى الوالي المومأ إليه رؤساء
القبائل الصومالية، هش في وجوههم وصافحهم جميعًا يدًا بيد، وسأل عن أحوالهم
وصحتهم، ولم يمض قليل من وصول الوالي، حتى جاء أيضًا (آتو يوسف)
قنصل الحبشة في جيبوتي، وبعد أن مكث الوالي برهة استأذن بالذهاب مذكرًا إياي
بالاجتماع عنده في دار الحكومة مساء؛ لحضور المأدبة التي أعدها كرامًا للوفد
السلطاني، وقد كان الوالي دعاني ومن كان معي لهذه المأدبة يوم وصولنا إلى
جيبوتي) .
ثم قال بعد كلام في حال البلد وشؤونها:
(في الساعة العاشرة على الحساب الشرقي، سمعت أنغامًا وأصواتًا آتية من
بعيد، وبينما أنا أتفكر في ما عسى أن يكون ذلك، إذ أخبرت بورود وفد قبائل
عبسا، فخرجت إلى شرفة الفندق، فرأيت جمهورًا من الناس نحوًا من خمسمائة
ذوي ألوان نحاسية، كبيري الأجسام، متناسبي الأعضاء، مسلحين بالحراب
والهراوات، ويكبرون مرة، وينشدون الأناشيد الحربية مرة أخرى، وجماهير
الناس تمشي معهم محتاطين بهم للتفرج عليهم، وبعد أن وصلوا أمام الفندق، أخذوا
يسلمون علينا بلسانهم، ولما انتهوا من السلام تحلقوا، وصاروا يغنون ويرقصون،
والبعض منهم كانوا يتبارزون داخل تلك الحلقة، ويمثلون حروبهم بأصوات خشنة
مدهشة بأوضاع خفيفة وسرعة عجيبة، مما يدل على أنهم أقوام حربيون أولو بأس
شديد وميل للحرب والطعان، وبعد ذهاب هذا الوفد أتى وفد الدانغاليين، وبعدهم
وصلت وفود العرب الوطنيين بطبولهم وزمورهم، ثم انصرف الجميع شاكرين لما
لقوه منا من الإكرام، وكانت قد دنت الساعة الثامنة على الحساب الإفرنجي،
فارتديت الكسوة الرسمية البيضاء، وذهبت أنا ورفيقي؛ لحضور المأدبة التي دعينا
إليها) اهـ المراد.
وفيه من العبرة أن للدولة العلية وسلطانها نفوذاً معنويًّا في نفوس جميع
المسلمين، لم تحسن الانتفاع منه ولا النفع به في الماضي، فعسى أن تنتفع به في
هذا العهد الجديد الذي دخلنا فيه، وهو آخر الرجاء في حياة هذه الدولة، فعسى أن
لا يقطعه أصحاب النفوذ بالمنازعات الجنسية والأهواء الشخصية. وفيه أيضًا أن
الوالي الفرنسي يعامل أولئك الناس الذين يعدهم متوحشين بالاحترام؛ ليؤنسهم
بحكمه، ويأمن جانبهم، ويكسب مودتهم، ودولتنا تحتقر أمثالهم في اليمن والحجاز
والعراق، فيتبدل حبهم لها بغضًا، وميلهم إليها نفورًا وإعراضًا، فعسى أن لا
تعود إلى ذلك في هذا الزمان.
وقد انتقدنا على الرحلة ذكر الشهر الذي سافر فيه المؤلف (وهو نيسان) دون
ذكر السنة في أولها، وجريانه على ذلك في أثنائها، حتى انتهت في ١٢ تموز
(يوليو) , ولكن يعرف القارئ أن الرحلة كانت سنة ١٨٩٦ م من ترجمة براءة
الوسام الذي أهداه النجاشي إلى صادق باشا، وترجمة المكتوبات التي أرسلها إليه
نظار النجاشي وآل بيته.
***
(عقود الجوهر في تراجم من لهم ٥٠ تصنيفًا فمائة فأكثر)
نشرنا في آخر الجزء الماضي إعلانًا لجميل بك العظم محاسب المعارف
ببيروت عنوانه (ذيل لكشف الظنون) علم منه أنه يعني منذ ١٦ سنة بجمع ما فات
صاحب كشف الظنون من أسماء الكتب، وما حدث بعده منها. وقد استحسن في
أثناء بحثه أن يضع كتابًا في تراجم المكثرين من التصنيف الذين لهم خمسون مصنفًا
فمائة فأكثر، وقد أتم الجزء الأول من هذا الكتاب وسماه (عقود الجوهر) وطبعه،
وهو يذكر للعالم ترجمة مختصرة ثم يذكر مصنفاته مرتبة على حروف، فجزاه الله
خيرًا , وقد اقترحت عليه في بيروت أن يجعل الذيل رأسًا، فيؤلف كتابًا مستقلاًّ في
أسماء الكتب والفنون، فعسى أن يلقى من المساعدة ما يرجح ذلك عنده.
