للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الانقلاب العثماني الميمون بخلع عبد الحميد)
(رأي جرائد مسلمي الهند فيه)
أرسل إلينا صديقنا مولوي محمد إنشاء الله، صاحب جريدة (وطن)
الغراء التي تصدر باللغة الأردية في (لاهور) مقالتين في الانقلاب: أحدهما من
قلمه نشرها في فاتحة أول عدد صدر من جريدته بعد العلم بالانقلاب الأخير وخلع
عبد الحميد، ثم ترجمها بالعربية والثانية نشرت في جريدة (أبزرور) باللغة
الإنكليزية، وسألنا رأينا فيهما، فنحن ننشرهما ثم نبدي رأينا فيهما، وهذه هي
الأولى؛ ننشرها مع إصلاح قليل لبعض الألفاظ يحدد المعنى، ولا يضيع منه شيئًا
(وعنوانها الانقلاب المشؤوم في الدولة العلية) .
لقد طير البرق إلينا اليوم النبأ المشئوم الذي فتت الأكباد، وألبس القلوب
ثوب الحداد، وقد ساد الأسف بمجرد سماعه على العالم الإسلامي في الهند وسائر
أقطار المعمورة، ومن التألم الناشئ منه تنفثت الصدور، وذلك النبأ العظيم الذي آلم
العالم الإسلامي بأسره؛ هو نبأ عزل جلالة السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش
الخلافة والسلطنة العثمانية بقرار مجلس الأمة إجماعًا على عزله، ولا أدري هل
انعزل جلالته من عند نفسه، أو اعتزلته جمعية الاتحاد والترقي التي كانت عند
أول ظهوره في بدء إحياء الدستور العثماني أخيرًا، مظهرة عزمها على ارتكاب
هذه الجريمة الشنعاء؛ لكون أعضائها من الناقمين من جلالته، أو الخائفين من ذاته
على الدستور , ولكن علمنا بعد صدور الإرادة الشاهانية بإعلان الدستور،
وانقلاب الوزارة، وتفويض مسند الصدارة إلى سماحتلو (؟) كامل باشا الصدر
الأسبق أن المعتدلين والعقلاء من حزب تركيا الفتاة، لا يرون لزوم عزل جلالة
عبد الحميد، بعد أن صار محبًّا للدستور، وحلف على حفظه، وصرح بعزمه على
تقوية الحزب المذكور، ولا سيما الجمعية الاتحاد والترقي التي لعبت دورًا مهمًّا في
ملعب إحياء الدستور وترقية البلاد، حتى صار جلالته لا يبرم أمرًا ولا يصدر
إرادة من غير استشارة الجمعية، ويطيع لها في كل الأمور، وقبل صدارة شرف
الجمعية، وفاه بها علنًا.
وقد مال بكليته إلى الجمعية حتى عاداه حزب الأحرار من تركيا الفتاة،
وعيره بالتخلف عن فرائض الملك الدستوري؛ بوضعه نفسه تحت يد جماعة غير
مسئولة عن صلاح البلاد والعباد، وبعدما ترك استبداده بالحكومة، قد وقع نفسه
تحت نير الاستبداد الأشأم والأشر من الاستبداد الأول , ولكن كل هذه الملاينة
والانقياد لم يجد لجلالته نفعًا، وصارت الجمعية تلهو تلعب به كما تلعب الهرة
بالفارة التي تريد افتراسها وقد أخذت الجمعية تمهد السبيل لعزله، فأبعدت
عساكر الآستانة وأرسلتها إلى الولايات، ووضعت دار الخلافة تحت حماية
العساكر الموالية للدستور، والتي جاءت بها من سلانيك وغيرها، وطلبت من
جلالة السلطان عبد الحميد أن يرضى بوضع فيلق الحرس الهمايوني أيضًا تحت
أمرة نظارة الحربية، وقد رد جلالته هذا الطلب غير مرة. لكن لما رأى الجمعية
مصرة على ذلك أجاب طلبها (وإن كانت الإجابة خطأ) كما ظهر الآن؛ لأن
جلالته أراد أن يبرهن للعالم (أصالة) وللجمعية تبعًا، حسن نيته وميله إلى جهة الدستور.
إن جمعية الاتحاد والترقي؛ كانت لا تزال تعتمد على الجيش في حفظ
الدستور؛ ولذلك لم تكن تسمح بإبعاد العساكر الموالية للدستور إلى الولايات، وإن
كانت نار الفتن الداخلية متأججة في جميع الجهات، والضرورة داعية لإرسال
العساكر إلى الخارج؛ كي يمكن إخمادها وإعادة النظام إلى البلاد؛ ولما أراد الصدر
الأسبق والرجل المحنك كامل باشا استعادة النظام العسكري والطاعة في الجيش،
امتنعت الجمعية عن ذلك، وأخذت تعرقل مساعي الصدر الممدوح وحكومته في
إصلاح المملكة الداخلي؛ ظنًّا منها أن خروج الجيش من يد الجمعية يضعف
قوتها، ويحرج مركزها، ويكون خطرًا على الدستور - لا قدر الله -، وصارت
الجمعية تأخذ على مجاري أمور الحكومة بالقوة القاهرة، كأنها حكومة في حكومة بل
وفوقها، معتمدة على الجيش، وقد شوهت الدستور بسيطرتها على الحكومة ومجلس
الأمة، حتى انقسم حزب تركيا الفتاة إلى حزبين: حزب الجمعية وحزب الأحرار،
ولما غلب حزب الجمعية بفضل الجيش وكثرة أعضائها في مجلس الأمة، وانهزم
حزب الأحرار شر هزيمة في عدة مواضع، اندفع في انتقاد أعمال الجمعية بصدق
اللهجة، وكشف الغطاء عن نيتها المشوهة للدستور، وانتشر بغض
الجمعية بين الأنام، بعد أن كانوا محبين لها، لهجين بشكرها في إعادة الدستور،
وهاج أهالي الآستانة وعساكر دار الخلافة مشهرين سيف عدائهم في وجه الجمعية،
وقلبوا لها ظهر المجن، وفر جميع أنصار الجمعية من أعضاء مجلس الأمة تاركين
مراكزهم في الآستانة إلى مقر مركز الجمعية في سلانيك، وأخذت الجمعية تجند
الجنود لكبح جماح الخارجين عليها والباغين؛ بدعوى المحافظة على الدستور،
وأخيرًا قد فازت الجمعية على مخالفيها، وأجرت الأحكام العسكرية في دار الخلافة،
وأخذت تبحث عن الذين سعوا في محو الدستور وإعادة الحكم المطلق (بزعمها) .
