للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

(س ١١) من بيروت لصاحب الإمضاء.
حضرة العالم الفاضل، والغيور الصادق، معتمد الأمة الإسلامية السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر.
هل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة الجاني (كما ثبت في
الصحيحين) جناية على الإنسان، وإجحاف بحقوق المدنية، كما يظهر ذلك من
مقالة سطرت في جريدة - لبنان - الصادرة في ١٦رمضان سنة ١٣٢٦ عدد ٧٧٧
تحت عنوان (مجلس الإدارة وجريدة لبنان) ، أو هو نهاية في العدالة ومحض خير
الأمة، وغاية في حفظ دماء البشر، وتعليم للناس ليعين بعضهم بعضًا إذا أخطأ،
وتربية لهم حتى لا يُمَكِّن أحدُهم ابنَ حيه باللعب بمسدس مثلاً، أفيدونا الجواب،
ولكم من الله الثواب.
سبب المقالة فيما يظهر أن بعض اللبنانيين يود انتخاب أناس من مجلس
الإدارة، وبعضهم يروم انتخابهم من مشايخ الصلح ومنهم صاحب الجريدة. حجة
الفريق الأول أن بعض مشايخ الصلح أخطأ في أمر ما، فلزم لهذا الإعراض عنهم،
وتيمم رجال مجلس الإدارة لذلك، قال كاتب المقالة ما نصه (بلا زيادة حرف) .
(على أنه إذا صح لنا تبديل النظام، ونزع ذلك الحق من أيدي مشايخ
الصلح؛ لخطأ ارتكبه واحد منهم، صح استبدال نظام كل حكومة عندما يرتكب أحد
رجالها جريمة من الجرائم، ومجازاة كل مأموريها. وكان مثلهم مثل العاقلة في
الشرع الشريف. فإنه إذا قتل أحد الصاغة مثلاً في قرية، وما أمكن معرفة قاتله
وجبت الدية على جميع أبناء حرفته، وهكذا مشايخ صلح وجب بحسب تلك القاعدة
إلقاؤهم جميعًا تحت تبعة ما يرتكبه أحدهم) اهـ ثم رد على من يبتغي الانتخاب
من مجلس الإدارة اللبنانية، وحض على الانتخاب من مشايخ الصلح. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامل الغلايني
(ج) جعل الدية على العاقلة وهي عصبة العشيرة (العائلة) خاص بقتل
الخطأ، وحكمته تكافل العشيرة وتعاونها في المصيبة، فهو من قبيل إيجاب النفقة
للمعسرين من الأقربين على الموسرين منهم، على ما في هذا وذاك من التفصيل
والخلاف. وهذا يرد زعم بعض الجاهلين بالشريعة أن الإسلام لم يقرر في أمر
العائلات شيئًا، كأن العائلة لا وجود لها في الإسلام، على أنه لا يوجد في شريعة
إلهية ولا وضيعة من أقدم الشرائع إلى أحدثها مثل ما يوجد في الشريعة الإسلامية
الغراء من إحكام روابط القرابة ووشيجة الرحم من الأحكام والآداب، ومن أهمها
مسائل النفقات، ومسألة جعل دية قتل الخطإِ على عاقلة القاتل (وربما كان لفظ
العائلة محرفًا عن العاقلة) ؛ لأنه لما كان معذورًا بخطأ، وكانت الدية ربما تذهب
بثروته لا سيما إذا تكرر الخطأ منه، جعلتها الشريعة في عاقلته يتعاونون عليها،
وقد تقدم في التفسير من هذا الجزء وفي غيره كلام في تكافل الأمة، فما بالك بتكافل
العشيرة.
وحكم العاقلة ورد في الحديث لا في القرآن، وقال العلماء في شرح بعض
الأحاديث الواردة في ذلك: إنه مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} (الأنعام: ١٦٤) وأجابوا عن ذلك بجعل الأحاديث الواردة في ذلك
مخصصة لعموم الآية؛ بناء على قول جمهور أهل الأصول بتخصيص القرآن
بأحاديث الآحاد، ونقلوا عن بعض العلماء والمذاهب خلافًا فيها.
قال في نيل الأوطار: وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى، فإن
عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب ثم السبب،
ثم في بيت المال. وقال الناصر: إنها تجب على العصبة ثم على أهل الديوان يعني
جند السلطان. وقال أبو حنيفة: إنها تجب على أهل الديوان دون أهل الميراث،
ولم ينكر هكذا في البحر. ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة للأحاديث الصحيحة،
وقد حكى في البحر عن الأصم وابن علية وأكثر الخوارج: أن دية الخطإ في مال
القاتل ولا يلزم العاقلة، وحكى عن علقمة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والبتي وأبي
ثور: أن الذي يلزم العاقلة هو الخطأ المحض وعمد الخطأ في مال القاتل اهـ.