***
(الاشتقاق والتعريب)
قد علم قراء المنار في العام الماضي، ما كان من أعضاء نادي دار العلوم من
المناظرات في مسألة التعريب , وقد عنى الشيخ عبد القادر أفندي المغربي أحد
محرري جريدة المؤيد في أثناء ذلك، بوضع كتاب مستقل في المسألة، وطبعه في
هذا العام، فبلغ زهاء ١٥٠ صفحة بقطع كتاب الإسلام والنصرانية. وقد ترجم
المؤلف كتابه بقوله فيه: يبحث في ما يعرض للغة العربية من تكاثر كلماتها
بواسطتي الاشتقاق والتعريب، وأن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من
اللغات، وأن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام والاستشهاد على ذلك،
فهو إذًا مؤيد الرأي القائلين بجواز التعريب والتصرف في اللغة بحسب الحاجة،
بل توسع في ذلك بما لا يوافقونه كلهم عليه فيما يظن، ودعم كلامه بضروب من
الأمثلة والشواهد والدلائل، لم يسبقه إليها الباحثون، وقال في أواخر الكتاب ما
نصه:
نتائج وملاحظات
قد تحصل معنا أن الكلمات التي تستعمل اليوم في اللغة، وينطق بها
المتكلمون بتلك اللغة - قسمان: قسم عربي محض، وقسم دخيل , والدخيل أنواع
منه ما أدخل أهل اللغة أنفسهم إلى لغتهم قبل الإسلام؛ كسندس إبريق. ويسمى في
الاصطلاح معربًا , ومنه ما أدخله المولدون في صدر الإسلام ويسمى مولدًا , ومنه
ما أدخله المحدثون بعد هذين الدورين ويسمي محدثًا أو عاميًّا , والطريقة في إحداث
النوعين الآخرين المولد والعامي - قد تكون الاشتقاق: كالعربية والبارود والفسقية
قد تكون التعريب: كالبوس والبازهر والماهية، وقد تكون التصرف في الاستعمال
بأن نستعمل الكلمة على خلاف المعنى المستعملة فيه عند العرب: كالقطر
والقطائف.
والدخيل بأنواعه الثلاثة لا يحط من قدر الكلام العربي إذا وقع فيه، وإن كان
في أصله غير عربي؛ لما قدمناه من الأدلة على ذلك عند الكلام على التعريب،
والأدلة المذكورة تصلح أن تكون مقدمات منطقية نتيجتها (أن الكلمات العربية
المعربة عربية أو بقوة العربية) ، حتى لا تكون ثَمَّ فرق في صحة الاستعمال بينها
وبين تلك التي تكون عربية الأصل: بحيث يصح لك أن تستعمل كلمة (رصاص)
الأعجمية المعربة في كل موضع تستعمل فيه كلمة (صرفان) العربية. وما يدرينا
أن صرفان وأمثالها من الألفاظ القديمة التي نحسبها عربية والتي لا رائحة للاشتقاق
من مادة عربية غير عربية في أصلها، وإنما هي دخيلة.
وقد ذكرنا في جملة تلك الأدلة دليلاً لا نزاع في صدق دلالته: وهو أن علماء
البادية أنفسهم، حصروا شروط فصاحة المفرد في ثلاثة أمور: خلوصه من تنافر
الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس، ولم يشترطوا في فصاحته قط أن
يكون عربيًّا قحًّا، لا شائبة فيه للعجمية.
إذا راعيت في الكلمة الدخيلة التي تودعها كلامك خلوصها مما ذكره علماء
البلاغة، كان كلامك فصيح المفردات , وعليك بعد ذلك أن تراعي سائر ما اشترطه
أولئك العلماء في فصاحة الكلام وبلاغته. حتى إذا فعلت كان كلامك فصيحًا بليغًا.
لا يكون كلامك فصيحًا: إذا أودعته من الكلمات العربية ما كان غريبًا عن
أفهام المخاطبين، أو ما تنبو عنه أذواقهم وتتجافى طباعهم، مثل أن تقول: (وكان
الطهاة يغرفون ألوان الطعام بالفشليل، والفشليل كلمة معربة عن قفليز الأعجمية ,
ومعناها المعرفة كما لا يكون فصيحًا إذا أودعته من الكلمات العربية المحضة ما
كان من بابه تلك الكلمات: كأن تقول: (أتانا مختالاً في مشيته. منفشلاً للحيته)
تعني: منفشًا لها. أو تقول: (لحاه الله من رجل عفنجش) أي فظ جافي الطباع.
من هذا القبيل الكلمات الإنكليزية أو الألمانية مثلاً التي تكون مخارج حروفها صعبة
متنافرة، يتعذر أو يتعسر علينا النطق بها. ولم نعهد مثلها في مخارج لغتنا.
حتى إذا اضطررنا إلى إدخال كلمة من هذا الصنف في لغتنا، كان علينا حينئذ أن
نشذبها ونهذبها، ونوفق بينها وبين أوزان لغتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ كي
تواتينا ويسهل علينا النطق بها. وإلا كان علينا أن نهجرها، ونعد الكلام الذي
يتضمنها غير فصيح. كما إذا تضمن كلمة متنافرة مثلها من الكلمات العربية الأصل
كالهعخع وهو اسم نبات. قيل لأعرابي: أين تركت ناقتك؟ قال: تركتها ترعى
الهعخع. وكأن تقول لآخر: إياك أن تتزوج الهُمَّقعة بضم الهاء وتشديد الميم
المفتوحة. تعني الحمقاء الورهاء [١] .