وكلما ننظر في خلال هذه الحادثة المؤلمة من أولها إلى آخرها، نجد جلالة
السلطان عبد الحميد محافظًا على الدستور ومواليًا للعامة والوطن، لم يتعرض
لمجلس الأمة قط، بل صرح في مثل هذه الحالة الحرجة أيضًا عند تعيينه لعلي
كمال بك (كذا) صدرًا لمجلس الأمة، إن مستقبل البلاد لا يقوم إلا بالمحافظة
على الدستور، وهذا دليل بيِّن وبرهان عظيم، على كون جلالته محبًّا للدستور،
ومحافظًا عليه، بارًّا بيمينه، مجتنبًا إراقة دماء الأبرياء، ونرى المبعوثين أو
حزب تركيا الفتاة تائهين في تيه الضلالة، وناسين واجبات صلاح الدولة والمملكة؛
بإسراعهم في عزل عبد الحميد عن عرش الخلافة، وعدم تبصرهم في غوائل
الأمور خاصة عاقبة مثل ذلك الفعل القبيح؛ لأنهم لو تأملوا بحوادث انقلاب
السلطنة الأخيرة، لوجدوا أنه لم يكن لجلالة عبد الحميد يد فيها؛ لأنه كان قادرًا
على أن لا يسمح بإبعاد حرسه الخاص قبل أسبوعين من تلك الكارثة أو جمع عدد
عظيم من العساكر لحفظ مركزه -وعلى الأقل - حض العساكر الموجودة في
الآستانة الذين بغوا وطغوا على الجمعية (وأغرائهم) بالثبات والاستقلال في
الحرب، وجنود قصره على عدم قبول طاعة المهاجمين من غير مدافعة - بل
وإسلامهم للأعداء - كما صرح ضباطهم عند التسلم: (إن نسلم أسلحتنا بأمر
من جلالة السلطان؛ لأنه أبى إراقة الدماء، وقال لنا: إن المهاجمين أيضًا من
أولاده، وهو لا يرضى أن يصيبهم مكروه) وغير هذا، كان من الممكن لجلالته
أن يأخذ لنفسه حماية أقوى دولة من الدول الأجنبية. لكنه لم يفعل ذلك، بل سلم
نفسه للملة، وأثبت للملأ أنه محب مخلص للأمة والوطن، لا يريد محو الدستور
أبدًا وإراقة قطرة دم في سبيل حفظ مركزه على طريق الواجب أيضًا فكان من
واجبات الجمعية وحزب تركيا الفتاة؛ أن يحترم عواطف ذلك السلطان الشفيق،
والسياسي المحنك، الذي عند قبضه على صولجان الملك كانت السلطنة في أسوأ
الحال من الإفلاس، وعدم قوة الحربية، وخلل نظام الداخلي، وهجمات الأعداء
الخارجي، وكانت الأمة جاهلة عارية من العلوم الحديثة، منقسمة على نفسها أي
انقسام، أدى ذلك الانقسام إلى ضعفها واضمحلالها إلى حد حكم العالم بموتها، فشمر
على ساق الجد، وقوى مركزها بين الدول، وأصلح الخزانة وعمرها، حتى جعل لها
اعتبارًا ماليًّا في أسواق أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم، ودرب الجيش
على قواعد الحرب الحديثة، وأكمل تسليحه بأحدث الآلات، حتى صار الجيش
نفسه اليوم عليه بعد أن كان له، وكل فضل الجيش في التربية والعدة والعدد من
بركات عبد الحميد لا غير، فانظر يا أيها القارئ، كيف انقلب الحال! ! سعى في
انتشار التعليم والعلوم الحديثة في البلاد وأقلع صدأ الجهل عن مرآة قلوب العباد،
إلى أن صاروا يفهمون معنى الوطنية والاتفاق والاتحاد، فالذين علمهم الوطنية
والاتحاد صاروا اليوم يرمونه بعدم محبة الوطن ومخالفة الدستور، إن هذا لشيء
يراد.
قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد وراء سعادة الأمة والملة، وعمل أعمالاً
أثمرت رفاه البلاد والسلطنة: وعمَّر الطرق، وبنى السكك الحديدية، وأجرى
الترع والقنوات، وأخصب المفاوز والقفار، وأوصل الأقطار بالأقطار، وحفظ
السلطنة من الضياع أمام أعداء أشداء، حتى أقر العدو والصديق أنه من أمهر
السياسيين في السياسة، وداهية العصر في الدهاء، وفاز في كل المواقع السياسية
المشهورة بهمته الشماء، غير مضيع نفسه ومضعف مركزه، وكان في كل زمان
عاملاً نشيطًا، وسلطانًا حازمًا، لا يعرف الملل، ولا يعتريه الكلل، كان من عادته
أن يعمل ثماني عشرة ساعة في كل يوم، ويشتغل في مهام السلطنة كأدنى خادم
للملك والملة، ولم يكن له شغف بالراحة، ولا كان يعرف الاستراحة، فبعد ما
عانى من المشاق ما عانى، وعمل لصلاح البلاد ما عمل، لما رأى أن غراسه أينعت
وأثمرت، والملة لحكم الدستوري اشتاقت، أعطاها هذه النعمة مرتاح البال وصار
يغذيهم بلبان الأفضال، يقوم بإقامتهم، ويقعد بإقعادهم، كأنه ترك حمل القوم على
غاربهم؛ ليظهروا استعدادهم ومعارفهم، عادت الأمة عليه ورمته بالسعي في إعادة
الحكم المطلق من غير بينة ولا برهان، حتى إذا لم تجد مسوغًا لتجريحه،
استعانت بفتوى الشرع من شيخ الإسلام، وصوبت إليه سهام الملام، وأنزلته من
عرش آبائه الكرام، وهو في هذا الحال أيضًا راضٍ عن الأمة غير منكسر البال
بما فعلت به؛ لأنه يعرف أن القوم مخطئون، وهم لا محالة يومًا على صنيعهم
سيندمون.
فارحم الله بلطفك هذه الأمة الخاطئة التي كفرت بنعمتك الجزيلة، ولم تعرف
قدر ذلك السلطان الجليل، الذي كان خير سلطان لها في مثل هذه الحالة الحرجة،
والموقع الصعب، واهدها اللهم بجاه نبيك؛ أن تكافئ سيئتها بحسنة إعادة السلطان
عبد الحميد على سرير الملك، وإن لم تفعل ذلك، فتحفظ حياته، وتحترمه
احترامًا يليق به، وتنتفع من آرائه وتجاربه وحنكته، من حيث هو مشير مخلص،
خبير في نظم المملكة، وترقية السلطنة. إن لم تنتفع به من حيث سلطان قابض
على زمام الملك، وكن يا مولانا له ولخلفه وأمته خير نصير، إنك على كل
شيء قدير، وبالإجابة جدير.
حضرة الرصيف الفاضل
بعد السلام والاحترام؛ نرسل إليكم اليوم مقالتنا الافتتاحية التي سطرناها في
جريدتنا، في أمر عزل السلطان عبد الحميد. ومعهما مقالة أخرى المنشورة في
جريدة أوبزرور؛ وغرضنا أن تنشروهما في جريدتكم الغراء؛ لتعلم الأمة
العثمانية بأفكار المسلمين الهنديين في ذلك الباب، وإن كان ما كتبناه عن عدم العلم
بالأحوال الموجودة أو خلافا للوقائع، فلكم أن تفندوا أقوالنا؛ لنكون على بصيرة
في المستقبل فيما نكتب بأمور الدولة العلية، ولكم الفضل هذا، واقبلوا فائق
احتراماتي أفندم - ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ٦ مايو سنة ١٩٠٩
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن)
... ... ... ... ... ... ... ... (لاهور بنجاب) الهند
(المنار)
وهذه ترجمة جريدة أبزرور، وهي مفتتحة ببيتين لشكسبير شاعر الإنكليز
في مصرع يوليوس قيصر الروماني قال:
خلع السلطان عبد الحميد
لقد خلع السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني سلطان تركيا، وخليفة
الإسلام، وأمير المؤمنين، ونودي بمن يخلفه. إن هذا الحادث المحفوف بأعظم
الأخطار الممكنة، سيؤثر تأثيرًا مزعجًا في العواطف الإسلامية في العالم بأسره،
ومن شأنه أن يؤدي إلى قلق عظيم في جميع الممالك الإسلامية من النيجر في أقصى
الغرب، إلى الصين في أقصى الشرق.
إن الزمن القصير الذي مضى على هذا الحادث، لا يبيح لنا الحكم بمقدار
تأثير خلع عبد الحميد في السياسة العثمانية ومستقبل الإسلام، فقد يكون فيه خير
لتركيا، وقد يكون بداية القضاء عليها. ولكننا نعلم علم اليقين أن خلعه قد ذهب من
مرسح العالم السياسي بشخص مفرد، كان له نفوذ عظيم في تكييف التاريخ
الأوربي مدة ثلاثين سنةً، وقبض في راحتيه على مفاتيح الأسرار الدولية في
الغرب، وكان إحسانه نقل حجارة الشطرنج على رقعة السياسة الأوربية، موضع
إعجاب ساسة المسيحيين وحسدهم وبأسهم. وكان حسن تبصره في مشاكل الشرق
الأدنى؛ هو الباعث الوحيد على إنقاذ تركيا من الوقوع في أيدي جاراتها القوية
الطماعة. إذ لا يخفى أن الدولة العثمانية إنما فقدت بلغاريا والبوسنة والهرسك على
عهد الحكومة الدستورية (؟) ، وسيفتح التاريخ فصلاً كبيرًا خطيرًا لوصف
حكم عبد الحميد العظيم الشأن، ويعترف بأن الفضل في سلامة المملكة من
الفوضى، وتحول الاتحاد الأوربي عليها عائد إلى حنكته وحكمته، فإنه لم يسبق
لملك آخر سواه من المتقدمين أو المتأخرين؛ أن لاقى ما لاقاه عبد الحميد من العقبات
الشديدة داخلاً وخارجًا، وهو معرض كل يوم للفتن المرتبة، والبلاغات الأخيرة
الواردة عليه من كل جانب، ومع ذلك فإنه كان ينجلي عنه غبار تلك الحوادث
ظافرًا فائزًا بفضل حكمته وحنكته، وهو الآن قد ترك العرش في ظروف محزنة
مفجعة، بعد أن قضى حياته في التعب والعناء، تارةً في صفاء، وطورًا في
شقاء، وهو في الحالتين قد امتاز بحسن تقديره للواجب الشريف، والدأب على
العمل لسعادة مملكته.
