للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة خلق القرآن وقدمه
(س١٠) من جدة (الحجاز) لصاحب التوقيع.
حكيم الإسلام بحر العلوم العقلية والنقلية، تاج رأس السنية سيدي محمد رشيد
رضا أفندي منشئ مجلة المنار الغراء، لا زال في مقام كريم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من العجب أني لم أعثر في مجلدات المنار
على مبحث في القرآن المجيد المكتوب في المصاحف ... إلخ، تكونون كتبتموه أو
سُئِلتم عنه؛ لنكتفي عن أن نسألكم، فنروم من غيرتكم على الدين الإسلامي أن
تفيدونا بما هو الحق الذي يجب اعتقاده في مسألة القرآن الواقع فيها الخلاف بين
الحنابلة وأتباع الحنفية والمالكية والشافعية الآن، بالبيان الشافي الكافي بأدلة
الفريقين، وترجيح أي الاعتقادين على الآخر؛ لأن لكم القدح المعلى في هذا الفن،
ولكم الأجر والشكر في الدنيا والآخرة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حسين
(ج) اعلم يا أخي قبل كل شيء، أنه ما أضر الإسلام والمسلمين شيء
كالخلاف والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، يوجه كل باحث منهم قواه إلى تأييد أقوال
مذهبه الذي ينتسب إليه، وتفنيد كل ما يخالفه؛ ولذلك وردت الآيات والأحاديث
الشريفة في حظر الخلاف والتشنيع على المختلفين، حتى قال عز وجل لرسوله
صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ، وقال للمسلمين: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٥) , ولعل
الجهل بمسألة من المسائل مع الوفاق والاجتماع، يكون أحيانًا خيرًا من العلم بها مع
الخلاف فيها والتفرق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبين شيئًا
فيترك بيانه؛ لأجل خلاف المسلمين في الحاجة إليه، كما فعل يوم أراد أن يكتب
لهم كتابًا لن يضلوا بعده أبدًا كما في صحيح البخاري , وقريب من ذلك ما كان حين
أراد أن يبين لهم ليلة القدر كما في الصحيح أيضًا , وغرضنا من هذا تذكير السائل
الكريم بأنه لا ينبغي له ولا لغيره أن يسأل عن شيء؛ لأجل تأييد ما يراه هو فيه
وبيان خطأ المخالف له من المسلمين.
واعلم يا أخي ثانيًا أن المحاكمة بين المذاهب؛ لأجل ترجيح بعضها على
بعض، هي من أقوى أسباب الحمل على تعصب أهل كل مذهب لمذهبهم، وملاحاة
المخالفين لهم ومعاداتهم، وقلما يوجد منتسب إلى مذهب ينظر في قول المخالف
وفي دلائله نظر المستجلي للحقيقة، بل ينظر إليه بعين النقد والبحث عن مواضع
الضعف ولو في التعبير؛ ليهجم عليه من موضع ضعف، فينتقض بنيانه ويبين
بطلانه.
إذا علمت هذا وذاك، وأنت تعلم أن المنار أنشئ للجمع والتوفيق لا للخذل
والتفريق، تبين لك العذر في عدم الإجابة إلى ذكر أدلة المذاهب في المسألة
والترجيح بينها، مكتفيًا ببيان الحق فيها، وهو ما كان عليه السلف الصالح من غير
جدال ولا نضال، ولا ما كره لنا الله من القيل والقال.
إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المتلو
بالألسنة، هو كلام الله المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم،
والرسول المبلغ له عن الله - تعالى - ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه
مخلوق على الإطلاق، أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن
بها الله، ولا قال بها رسوله، ولا أصحاب رسوله، ولا التابعون لهم في هدايتهم،
ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها. من البدع أيضًا أن
يقال: إن حروفه مخلوقة، وإن قراءتي له مخلوقة، وربما كان ذريعة إلى ما هو
شر منه مع عدم الحاجة إليه، وضرر إضاعة الوقت في مثله.
إننا لم نخض في مسألة الخلاف في خلق القرآن اتباعًا للسلف. ولكننا بينا في
تفسير أول آية من الجزء الثالث من القرآن معنى كلام الله وتكليمه، وكون كلامه
عز وجل شأنًا من شؤونه قديمًا بقدمه. واتباع مذهب السلف يمنعنا من الخوض في
الخلاف، فنحن نبين الحق الذي نعتقده وندين الله به، وندعو إليه، ولا نزيد على
ذلك. وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كتب في رسالة التوحيد جملة
في مسألة هذا الخلاف، ثم اعترف بأنه أخطأ مذهب السلف في ذلك، وأمر بحذف
تلك الجملة من الرسالة في الطبعة الثانية، ولما وفقنا لطبع الرسالة ثانية مصححة
بتصحيحه حذفنا تلك الجملة منها.
ومن المعلوم أن فتنة القول بخلق القرآن حدثت في أول القرن الثالث، فخير
لنا أن نجعلها نسيًا منسيًّا، ونكون في ذلك كأهل القرن الأول والثاني. فإن قيل:
كان يكون هذا حسنًا لو رضي الناس به وجروا عليه. ولكن المسألة لا تزال تقرأ
في الكتب، فتعلق شبهة البدعة ببعض الأذهان، فوجب إبطال تلك الشبهة التي
يزعم أصحابها أنهم جاءوا بحقائق الفلسفة؛ إذ جعلوا القرآن عضين: منه كلام نفسي
وكلام لفظي، وقالوا: هذا حادث وذاك قديم. قلنا: إن المجادلات النظرية تحيي
تلك النظريات الفلسفية، وإنما نميتها بالنهي عنها وبيان الحق الذي كان عليه السلف
لا نرى غير ذلك، وبالله التوفيق.