أقول: وورد في بعض الأحاديث المتأخرة ما ظاهره نسخ العاقلة كحديث
عمر بن الأحوص أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا يجني والد على
والده، ولا مولود على والده) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه
وحديث أبي رمثة قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فرأيت برأسه ردع حناء وقال لأبي (هذا ابنك؟ قال نعم، قال: أما إنه لا
يجني عليك ولا تجني عليه) ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: ١٦٤) رواه أحمد وأبو داود والنسائي،
والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم وفيه روايات أخرى
وحديث الرجل من بني يربوع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلم
الناس، فقالوا: يا رسول الله، هؤلاء بنو فلان قتلوا فلانًا، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا تجني نفس على نفس) رواه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح
والنسائي. وقد أدخل الفقهاء الأحاديث في باب التخصيص، فأخرجوا الوالد
والولد من العاقلة والنسخ فيها أظهر. ولكن العمل جرى على الإحكام. وكما أن
العاقلة مخالفة لظاهر الآية التي استدل بها الرسول في الحديث السابق، هي مخالفة
للقياس أيضًا، وقد أجاب الفقهاء عن الأول بما علمت من التخصيص، وفَصَّل
الجوابَ عن الأمرين الإمام ابنُ القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فقال:
(فصل) ومن هذا الباب قول القائل: حمل العاقلة الدية عن الجاني على
خلاف القياس ولهذا لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا في الصلح، ولا الاعتراف، ولا
ما دون الثلث، ولا تحمل جناية الأموال، ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك
كله.
(والجواب) أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانه عليه
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: ١٦٤) ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها
وبهذا جاء شرع الله - سبحانه - وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء
من هذا كما سنبينه، والناس متنازعون في العقل، هل تحمله العاقلة ابتداء أو
تحملاً على قولين، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير
كالزوجة والولد، هل تجب ابتداء أو تحملاً على قولين؟ وعلى ذلك ينبني ما لو
أخرجها من تحملت عن نفسه بغير إذن المتحمل لها، فمن قال هي واجبة عليه
ابتداء قال: لا تجزي، بل هي كأداء الزكاة عن الغير. وكذلك القاتل إذا لم تكن له
عاقلة، هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا بناء على هذا الأصل؟ والعقل فارق
غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاص بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال
كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تتحمل العمد بالاتفاق ولا شبهه على الصحيح،
والخطأ يعذر فيه الإنسان؛ فإيجاب الدية في ماله فيه ضرر عظيم عليه من غير
ذنب تعمده، وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته،
فلا بد من إيجاب بدله ٠ فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب
بدله على من عليهم موالاة القاتل ونصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك، وهذا
كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح،
وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو، فإن هذا أسير بالدية التي لم يتعمد سبب
وجوبها، ولا وجبت باختيار مستحقيها، كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في
الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة،
ليس أهلاً أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد في الغالب، لا
يكاد المتلف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل
العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقلته واحتمال الجاني لحمله، وعند أبي
حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدار كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه، وعند الشافعي
تحمل القليل والكثير طردًا للقياس، وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد؛ فإنه سلعة من
السلع، ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع.
وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر؛ وهو أن
المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية، ويشتركان فيما تحمل
العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره، ولا صلحه، فلا يجوز
إقراره في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة، وهذا هو
القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب
المال عليها، فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره
فيتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان
إلى المحتاجين، كأبناء السبيل والفقراء والمساكين، وهذا من تمام الحكمة التي بها
قيام مصلحة العالم، فإن الله - سبحانه وتعالى - قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا
تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد
خلة الفقراء، وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا
أخوين شقيقين؛ ولذا جمع الله بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: ٢٧٦) ، وقوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو
عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: ٣٩) ، وذكر سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة،
وهي ثلاث: عدل وظلم وفضل، فالعدل البيع والظلم الربا، والفضل الصدقة، فمدح
المتصدقين وذكر ثوابهم، وذم المرابين وذكر عقابهم، وأباح البيع والتداين الي أجل
مسمى، والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على
بعض: كحق المملوك والزوجة والأقارب والضعيف، ليست من باب عقوبة الإنسان
بجناية غيره، فهذه لون وذاك لون، والله الموفق اهـ.
فتبين مما تقدم كله أن جعل الدية على العاقلة بشروطه؛ هو من باب إعانة
من يقع في مصيبة وتلزمه غرامة، لم يتعمد سببها، وأنه من أسباب تكافل الأسر
والعشائر (العائلات) وتضامنها، وإحكام روابط المودة وتقوية وشائج الرحم بينها،
وأن من كتب ما كتب في جريدة لبنان، لم يفهم معنى كون الدية على العاقلة جملة
ولا تفصيلاً، فكيف يفهم حكمته؟ .
وهكذا نرى شأن الذين ينتقدون أحكام الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، يقولون
ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، فيجنون على العلم من جهة، ويؤرثون
الأضغان الدينية من جهة أخرى، وما كان أغناهم من الحالين إذا لم يكونوا متعمدين
للإفساد، كما هو شأن الكثيرين منهم.