إن التاريخ لم يرو لنا أنكى من هذه الحادثة، وأكثر مفاجأة من هذه الفاجعة،
التي رأينا فيها سلطان الأمة الجليل، والخليفة الشيخ الذي طالما تولى الأمور بيد
قادرة، وكانت إرادته نافذة في أمته، وكان عاملاً نشيطًا لرقي وتقدم شعب متأخر.
تلك الحالة التي رأيناه فيها يهبط من علياء مجده ومكانته على أثر ثورة قام
بها (أبناؤه) ، وهو يتوسل إليهم: أن يبقوا على حياته وحياة أولاده.
ويندر أن يأتينا التاريخ برجل حامت حوله الآراء المختلفة كما حامت حول
سلطان تركيا المخلوع، فقد نادوا به منقذًا لبلاده. كما قالوا: إنه أفسد قومه.
وأطروه، فقالوا: إنه موجد الدستور العثماني ومانحه. وأهانوه فقالوا: إنه أشد
خصوم الدستور. وفرحوا به فقالوا: إنه الذي رفع الأمة المتأخرة وأحياها من العدم
ثم أساؤا إليه فقالوا: إنه منبع الانحطاط، ومصدر تعاسة الأمة العثمانية. جعلوه
عنوان المفاخرة برجل تمكن بدهائه وحكمته من رد مساعي أعداء وطنه، وزعموا
أنه ظالم مستبد ضعيف العقل، لا هم له إلا ترويج مصلحته الخاصة. على أن
خصومه وأعوانه، قد اتفقوا على الاعتراف بمقدرته السياسية، وفوزه في إفساد
مساعي الأعداء الذين أحاطوا به من كل جانب، وحبه الذي لا ينكر للإسلام
وجميع ما له علاقة به، وإنما المستقبل وحده يستطيع أن يحكم الحكم البات في
شخصيته وأعماله؛ يثني عليه، أو يقضي بعدل على الذين دسوا الدسائس لخلعه.
على أن الدور الأخير من حياته، جاء موافقًا لما علمناه من حياته الشريفة،
فإنه منع سفك الدماء، ووعد أن لا يهجر يلديز، ورضي بالخلع المقدر له من أمته
ولم يطلب من القوم إلا أن يسمحوا له أن يقضي بقية حياته مع أولاده في القصر
الذي ولد فيه، على أنهم لم يجيبوا طلبه، بل نقلوه إلى مدينة بعيدة سجينًا في
بلاده، محرومًا من جميع مظاهر الأبهة، معرضًا لمعاملة مكدرة لرجل حساس
نظيره، وهو مع كل ذلك قد تصرف بأنفته المعهودة وصبره المعروف، الذي يليق
أن يفاخر به الهيكل العثماني، والملك الكبير، والرجل الذي صح إسلامه.
لقد قال بورك: (يا لها من ثورة) ، ونحن نقول: أي قلب لا يتأثر؛ إذ
يتأمل في ارتفاع عبد الحميد إلى مستوى تزيغ فيه الأبصار، ثم سقوطه الفجائي.
من كان يظن، وهو ذاهب يوم الجمعة الفائت إلى حفلة السلاملك محاطًا بالهتاف
والدعاء، أن مثل هذه النكبة تحل به بعد يومين من أمة حوت كثيرًا من الشجعان
والأشراف والأبطال، لقد كنا نظن أن عشرة آلاف حسام، بل عشرة ملايين حسام
تجرد من إغمادها؛ لتنتقم له من نظرة احتقار أو أقل إهانة.
ولكن قضت الأقدار غير ذلك، ونقل عبد الحميد ليقضي بقية أيام حياته في
قصر الأتيني، الذي كان مسكنًا لأحد قواده.
(جواب المنار)
كنا نعلم أن الجرائد الهندية تطري السلطان عبد الحميد وتنوه به. ولكن لم يكن
يخطر ببالنا أنها تجهل أحوال الدولة العثمانية في عهده جهلاً مطلقًا، بحيث لا
تدري حقيقة شيء منها ألبتة، كما ظهر لنا من هاتين المقالتين.
كنا نظن أن أصحاب هذه الجرائد يعلمون بعض الحقائق عن الدولة وسلطانها
من الجرائد الأوربية التي لم يتمكن عبد الحميد من استئجارها لمدحه، وأنهم
يكتمون هذه السيئات، ويذيعون بعض أماديح الجرائد العثمانية التي كانت مكرهة
على المدح الباطل، وبعض الجرائد الأوربية والمصرية المستأجرة، أو المخطئة
في اجتهادها، أو المتزلفة الطامعة بنوال ذلك السلطان الذي يعطي العطاء الجم
لمن يواتيه، ويسعى إلى هلاك من يناويه.
وكنا نلتمس العذر لمن نحسن الظن فيهم ونعتقد حسن نيتهم كصديقنا صاحب
جريدة (وطن) ؛ بأنهم لا يحبون أن يبينوا الحقيقة كما هي؛ لئلا يضعف تعلق
مسلمي الهند بالدولة العلية، التي يودون كأهلها وجميع المسلمين الذين سلط عليهم
الأجانب لو تكون أقوى الدول وأعزها، وأن تبقى صلتهم بها قوية شديدة كما هي
سياسة جرائد مسلمي مصر، سواء منهم من كان يستفيد من عبد الحميد ويطمع في
المزيد، ومن ليس كذلك. كنا نعتقد مع التماس هذا العذر أن مدح الجرائد
الإسلامية في مصر والهند لعبد الحميد والدفاع عنه ضر بالدولة، سواء منه ما
كان بحسن نية، وما كان عن طمع في ماله أو رتبه وأوسمته؛ لأن ذلك يجعل
قلوب الملايين من المسلمين متعلقة بشخصه، وهذا شيء يضر (لو كان سلطانًا
مصلحًا، فما بالك وهو سلطان مفسد مخرب) ؛ لأنه يجب أن يكون التعلق بالدولة
لا بالشخص؛ ولأن في كل قوة لعبد الحميد إضعافًا للأمة العثمانية وللدولة العلية؛
إذ اتخذ الأمة عدوة له، وجعل الدولة صورًا متحركة في يده، إذا حاول أحد
الوزراء أو المشيرين أو الولاة أو القضاة فمن دونهم؛ أن يعمل عملاً ما مستقلاًّ
فيها بحسب الشرع والقانون، بتره من جسم الحكومة بترًا، وكان عاقبة أمره خسرًا
فأي سلب للاستقلال وإضعاف للحكومة يكون شرًّا من هذا، ومن الشواهد على
ذلك ما حدثني به أحمد مختار باشا الغازي غير مرة: من أنه حاول جهده أن
يقنع عبد الحميد بجعل القضاء مستقلاًّ دون السياسة والإدارة؛ ليأمن الناس على
حقوقهم وأنفسهم، واستعان على ذلك ببعض كبراء الدولة، فكان السلطان يغضب
لهذا الاقتراح، ويرفضه أشد الرفض، وهل تقوم للدول قائمة أو ترقى الأمم بغير
قضاء مستقل؟ !
وكنا نعتقد أن ذلك المدح الذي غر المسلمين بالسلطان ضارٌّ بأولئك المسلمين
أنفسهم أيضًا؛ لانصرافهم به عن استعداداتهم واتكالهم على من لا ينفعهم، وقد كتبت
في مقالة نشرت في جزء المنار الذي صدر في ١٧ المحرم سنة ١٣١٧ ما نصه:
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين
السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يظهروه أو ينقبوه - ولا أقول أن
يدكوه - يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع
الواسع، وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في
أعناقهم، وسلاسل في أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا
في أسماعهم، ورينا على قلوبهم، وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء، فإنما نزل
من سماء عظمتهم واستبدادهم، وإن تعجب فعجب قول من ليس للدولة العثمانية في
بلادهم: أمر ولا نهي ولا نفوذ ولا سلطان [١] ، (إن حياتنا بين يدي المابين،
وأن السعادة ستهبط علينا من أفق الباب العالي) ، وهم يعلمون أن البلاد التي
تحت جناح المابين ونفوذ الباب العالي تنقص من أطرافها، ويتمزق أهلها كل
ممزق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من المابين والباب العالي؛ إلا الاعتراض على
من مزق الأشلاء وشرب الدماء.
