للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة المحجوب
(من باب الانتقاد على المنار)

أرسل إلينا بعض علماء تونس رسالة، كان كتبها رجل اسمه السيد عمر
المحجوب التونسي في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في زمنه،
وطلب منا أن نبين رأينا فيها، فتصفحناها هي وما ألحق بها في نحو من نصف
ساعة، فلم نجد فيها شيئًا يزيد على ما تلوكه العامة في هذه المسائل، وعلمنا من
الذيل الذي ألحق بها أنها طبعت معه بعد الحادثة التي وقعت معنا بدمشق في آخر
رمضان من السنة الماضية؛ لتكون ردًّا علينا فيما شاع من أن سبب تلك الفتنة
تأييدنا لمذهب الوهابية، فيارحمتا لهؤلاء الجهلاء المساكين الضعفاء الذين تهيجهم
الأكاذيب إلى إظهار جهلهم، وطاعة انفعالاتهم العدائية لمن هو لهم صديق غير عدو،
وإن كانوا لا يميزون.
قد علم الخاص والعام أن حادثة الشام لم تكن مقاومة لمذهب الوهابية ولا
انتصارًا للسنة السنية، وإنما كانت انتصارًا للاستبداد على الدستور، وإيثارًا
للظلمات على النور، وإن خطيبي فتنتها الشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالحًا
التونسي قد حاولا مع رؤسائهما من مدبري تلك الفتنة إثارة فتنة أعظم منها باسم
الإسلام؛ إذ نشروا تلك الجمعية الفسادية التي أطلق عليها (تمويهًا وخداعًا) اسم
الجمعية المحمدية؛ لذلك اختفيا عن الأنظار ووليا الأدبار لما نصر الله الدستور،
وخذل الغرور، وأنشأت الدولة العلية تحاكم زعماء الفتنة الذين كانوا يحرضون
على الثورة، ثم ظهر الخطيب فاستنطق ورفع أمره إلى الآستانة. ومعلوم أن
صالحًا التونسي من دعاة أبي الهدى دجال عبد الحميد اللذين كفى الله المسلمين
شرهما (والعاقبة للمتقين) .
وإننا ندعو صاحب الذيل الطويل لتلك الرسالة، هو وجميع من على رأيه من
علماء تونس إلى المناظرة جهرًا فيما يزعمون أن المنار أخطأ فيه، بأن يذكروا
المسألة التي يزعمون أنها خطأ والدليل من الكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس
على ذلك، مع التصريح بأسمائهم، ونحن نجيب عن أقوالهم ونجعل أهل العلم
والفهم في المشرق والمغرب حكمًا بيننا وبينهم. وإنما نشترط أن يصرحوا بأسمائهم
لتعلم قيمة المحق منهم والمبطل في الحال، ويحفظ التاريخ ذلك لأعقابهم في
الاستقبال.
على أن صاحب الذيل المشار إليه لم يذكر وراء مسألة الاجتهاد من خطأ
المنار إلا مسألة طهارة العطر الإفرنجي والكحول، وكذا ما سماه تحليل مفتولة
العنق، والمضروبة على الرأس، ولبس القبعة الإفرنجية. المسائل الثلاث التي
كانت موضوع فتوى الأستاذ الإمام منذ سنين، فإن فرضنا أن ما كتبه المنار فيها
كان خطأ؛ فليدلونا على كتاب من كتب الفقه أو الحديث أو التفسير ليس فيه مسائل
كثيرة منتقدة؛ لمخالفتها للكتاب أو السنة، أو لما رجحه العلماء الآخرون المخالفون
لأولئك المؤلفين لها في اجتهادهم أو فهمهم.
إذا كان صالح التونسي وعبد القادر الخطيب الدمشقي قد تصديا للفتنة بدمشق
بباعث السياسة، وهما يعلمان أنهما باغيان مخطئان، فيحتمل أن يكون أحمد جمال
الدين صاحب ذيل هذه الرسالة حسن النية له شيء من العذر بجهله، وهل يرجى من
مثله أن يفهم دقائق مباحث المنار الاجتهادية، وهو إلى اليوم لم يفهم معنى العبادة،
بل اتبع فيها الشيخ المحجوب الذي لم يعرف كيف كان أساس دعوة الإسلام النهي
عن عبادة غير الله تعالى إلى عبادته وحده، كما نبينه قريبا؟ فكيف يتكلم في مثل
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لم يسمح الزمان له بنظير. أما رسالة الشيخ المحجوب
فليس فيها شيء إلا وقد سبق لنا تحريره في المنار، ولا يفهم العامة ورؤساؤهم من
أصحاب العمائم من إعادة القول في بيان مواضع الخطأ فيها إلا أن المنار ينتصر
للوهابية، على ذلك الشيخ الذي ينتسب إلى ما لا يفهمه من السنة السنية، وما كان
لينتصر لمذهب من المذاهب أو يتعصب لفئة الفئات، إنما يؤيد الكتاب والسنة
ويحكمهما في أقوال المتقدمين والمتأخرين. وأما أمثال هذا المعترض المسكين فإن
قصارى علمه أن يحفظ كلمات من بعض شيوخه المعاصرين أو المؤلفين المتأخرين
الذين ليس لأكثرهم من العلم إلا نسخ كتب القدماء؛ مع زيادات يستميلون ببعضها
العامة وببعضها الآخر الملوك والأمراء،
يظهر أن الشيخ المحجوب كان ممن يعبر عنهم بالأدباء، ولم يكن من العلماء،
فقد ظهر في رسالته تشميره في الهجاء والشتم، وقصوره في مسائل الدين والعلم،
وهو لم يذكر في رسالته كلام خصمه، فيوازن بينه وبين رده، فنكتفي إذًا
بالإشارة إلى بعض خطئه وضعفه؛ ليعلم أنه لا يوثق بعلمه مع عدم التعرض لخطأ
خصمه وصوابه.