واعلم أن الكلمات الدخيلة في لغتنا مهما كان أصلها، ترجع إلى قسمين: قسم
مدلوله الجوهر والأعيان مثل نرجس ولجام. وقسم مدلوله المعاني والأحداث مثل
البوس، فكلمات القسم الأول إذا شاعت بيننا وحلَّت في أسماعنا وتداولتها الخاصة
كما تداولتها العامة، وتنزهت عن أن تكون من (ألفاظ السفلة) كما سيجىء في
قول ابن المقفع - ينبغي أن يجوز لنا استعمالها وإدماجها في كلامنا؛ لأن الكلمة
التي من هذا القبيل إما أن لا يكون لها مرادف في لغتنا أو لها مرادف مهجور،
وحينئذ يكون الوجه في استعمالها ظاهرًا. وعذرنا فيه مقبولاً ٠ وإما أن يكون لتلك
الكلمة مرادف معروف ومشهور، فيكون لنا الحق في أن نستعملها أيضًا؛ اقتداءً
بأهل اللغة أنفسهم الذين كانوا يتركون كلماتهم العربية إلى مرادفاتها من الكلمات
المعربة الدخيلة، مثال ذلك كلمة (كوسج) الأعجمية، فإنهم لا يكادون يطلقون
على الكوسج سواها. وقلما تراهم يستعملون كلمة الأثط العربية بل إذا وردت هذه
في كلامهم فسروها بالكوسج؛ لكونها أشهر منها وأعلق بأذهان الناس، كما يفسر
شراح الحديث كلمتي (الدجر) و (اللياء) العربيتين بكلمة اللوبياء الأعجمية
المعربة.
وقد كثر استعمال الدخيل والإعراض عن الأصيل في كلامهم، كثرة تشعر
بأن هذا الصنيع طبيعي في اللغة وضرورة لا يمكن دفعها. بل يشبه أن يكون قياسيًّا
لأهل اللغة من ورائه غاية محمودة: هي توسيع نطاق لغتهم وتسهيل أمرها على
ممارسها.
هذا في كلمات القسم الأول الذي مدلوله الجواهر والأعيان. أما القسم الثاني
الذي تدل كلماته على المعاني والأحداث كالبوس، فهذا ربما ضر الاستكثار منه فيما
أظن إذ يكون مدرجة لضياع اللغة ومسخها وتحويلها عن أصلها. وقلما نجد
العرب نقلوا إلى لغتهم فعلاً أو مصدرًا أو أسلوبًا خاصًّا من أساليب كلام الأعاجم.
وشاهد ذلك معاجم اللغة ودواوين آدابها، وإن كان شيء من ذلك فهو قليل جدًّا
ككلمتي (الهرج , والنفاق) الحبشيتين [٢] .
وأكثر ما كان حدوث هذا النوع من الكلمات في زمن ترجمة الاصطلاحات
العلمية في العصر العباسي. أما في زمن الجاهلية فلعله لم يتخط القبائل التي عاشت
مع الأعاجم وكثر امتزاجها بهم: كغسان ولخم وجذام. ومثل هذا لا يصلح حجة
للقياس والجواز العام نعم، إن اللغة بمجموعها جواهر وأحداثًا محولة عن لغة
أعجمية كما أثبتناه في صدر هذا الكتاب. ولكن هذا في تحول اللغة وتولدها
المتوغل في القدم. لا في التحول التدريجي الذي يفهم من إطلاق كلمة التعريب.
والذي كان يحصل على ألسنة العرب بعد أن قامت لغتهم بنفسها واستقلت بأصولها
وقواعدها، فإنهم إذا ذاك ما كانوا يرجعون في وضع كلمات الأحداث والمعاني إلى
الاستعانة بلغات غيرهم. وإنما يرجعون إلى فضل ذكائهم وذلاقة لسانهم. وحسن
طريقة الاشتقاق في لغتهم. فهم يضعون أو يشتقون للمعاني التي تجول في نفوسهم
من الكلمات ما يغنيهم عن التطفل في ذلك على سواهم. أما الجواهر والأعيان فقد
يتعذر أو يتعسر عليهم أن يضعوا لها كلمات. بعد أن ضرب المستبضعون والتجار
في طول جزيرتهم وعرضها. وهم ينادون باسم الخيار واللوبيا والباذنجان،
والكوب والإبريق، والمسك والبنفسج والسندس والإستبرق، والفيروز والبلور
والجام والدانق، والدرهم والدينار والعربون، الي غير ذلك من أسماء الأدوات
والفرش والماعون. وقد ضاق ذرع العرب بهذه الأسماء وأعجزتهم كثرتها،
فاضطروا إلى أن يرحبوا بها، ويلقون حبلها على غاربها. اهـ المراد منه.
وثمن الكتاب خمسة قروش، وهو يباع في المكاتب المشهورة.