ماذا جنى ويجني أهل جاوه والهند ومصر من الظهور القولي في حب
الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم، فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً، أو سمعنا منهم فيها قولاً، تزيدان عليهم
الضغط والاضطهاد، والقهر والاستبداد، أولا يرون أن الدولة لا ترجع إليهم
قولاً ولا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا.
ولا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغِضوا الدولة , ولكني أقول: إذا أحببتموها
فاكتموا حبها، ولا ترجوا منها ما لا ينال، واعتمدوا في رقيكم على المعونة الإلهية
ثم على جدكم وكدكم، وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة عملية،
فانهضوا معها إن كنتم صادقين، كل عاشق يحذر العذال والرقباء، فكيف لا
تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها؛ إلا مثلما
ينالكم من الضغط الأوربي والاضطهاد.
(نعم.. إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له، ولهجكم بتمداحه. ولكن
تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح الدولة، أقول هذا وأنا أعتقد
أنه لُباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا، وإخلاصنا لأمتنا ودولتنا، ومن بين لنا
بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه، وإذا كان القول صوابًا، فعلى إخواننا
المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه، والمنتظر من الجرائد
الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار؛ أن تنقله إلى لغتها؛ ليحيط به
قراؤها علمًا) ما كتبناه منذ عشر سنين، ولم تكن سيئات عبد الحميد قد ظهرت
لنا جلية، بل كنا نحسن الظن فيه وندافع عنه.
ظهر في هذه الأيام من صدق رأينا أن التغني بمدح عبد الحميد كان مضرًّا
بالدولة، فإنا نرى أصحاب بعض جرائد المسلمين ومن تلقح برأيها منهم، يسيئون
الظن اليوم بالأمة العثمانية وبحكومة الدولة كلها، ويزعمون أن العثمانيين أحرارهم
وجماهيرهم وعسكرهم ونوابهم كلهم مخطئون كافرون للنعمة، جانون على الدولة،
وأن عبد الحميد وحده هو المصيب، وأن استواءه على عرش السلطنة هو الذي
يحفظ الدولة والإسلام، وأن سقوطه عنه خطر على الدولة والإسلام، فيا لله
وللعقول، كيف كان هذا السلطان مصلحًا مرقيًّا للأمة والدولة، وهي بعد ثلث قرن
من إصلاحه لا تصلح أن تسوس البلاد وتحفظ كيان الدولة، ولا تعرف قيمة من
يقدر على ذلك؟ وكيف تبقى دولة يتوقف بقاؤها على وجود شيخ هرم، بلغ
من الكبر عتيًّا، لم يزدد فيه إلا كبرًا وعتوًّا.
كان من سوء إطراء الجرائد المصرية لعبد الحمد قريب مما كان في الهند،
ولما أعلن الدستور اجتمع جمهور عظيم من المصريين للاحتفال بهذا الطور الجديد
للدولة العلية، ومما كان في الاحتفال من العجائب؛ أنه كان يصيح جمهور عظيم
ليحي السلطان عبد الحميد، ولتسقط تركيا الفتاة! ! وما تركيا الفتاة إلا الأمة
العثمانية الناهضة بالإصلاح، والقائمة بأمر حكم الشورى الذي يعبر عنه بحكم
الأمة نفسها بنفسها. ما أضعف البشر الذين يوجد فيهم من يتخيل عبد الحميد في
هذا العصر، كما كان يتخيل قدماء المصريين فرعون الذين قال لهم:
{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) ثم قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: ٣٨) فأطاعوه وعبدوه، كما عبد كثيرون غيره من الملوك.
بعد هذا التمهيد أبين للرصيفين الفاضلين غلطهما فيما كتبا بالتفصيل، إلا ما
كان من المدائح الشعرية لعبد الحميد، وإدعاء أن العالم الإسلامي بأسره يبكيه ويحزن
لخلعه، وحسبنا أن عالمنا الإسلامي العثماني سُرَّ بذلك سرورًا لم يسر بمثله في
حياته وأبدأ بدعاوى صديقي صاحب جريدة وطن، ثم أذكر ما انفرد به الآخر فأقول:
يقول صديقنا الغيور: إن عبد الحميد أثبت للعالم حبه للدستور وإخلاصه له
واستدل على ذلك بأمور:
(١) إعلانه للدستور عند طلبه من غير سفك دم.
(٢) تصريحه بذلك عدة مرات.
(٣) عدم تعرضه لمجلس الأمة بسوء.
(٤) وضع حرسه تحت أمر نظارة الحربية، وإخراج حرسه وعساكر
الآستانة منها، ووضعها تحت حماية عسكر الدستور الذي جيء به من سلانيك
وغيرها.
(٥) أمره أخيرًا لحرسه بالتسليم لعسكر الدستور الذي دخل الآستانة عندما أراد
الاستيلاء على (يلدز) قال: وكان قادرًا على أن لا يسمح بإبعاد حرسه،
وعلى جمع جيش عظيم لحفظ مركزه، وعلى حض العسكر الذي طغى وبغى على
الجمعية على الحرب.
(٦) تركه طلب حماية أقوى دول أوربا، وإنما ترك ذلك حبًّا في الدستور،
وإخلاصًا للمملكة والوطن!!
ونقول: إنه لا يصح من هذه الأدلة شيء:
(١) فإعلانه الدستور لم يكن عن رضى واختيار، بل فاجأه هذا الطلب
المقرون بإنذاره الزحف على الآستانة بالجيوش والكتائب إذا لم يجب إليه، فجمع
مستشاريه وأعوانه الذين أفقر الدولة لإغنائهم، وأذلها لإعزازهم، ومن يرجع إليه
عند المشكلات من غيرهم وهو سعيد باشا، وطفقوا يأتمرون الليل بطوله،
فأجمعوا أمرهم في الصباح على أن المقاومة بالقوة غير مستطاعة؛ فإن عساكر
حصون الآستانة متفقة مع عسكر سلانيك، فهي تساعد ولا تقاوم، بل قيل له: إن
دسائسهم متصلة بحرسه، فصدق ذلك، وناهيك باحتياطه وحذره وجبنه،
واستفتى شيخ الإسلام في عصيان عسكر سلانيك؛ ليحاربهم باسم الدين، ويوقع
الفشل فيهم، فقال له شيخ الإسلام: لا يمكن الإفتاء بعصيانهم وخروجهم على
الخليفة؛ لأنهم يطلبون منه أمرًا مشروعًا؛ وهو جعل الحكم بالشورى كما أمر الله -
عز وجل-. فلما لم يجد في قوس المقاومة منزعًا، أمر بالإجابة على كره، وعزم
على استعمال سلاح المكر والحيلة والكيد الذي فتك به الدستور ورجاله أول مره،
كما ظهر في الفتنة الأخيرة واضحًا جليًّا كالشمس ليس دونها سحاب. ولعل هذا قد
علم الآن عند إخواننا الرصفاء في الهند، فإنهم قد كتبوا ما كتبوا عندما علموا
بنبأ الانقلاب، وقبل العلم بالأسباب.
(٢) وأما أقواله وتصريحاته بحب الدستور: فهي دعوى لا دليل عليها،
ومثله إظهاره الرضا عن جمعية الاتحاد والترقي وكونه منها أو رئيسها، وقد كان
يستعمل هذه المصانعة والمراوغة والدهان في أيام جبروته وعنفوان استبداده، وإننا
نعرف عنه من ذلك ما لا نود ذكره الآن.
(٣) وأما عدم تعرضه لمجلس الأمة، فلم نفهم ماذا يعني به الكاتب. أيعني
أنه لم يرسل حرسه لقتل نواب الأمة، أم ماذا يعني؟ هل كان يمكن التعرض
لهؤلاء النواب مباشرة وأقوى جند الدولة يحرسهم، والأسطول معه ظهير؟ كلا
إن هذا لم يكن ليأتيه من له مسكة من عقل أو إدراك؛ لأنه على فحش قبحه في
أعين الأمم والدول غير معيد للاستبداد، ما لم تسقط القوة الذي أوجدته؛ فلذلك
وجه عبد الحميد كيده وفكره لإسقاط جمعية الاتحاد والترقي بتنفير الأمة منها باسم
الدين، وإلى التفريق والشقاق بين الجيش؛ ليضرب بما يستميله إليه منه ما يبقى
في جانبها وجانب الدستور، وإن هلكت بهذه الملكية الأمة وسقطت الدولة.
(٤) وأما مسألة تغيير حرسه، واستبدال بعض عسكر الدستور بعسكر
الآستانة، فقد راوغ فيه مرارًا ثم أنفذه بالقوة، ولم يكن من سبيل إلى المقاومة
فيه، بعد أن شرعت الحربية في إعدام الذين يخالفون الأوامر العسكرية بحسب
القانون، مع علم الحرس وعبد الحميد أن الأسطول تابع للحكومة ولعسكر الدستور
لا للمابين، وأنه يمكن أن يدمر يلدز عليه وعلى حرسه تدميرًا.
(٥) وأما أمره لحرس يلدز بالتسليم عندما وصل إليهم جيش الدستور بعد
استيلائه على حصون الآستانة بالقوة القاهرة؛ فسببه يقينه بأن المقاومة في هذا
الوقت تفضي إلى تدمير يلدز بالمدافع، بعدما كان من حصرها وقطع الماء والزاد
والنورعنها، وفي ذلك ذهاب حياته العزيزة، الذي جعل الدولة والأمة حفاظًا لها مدة
ثلث قرن.
(٦) وأما دعواه أنه كان يمكن أن ينال عبد الحميد حماية أقوى الدول
الأجنبية؛ ولكنه لم يفعل حبًّا في الدستور، فنقول فيها: إن هذا لم يكن في
استطاعته، لاسيما بعد أن يئس من الفوز والظفر بمكيدته الأخيرة.
ويا ليت شعري، كيف يتصور رصفاؤنا في الهند أن يحارب الألوف من
عسكر الآستانة إخوانهم الذين جاءوا من سلانيك؛ لتأييد الدستور، إذا لم يكن
السلطان هو المحرك لهم؟ خرجوا عن طاعة قائدهم، وصاحوا في مواقع كثيرة:
ليسقط الدستور وليعش السلطان، وحاولوا قتل جميع أعضاء لجنة الاتحاد والترقي
فعلى أي دعامة كانوا يستندون؟ وأية قوة كانوا يعززون؟ أما أنه لو لم تظهر
الدلائل الحسية القاطعة بعد ذلك على أن عبد الحميد كان هو المدبر لهذه الفتنة
والمنفق عليها، لكان العقل وحده حاكمًا بذلك.
وإذا كان عبد الحميد قادرًا على إفساد الجيش الذي جاءت به الجمعية عليها،
ودفعه للتنكيل بها وبالدستور، فكيف كان يكون دفاعًا في مكيدته، لو كان الحرس
الذي رباه في حجر الرفاهة والدلال بقي عنده؟ أفلا يدل هذا على أن الصواب؛
هو ما فعلته الجمعية من إخراج ذلك الحرس الفاسد (الذي لم يطع نظارة الحربية
إلا بالقوة) من قصر هذا السلطان الذي مرد على الاستبداد، حتى امتزج بلحمه
ودمه وعصبه؟ أليس هذا الدليل أصح من دليل صديقنا على كون الرضا بإخراج
ذلك الحرس كان خطأ.
هذا هو القسم الأول من الكلام؛ وهو ما يتعلق بالدفاع عن سيرة عبد الحميد
في عصر الدستور وأما القسم الآخر منه وهو في سيرته قبل الدستور، فيشتمل
على عدة دعاوى، لم يقترن شيء منها بدليل.
١- قال: (إنه أصلح الخزانة وعمرها، حتى جعل لها اعتبارًا ماليًّا في أسواق
أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم) ونقول: إن هذه الدعوى
أغرب ما كتبه الرصيف الصديق، وإنني لا أذكر أن أحدًا من الذين كانوا يطرون
عبد الحميد بالإكراه أو بالأجرة قال ذلك، أو ما يقرب منه، بل كانوا يطرونه
بأمور أخرى لا تظهر مخالفتها للحس كهذه، فقد أفسد عبد الحميد مالية الدولة،
حتى لم يعد لأحد من أوربا ولا من غيرها ذرة من الثقة بها، ولم يعد أحد يقرض
الدولة قرضًا ما إلا بضمان يستولي به على مورد من مواردها بالفعل، حتى
صارت موارد الدولة الأساسية في يد إدارة الديون العمومية وغيرها، وبهذا صار
لبعض الأمور المالية شيء من النظام. وحسبك أنه لم يكن للدولة في هذه السنين
ميزانية تجري عليها الحكومة، بل كان عبد الحميد يغتال الملايين من الدخل،
ويسلط عمال الحكومة على الاستعاضة عن مرتباتهم التي لا يصل إليهم منها إلا
القليل بسلب الأمة ونهبها بشرط أن يجعل له كبارهم كالولاة والمتصرفين نصيبًا مما
ينبهون.
وحسبك أن الحكومة قد عجزت إلى الآن عن تقديم الميزانية إلى مجلس
الأمة، وفر موسيو لوران المالي العظيم الذي جاءت به الحكومة من فرنسا؛ لينظم
ماليتها متعجبًا من الخلل الذي وجده، معترفًا بأن إصلاحه من أشق الأمور، حتى
أنه كاد يكون متعذرًا.
نعم.. إنه عمر بخراب مالية الدولة ماليته الشخصية، فكنز الملايين في
صناديق يلدز، وفي مصارف أوربا وأمريكا، وأنفق الملايين على الشهوات
والجواسيس، وهو يعلم أن عسكر الدولة كان يموت جوعًا وعريًا، حتى إنهم
كانوا يقتاتون في نجد ببذر الحنظل، فقطع أمعاءهم والعياذ بالله.
٢- قال: إنه درب الجيش على قواعد الحرب الحديثة. ونقول: إن الدولة
العثمانية هي دولة حربية بالطبع، وكان السلطان محمود رحمه الله تعالى؛ هو
الذي بدأ بجعل نظام عسكريتها على الطراز الأوربي، وقد سارت الجندية فيها على
ناموس الارتقاء. ولكن اعترضها من سوء سياسة عبد الحميد ما جعل سيرها
بطيئًا، وعرضةً لضروب من الخلل والفساد؛ منه ما حل بدور الصناعة
البحرية والعسكرية (الترسانة والطوبخانة والبارود خانه) ، حتى رجعت
القهقرى، ولو سارت على سنة الترقي لاستغنينا عن شراء السلاح من أوربا بأثمان
غالية، كانت من وسائل سلب المابين للأموال المخصصة للعسكرية، وكم ظهر في
ذلك من الخيانات، وهذا الضرب من الفساد يجعلنا عالة على أوربا في قوتنا
الحربية (ومنها) مقاومته للتعليم العسكري في الآستانة، حتى إنه حاول غير
مرة إبطال المدرسة الحربية التي زعبها بالجواسيس، (ومنها) ترقية الضباط
بالإرادة السنية من غير استحقاق، (ومنها) نفيه وإذلاله للضباط المتعلمين
البارعين ... إلخ ما لا محل لتفصيله هنا، ولو كان المقربون منه جاروه على كل
وساوسه في العسكرية؛ لجعلها أثرًا بعد عين. ولكن نحمد الله تعالى أن مكنها من
القضاء عليه قبل أن يقضي هو عليها.
(٣) قال: إنه سعى في انتشار التعليم وبث العلوم الحديثة، ونقول: إن
التعليم من ضروريات كل دولة وكل أمة في هذا العصر، وكان من مقتضى سنة
الارتقاء أن نكون فيه مثل اليابان، إن لم نكن مثل الفرنسيين أو الألمان. ولكن عبد
الحميد حارب العلم في أمته ودولته أشد المحاربة، حتى جعل أكثر مدارسها ملاعب
أطفال (راجع ص ١١٠ و١١ من منار هذه السنة) ، وأبطل امتحان طلاب
العلوم الدينية، فتركوا الطلب والاشتغال، واعترفوا في جميع البلاد بعد إعلان
الدستور وصدور الأمر بامتحانهم: أنهم عاجزون عن الامتحان، فأعفاهم مجلس
الأمة منه في هذا العام؛ ليستعدوا له.
وقد علم العامة كالخاصة في جميع بلاد الدولة؛ أن العلم الديني والدنيوي
هو أكبر الجرائم في نظر السلطان عبد الحميد، فصاروا يتحامونه، وحدثت في
السنين الأخيرة من حكمه المشئوم بدعة تفتيش الحكومة لبيوت الناس، وأخذ
الكتب منها ومعاقبة أصحابها، فصار الناس يحرقون كتبهم بأيديهم، ومنهم من
دفنها في الأرض، حتى أحرق في سوريا عشرات الألوف من الأسفار القديمة
والحديثة في سنة واحدة.
فانظر ما أشد حرص عبد الحميد على العلم وعنايته بنشره، وما أكثر المجتهدين
والمخترعين المكتشفين في أيامه.
وقد ألقيت خطبة في رحبة القشلة العسكرية ببيروت في أواخر رمضان
الماضي، بينت فيها كيف كان ظلام الجهل ممدودًا على البلاد العثمانية، وكيف
كان الهدم واقعًا في ذلك الظلام ببناء الدولة: معارفها وقضائها وإدارتها وماليتها
وعسكريتها، وبناء الأمة: ثروتها وآدابها، ولعلنا نراجع الذاكرة فنكتب ما تملينا
علينا منه.
(٤) قال: إنه (قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد، وراء سعادة المملكة
والملة) والصواب: أنه أشقى المملكة شقاء لا نظير له، وإخواننا مسلمو الهند
الذين يقولون هذا القول، لم يروا، ولم يختبروا. ونحن نسمع بآذاننا، ونرى
بأعيننا بل الشقاء وقع على رؤوسنا، أحاط بنا من كل جانب بسوء سياسته.
(٥) قال: إنه عمر الطرق، وبنى السكك الحديدية، وحفر الترع والجداول
والصواب: أنه لم يفعل من ذلك شيئًا للأمة إلا سكة حديد الحجاز، التي حمله على
الرضا بها، وسواسه الذي يخيفه من إقامة خلافة عربية بالحجاز. وما سمح به من
امتيازات السكك الحديدية للأجانب؛ فسببه أنه كان من موارد ثروته؛ لأنه كان لا
يسمح بامتياز إلا إذا أخذ لنفسه مبلغًا عظيمًا من المال، وكثيرًا من سهام الشركة،
فقد كان يبيع مصالح المملكة بذلك بيعًا؛ ولذلك كان يعطي هذه الشركات من
الضمانة الكيلو مترية، ما لا يعهد له نظير في مملكة أخرى.
ونسأل صديقنا الكاتب أن يدلنا على مكان الترع والجداول التي أحيا بها
الزراعة، أين هي؟ وما هي الثروة التي تجددت للفلاحين منها؟
(٦) قال: إنه حفظ المملكة من الضياع، ونقول: إنه أضاع بسوء
سياسته ثلثها، ولو بقي على عرش استبداده سنة أخرى لأضاع الولايات المكدونية
الثلاثة، فإن جمعية الاتحاد والترقي ما عجلت بهذا الانقلاب قبل أن تتم عدته؛ إلا
لعلمها علم اليقين أن الدول اتفقت على ذلك، وأنه لا عاصم منه إلا الدستور.
وكان كثير من السياسيين يقدرون أن الدولة لا تكاد تعيش مع ذلك الحكم أكثر
من خمس سنين، وأن سبب تأخر سقوطها هو تنازع الدول فيما بينهم. وقد سمعت
كلمة من أحمد مختار باشا الغازي أكبر مشيري الدولة وقواد جندها، وأعلمهم
بحالها، سمعتها منه مرات كثيرة في السنين الأخيرة من حكم عبد الحميد؛ وهي
أكبر شهادة نطق بها لسان وأيدتها وقائع الأحوال، وقد صار نقلها عنه الآن جائزًا
فلعل إخواننا مسلمي الهند يعتبرون بها، قال: (لو اجتمعت أوربا واتفقت على
أن تضر بالدولة الإسلامية؛ كما أضر بها عبد الحميد لعجزت) .
هذا ما نبين به خطأ الجريدتين بالإيجاز، ونزيد كلمة في الرد على ما انفرد
به صاحب جريدة الأبزرور، إذ قال: إن الدولة فقدت البلغار والبوسنة والهرسك
على عهد الحكومة الدستورية , ونقول: إن هذا غلط عظيم، فإن هذه الولايات قد
ضاعت منا بحربنا الأخيرة لروسية، وإنما كانت تلك الحرب برأي عبد الحميد
ودسائسه؛ ليشغل الأمة عن الدستور، ويتمكن من إبطاله، وقد بذل مدحت باشا
(رحمه الله تعالى) جهده في سبيل تلافيها فعجز، ولا يقال: إنها كانت برأي
مجلس الأمة الأول، لما هو معلوم.
وقال: إن أعداءه شهدوا له بالدهاء والسياسة، ونقول: إننا لا ننكر أن له دهاء
ومراوغة في السياسة الخارجية، كان يستعين عليها برشوة نساء السفراء أو
إهدائهن الجواهر الثمينة. ولكن نطلب من الكاتب أن يأتينا بشهادة لها قيمة من
الأعداء أو غير الأعداء بأن عبد الحميد رقى ثروة أمته ومالية دولته، أو أجرى
فيها العدل أو نشر العلم، أو أجرى على طريقة ميكادو اليابان.
وقال: لا ينكر حبه للإسلام، ونقول: أما دين الإسلام نفسه، فلم ير من
ملوكه عبث مثله بكتب الحديث والعقائد والفقه من: منع بعضها وتحريف البعض
الآخر، ولو كان في غير عصر المطبوعات، وكان جميع المسلمين تحت سلطته لما
بعد عليه أن يطمع في تحريف القرآن، وتغيير آيات الشورى ونحوها فيه. وأما
أهله فقد كان الاضطهاد عليهم في دينهم شديدًا، من حيث لا يضطهد غيرهم، كما
كان الظلم أشد وطأة عليهم من غيرهم. نعم.. إنه كان ولوعًا بإحياء لقب الخلافة
والحرص على تعظيم المسلمين الذين تحت سلطة الأجانب له؛ لأجل أن تحترمه
دولهم، فلا تنغص عليه التمتع باستبداده.
وأما ما ذكروا من كثرة عمله فهو على المبالغة فيه عمل ضار في الغالب؛
لأنه نظر في رسائل الجواسيس الذين يمشون ويمحلون برجال الأمة، وقد قيل:
إن هذه الرسائل محفوظة كلها في (يلدز) ، وربما عجز واحد عن قراءتها في مثل
المدة التي جلسها عبد الحميد على كرسي السلطنة , وأما زعمهم أنه كان لا يحفل
باللذات فهو باطل، فإنه كان يشرب أجود أنواع الخمور، وجمع مئات من الغواني
الحسان؛ للتمتع والغناء والعزف والرقص والتمثيل وغير ذلك.
وليعلم إخواننا مسلمو الهند أننا لم نقل ما قلنا إلا عن علم وخبرة وتأييد
للمصلحة العامة بالحق والصدق؛ إذ لسنا من الذين يتوسلون بالشر إلى الخير،
وبالباطل إلى الحق، وأننا لسنا من المتشيعين لجمعية الاتحاد والترقي التي كان لها
الأثر العظيم في هذا الانقلاب الميمون، فقد رأوا أننا جمعنا في الجزء الماضي من
اتنقاد المنتقدين عليها، ما لم يجمعه كاتب.
ونختم الرد بكلمة في الخطرعلى الدولة؛ فإن الكاتبَيْنِ يخافان أن ينزل بالدولة
الهلاك بعد عبد الحميد. ونحن نقول: لا شك أن عبد الحميد كان يسير بالدولة إلى
الدمار والهلاك كما مرت الإشارة إلى ذلك، فإن سقطت (لا قدر الله لها إلا العلاء
والارتقاء) . فإنما يكون هو الذي أسقطها، وإن نجت فإنما تنجو بالدستور الذي
هو آخر سهم في الكنانة.
***
(استغاثة أهل البيت الحرام جميع بلاد الإسلام)
جاءتنا الرسالة الآتية من صديقنا الغيور الأستاذ السيد عبد الله بن صالح
الزواوي رئيس اللجنة العليا بمكة لجمع الإعانات؛ لتعمير عين زبيدة ونشر المعارف
في الحرمين.
الحمد لله وحده
جناب ذي القدر العلي، والمفخر السني، كريم الشيم، عليّ الهمم، حضرة
الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم، محرر المنار الأغر، زاده الله
مجدًا وعلوًّا وقربًا من ملك الملوك ودنوًّا، بعد إبلاغ جزيل السلام وأداء مراسم
التعظيم والاحترام، نعرض أنه لا يخفى على أنظاركم السليمة ما هو معلوم لدى
جميع أهل هذ الدين القويم؛ أعني ما لهذه البلدة السعيدة من خطارة القدر وسمو
المرتبة؛ بكونها موضع بيت الله الملك الرحيم، ومسقط رأس النبي عليه أفضل
الصلاة والتسليم. منها ظهر الدين ونما، حتى برز التمدن منه بأبدع الأشكال،
وانتشرت التعاليم، وكثر العلماء حتى علوا إلى أعلى ذروة الفضل والكمال. كيف
لا، وهي تخت ملك الملوك، ومقر بيته السعيد الذي يخضع تجاهه الملك
والصعلوك، وقد اغتصبت في الأزمان الغابرة حقوقها، ولم يلتفت أحد من القائمين
بإدارة مصالحها من المتولين عليها إلى ملاحظة دوام علوها ورقيها؛ بنشر العلم
والتعليم، ومساعدة المعلمين والمتعلمين؛ فلذلك قل فيها العلم وأهله، وقلت
الصنائع وعارفوها. والآن بحمد الله - تعالى - تغير الحال، وأملنا أن تعود إلى
أحسن مآل، حيث إن القائمين بإدارة مصالحها الآن أهل همة علية ونجدة وأريحية
عرفوا الحق لأهله، فقاموا باسترداد ذلك المجد، وحرضوا العلماء ووعدوهم
بالمساعدة، وأذنوا لهم بالكتابة إلى إخوانهم المسلمين في استحصال كل وسيلة؛
لترقية العلم والصنائع بإنشاء المدارس، والسعي في طلب المساعدة من أولي
الغيرة والحمية في جميع أنحاء العالم، ممن اتصف بصفة الإسلام؛ لأن هذه البلدة
واجب لها الحق على جميع المسلمين الخاص منهم والعام، وهذه العلوم والمعارف
هي غذاء الأرواح، والسبب في جلب الطاعة والخيرات، والانقياد والفوز بجميع
المكارم والأرباح، كما أن الماء للسكان والحجاج وكل ذي روح؛ هو قوام
الأشباح وقد قل وجوده في هذه السنين بسبب الخراب الواقع في العين المنسوبة إلى
السيدة زبيدة، حتى صار الناس لا يشكون سوى قلته، وضاعت مصالح أكثر الفقراء
بسببه، بحيث لا يحملون إلا همه، ونسيت بقية أتعاب المعيشة في جنب هذا
التعب العظيم خصوصًا، والخراب في قنوات العين جسيم، والحاصل أن جلب
الماء وتصليح قنواته يحتاج إلى المال الخطير، وأيدي أهل هذه البلاد خالية من
القليل منه والكثير، ولكنه بحمد الله - تعالى - بيد أهل الخير من المسلمين في
بقية الأقطار كثير، وقطعًا لا يبخلون بشيء منه على هذه البلاد وإصلاحها؛ بتكثير
المياه فيه، وبناء مدارس لتعلم العلوم والحرف والصنائع لساكنيها، حتى يحوزوا
عظيم الأجر حيث إن ذلك أهم المهمات، وأعظم القربات، وزيادة الخيرات
والمبرات، وفضل ذلك عظيم، وأجره جسيم، والدرهم الواحد الذي يصرف في
هذه البلدة، يقوم بمئة ألف درهم في غيرها، وأفضل من تجب إعانتهم جيران
بيت الله العظيم؛ القاطنون بواد غير ذي زرع عند بيت الله الكريم، وحجاج
بيته القادمون إليه من كل فج عميق؛ لأداء الفرض المعظم، فساعدوا ساعدوا على
إجراء الخيرات، وتقربوا إلى الله زلفى بفعل المبرات، لمثل هذا فليعمل العاملون،
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وقد تشكل مجلس مخصوص لهذا المهم الجليل من
أهل العلم، والأمانة، والديانة، والغيرة، والحمية، أهالي ومجاورين في رقعة
بطي هذا الكتاب مع تعليمات مجلسهم؛ ليعلم منه تيقن حصول الأمن التام - إن شاء
الله تعالى- في صرف ما يتحصل لهم في موضعه، لا تتطرق إليه يد غاصبة
أصلاً، فنسأل الله - سبحانه - لنا ولكم حسن التوفيق إلى إحراز الفضيلة والمنزلة
عنده من أقرب طريق، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على
سيدنا محمد سيد الأنام وبدر التمام، ودمتم.
(المنار)
هذا هو المنشور الذي طبع، وأرسل إلى أصحاب الجرائد في الأقطار
الإسلامية، وقد زاد صديقنا رئيس اللجنة في النسخة التي أرسلها إلينا بخطه الذي
نعرفه ما يأتي:
(ثم المرجو من عالي همتكم وعنايتكم بالأمور العامة؛ القيام ببذل الجهد
لدى العموم بالتشويقات في هذا العمل الخيري، وجمع الإعانة وإرسالها إلينا، أو إلى
يد وكيل هذا المجلس في أقرب محل لكم، حيث إن للمجلس وكلاء في عدة من
البلدان منها جدة، الوكيل بها حضرة الحاج زنيل عبد الله علي رضا، وعدن
الوكيل بها محمد أفندي بن حسن علي، وسنبين أسماء الوكلاء أيضًا وننشرها في
الجرائد حتى في مصر والشام، وقد كتبنا إلى مصر عدة كتب ولخصوص الخديوي
المعظم، وصار إرسال كتاب الخديوي من طرف الولاية الجليلة وتصدق
عليه من مقامها، وكذلك كتبنا عدة كتب إلى الجهات خصوصًا: الهند وجاوه
وبخارى وقازان وبلدان العرب، وأرسلت المقالة الطويلة المعنونة بعنوان (أهل
الحجاز يستصرخون) ، وساعدنا في التحارير جملة من المعربين وغيرهم المقيمين
هنا، وحيث إن مجلتكم الغراء لها الشيوع في جهات كثيرة؛ فعسى أن تتفضلوا
دوامًا بتحريض المسلمين على المساعدة في هذه الأعمال، وتذكروا أمر الحجاز
واحتياجه للماء والتعليم، وتحسنوا لمن فيه الهمة والقدرة على المساعدة ماديًّا
ومعنويًّا بذل ذلك، وتفيدونا بالإرشاد إلى ما ينفع، فإننا مقرون بالعجز، وعندنا
القابلية للتعلم، وبذلك تنالون عظيم الأجر والثواب ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ١٥ ربيع الآخر سنة ١٣٢٧
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس القومسيون
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم)
(المنار)
قد شاع وذاع على الألسنة وفي الجرائد: أن الماء قد قل في حرم الله - عز
وجل - حتى بلغ ثمن القربة الصغيرة من الماء عدة قروش، وكاد الفقراء يموتون
عطشًا. ومن المسائل المعروفة في الشريعة أنه يجب عند الضرورة بذل الماء
وكذا الطعام لكل إنسان محترم؛ ولكل حيوان محترم (غير مهدور الدم) وجوبًا
شرعيًّا، سواء كان الإنسان مؤمنًا أو كافرًا، وسواء كان الحيوان طاهرًا أم نجسًا،
فماذا نقول في جيران بيت الله، وعُمار حرمه، وحجاجه المقيمين لشعائره،
وحقوقهم آكد، وبرهم أفضل، ومساعدتهم أكبر أجرًا، وإعانتهم أحسن ذخرًا.
إن المنار يذكر اللجنة ودولة الشريف أمير مكة؛ بالمال الكثير المتجمع من
أوقاف الحرمين بمصر، ولا أدري، هل كتب إلى الخديوي يطلب المساعدة أم
يطلب هذا المال. ثم ندعو كل من علم بما ذكر لبذل ما تجود به نفسه مما أنعم الله
عليه؛ لإغاثة حرم الله، ومن يعمره ويحجه. وإن إدارة المنار تقبل ما يرسل إليها
من المساعدات، وتعطي به وصلاً مطبوعًا، وتنشر اسم المرسل إلا أن ينهاها عن
التصريح به فنكني عنه، وتكفل إرسال ذلك إلى اللجنة في مكة المكرمة زادها الله
تكريمًا ورخاء وهي لجنة مؤلفة من خيار علماء مسلمي الأقطار المجاورين لبيت
الله؛ فهي موثوق بها، وبهذا نكتفي عن ذكر أسمائهم. وقد علمتم أيها المسلمون،
أن سلفكم قد وقفوا على الحرمين عقارًا كثيرًا، فلا تكونوا أقل منهم غيرة وعملاً
للخير {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن: ١٦-١٧) .
***
(خلع السلطان عبد الحميد وتولية مولانا السلطان محمد الخامس)
قد ابتهج جميع العثمانيون بخلع عبد الحميد وتولية هذا السلطان الدستوري
المهذب الأخلاق، ماعدا أعوان الأول على نهب البلاد. ولما بشرنا البرق بذلك،
اجتمع جمهور من العثمانيين في بعض السمار، ودعوا صاحب هذه المجلة
للخطابة، فخطب فيهم مصدرًا خطيته بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ} (آل عمران: ٢٦) الآية , وبين أن مشيئة الله في نزع الملك وإيتائه منفذة لسننه
الاجتماعية في ذلك، ومنها أن إرادة الأمة إذا اجتمعت لا يعارضها شيء؛ لأن يد
الله على الجماعة كما ورد في الحديث. وبينا أن جمهور الأمة كان يظن أو يعتقد
أن عبد الحميد أعطى الدستور مختارًا، وأنه كما كان يدعي مخلص له محافظ
عليه، فلما ظهرت الفتنة الأخيرة، وعلم أنه المدبر لها لإسقاط الدستور، اجتمع
رأي السواد الأعظم من الأمة على خلعه، ولا رادَّ لرأي السواد الأعظم إذا
اجتمع.
ثم احتفل العثمانيون في حديقة الأزبكية بذلك، فخطبنا أيضًا في الموضوع،
فذكرنا الحاضرين بخطبتنا هنالك يوم أعلن الدستور، وكيف كان جمهور من
المصريين يصيحون في وجهنا بالدعاء لعبد الحميد ... إلخ (راجع ٤٦٦م١١)
وكيف حصحص الحق، وظهر صدق قولنا , وأطلنا في بيان سلطة الأمة وسيئات
الحكم الحميدي، وانطباق الدستورعلى الشرع، فرأينا من استحسان الناس لهذا
الخطاب، وإطرائنا به، ما لم نر له نظيرًا.
هذا وإن كل ما بلغنا من أقوال مولانا محمد الخامس وتصرفه وتواضعه
واقتصاده، يبشرنا بأنه سيكون خير سلطان جلس على سرير آل عثمان، حقق
الله ذلك.
***
(الدولة العلية الدستورية والدين ورأي غير العثمانيين من المسلمين)
يرى القارئ في باب المناظرة من هذا الجزء، رأي جريدتين من جرائد
مسلمي الهند في الحكومة الدستورية وحكم عبد الحميد الاستبدادي مع الرد
عليهما.
وقد اجتمعنا في هذا الشهر بالأمير الأفغاني (نواب بهادر صاحب خان عبد
القيوم) من كبار رجال الحكومة الخارجية في (بيشاور) على حدود الهند من
جهة الأفغان، وقد سألنا عن حال الدولة الحاضرة، فبينا له الحقائق، فأخبرنا أن
أهل الهند والأفغان يجهلونها، وأن الشائع في تلك البلاد بين المسلمين أن حزب
تركيا الفتاة يريد إبطال الحكومة الإسلامية من الدولة، وأن يجعلها حكومة
أوربية ليس لها صيغة دينية، وأنهم يحسنون الظن بعبد الحميد ويسيئونه في
جمعية الاتحاد والترقي، وقال بعد أن بينا له الحقائق: إنه يحسن أو يجب أن
يذهب وفد من الآستانة إلى الهند، يطوف فيها ويظهر الحقيقة لأهلها، وقد سافر
إلى الآستانة ليختبر الحال بنفسة. فلتعتبر الجمعية ولتفكر كثيرًا.
ولا شك أن جهل جرائد مسلمي الهند للحقائق، وتشيع أصحابها لعبد الحميد
هو الذي أحدث هذا الضرر الفادح أو قوَّاه، إذا صح ما يرتأيه بعضهم من كون
الإنكليز هم الذين يشيعون هذه الإشاعات؛ ليوهموا المسلمين أنه لم يبق في
الأرض حكومة إسلامية. إن أصحاب الجرائد المصرية الذين يشيعون على
الحكومة الدستورية الجديدة، يمدون المسلمين في هذا الغي، ويخدمون الأجانب
الحاكمين على الملايين من المسلمين خدمة عظيمة. وهكذا يجد الأجانب من المسلمين
الجاهلين أو المستأجرين من يخدم سياستهم ويخذل المسلمين.
***
(الأحكام العرفية في الآستانة)
أعلن القائد محمود شوكت باشا الأحكام العرفية في الآستانة؛ لتطهيرها من
أعوان عبد الحميد على إعادة الاستبداد، فأوجس الناس خيفة من ذلك. وعندي
أن فائدة هذه الأحكام لا تقل عن فائدة خلع عبد الحميد وأسره ونفيه، فإن الطفور
من أسفل درك الاستبداد إلى أية درجة من درجات الدستور من المُحالات الاجتماعية،
وإن كان من الممكنات النظرية والقولية ولذلك عجزت الحكومة في العاصمة وفي
الولايات عن أن تخطو خطوة واحدة في طريق الحكم الدستوري، حتى صارالناس
يلهجون في كل مكان بقولهم: إن سير الحكومة لم يتغير، وإننا لم نستفد من
الدستور شيئًا وإن لكاتب هذه السطور في ذلك كلمات، صارت تؤثر عنه في
الديار السورية منها: (إن الحكومة الاستبدادية سقطت والحكومة الدستورية ما
تكونت) ومنها (إننا أحوج الآن إلى حكومة عرفية منا إلى حكومة دستورية) وقد
قلت لناظم باشا إذ لقيته في بيروت أول مقدمي إليها في آخر شعبان من السنة
الماضية: إن الحكومة والأمة في حاجة شديدة إلى رؤساء محنكين قادرين،
ينفذون فيها الدستور بشيء من الاستبداد الباطن، المطبق على القانون في الظاهر
يكونون كمن يربي الطفل لكن على الاستقلال، لا على التقليد والاتكال، (قلت) :
وأرجو أن تكون أنت منهم لما لك من التجربة والاختيار.
كان من سبب عجز الحكومة عن تنفيذ الدستور الخوف من سخط الأهالي
عليها، إذا عاملتهم بما لم يتعودوه، وكان خوفها من الموظفين أشد، فقد كان من
سياسة عبد الحميد أن يحشر في كل دائرة من دوائر الحكومة أضعاف من يحتاج
إليهم العمل فيها، ورأت الحكومة الدستورية أنها مستغنية عن كثير من هؤلاء.
ولكنها لم تتجرأ على إخراجهم؛ لئلا يكثر سواد الناقمين منها والساخطين عليها
حتى قيل: إن موسيو لوران الفرنسي الذي جيء به لإصلاح خلل نظارة المالية
قال: إن أهم مبادئ الإصلاح إخراج الجم الغفير من هؤلاء الموظفين الذين
لا عمل لهم. فلم يجبه كامل باشا إلى ذلك، وفي هذه الفرصة فرصة الأحكام
العرفية يمكن تنفيذ ذلك وغيره، وتكوين حكومة دستورية محترمة، فتكون حلقة
الاتصال بين الماضي والحاضر.
***
(الشريف أمير مكة المكرمة والإصلاح)
جاءنا من أنباء الحجاز أن أميره الشريف، يبذل قصارى جهده في الإصلاح
وعمران الولاية وحفظ الأمن العام فيها، وقد وُفق إلى تأمين البلاد بدرجة لم يعدلها
نظير في السنين المظلمة الماضية، وقد وجه همته إلى نشر العلم، وتأليف أعراب
البادية، وتأمين سكة الحديد الحجازية. وآخر ما جاءنا من أخباره في ذلك أنه
أخذ العهد والميثاق على مشايخ حرب أن يقوموا بحراسة الخط الحديدي بدلاً من
تخريبه، وهو قد كفل لهم أن تعرض الدولة عليهم ما فاتهم من الانتفاع بنقل
الحجاج وتوفيهم أجورهم، وكتب إلى الآستانة بذلك فعسى أن تمضي الآستانة له
عهده، فإن هذه الطريقة التي سلكها هي الطريقة المثلى لحفظ وامتداد ظل الأمن،
وأما توهم مقاومة الأعراب بالقوة، واستقلال الجند بحفظ الخط فهو من وسوسة
الغرور ونزعات الشياطين التي تجعل حرم الله تعالى في خوف دائم، وخلل
ملازم، فنسأل الله أن يوفق هذا الأمير الدستوري إلى سائر ما تحتاج إليه البلاد
المقدسة من الإصلاح، ويوفق الدولة تأييده في ذلك.
***
(الأمير محمد أرسلان نجل الأمير مصطفى الشهير)
قتلت الفئة الباغية على الدستور هذا الأمير، وكان مبعوث اللاذقية، فاهتزت
لموته سوريا ولبنان، ورثاه فيهما كل ذي قلم ولسان، ونحن نشاركهم في ذلك ونعزي
الوطن بتعزية والده عنه.