قال في (ص٤) في رد إنكار خصمه ما تفعله العامة عند قبورالأولياء
والصالحين من: الاستغاثة والتوسل والتعظيم (معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد
أو أن يأتي إليها معظمًا لها تعظيم العابد، أو أن يخضع لها خضوع الجاهلية
للأصنام، وأن يعبدها بركوع أو سجود أو صيام) ونقول: إن هذا القول يدل على
أن المحجوب لم يكن يعرف الواقع الذي عليه الجمع الغفير من العامة، أو أنه يعرفه
ويقول غير ما يعلم، وأنه لا يفهم معنى العبادة، بل يتوهم أنها عبارة عن الصلاة
والصيام وسائر التكاليف الشرعية فقط، كما قال صاحب الذيل في (ص١٩) في
تقوية رده: (وما درى - أي ابن عبد الوهاب - أن العبادة الشرعية هي التكاليف
التي اشتملت عليها الشريعة، سواء كانت معقولة المعنى أو تعبدية) وقد جهل
صاحب الذيل كصاحب الأصل: أن أول شيء دعا إليه النبي صلى اله عليه وسلم
هو أن يعبد الله وحده وأن لا يعبد سواه، دعا إلى ذلك قبل أن تشرع التكاليف
العملية من: الصلاة والزكاة والصيام، فهل يصح أن يقال: إن المراد بالنهي عن
عبادة غير الله تعالى هو أن تكون التكاليف التي ستشرع بالتدريج خاصة بالله تعالى؟
هل يصح أن يكون معنى العبادة شيئًا لم يكن معروفًا ولا مشروعًا؟ ؟ يا حسرة
على المسلمين الذين ابتلوا بأمثال هؤلاء المؤلفين.
على أن أمثال هؤلاء الضعفاء يعذرون إذا جهلوا معنى العبادة؛ لأن من كانوا
يستطيعون تحديد الحقائق من العلماء عدوا معنى العبادة من البديهيات، فلم يهتموا
ببيانه؛ ولذلك لم يشتهر عنهم نقل في تحديده. وأما الأقوال المشهورة فيه عن
اللغويين وغيرهم فليست حدودًا، بل لا يبلغ بعضها أن تكون رسومًا تامةً أو ناقصةً
ذلك مرات كثيرة، ومنه أن أعظم مظاهر العبادة الدعاء، وفي حديث البراء عند
أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن (الدعاء هو العبادة) وفي رواية ضعيفة
للترمذي من حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) وهل يكابر أحد في دعاء الألوف
والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار
المحسوسات؟ ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم: بأنهم لا يقصدون به العبادة،
وإنما يقصدون التوسل! ! ألفاظ يلوكونها ولا يفهمونها، الرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: الدعاء هو العبادة أي: هو الفرد الأعظم من أفرادها، والركن الأكمل
من أركانها، كقوله: (الحج عرفة) فتجويز دعاء غير الله؛ كتجويز الصلاة لغير الله
بدعوى عدم قصد العبادة، وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء،
قال المحجوب (ص٤) : (دوامًا ما جنحت إليه، وعولت في التفكير عليه من
التوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العدا، وقضاء الحاجات، وتفريج
الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسماوات، إلى آخر ما ذكرته
مواقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير
الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع ووارد في السنة القويمة، ليس
بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة
تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها) ثم ذكر أثر
استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -، وحديث طلب عمر الدعاء من أويس
القرني، ومسألة الشفاعة، والوهابية لا ينكرون أثر الاستسقاء، ولا الدعاء، ولا
الشفاعة، وكتب ابن تيمية التي هي عمدتهم في هذا الباب مثبتة لهذه المسائل مبينة
لها أتم بيان، وهم يحتجون بها على الذين يدعون أصحاب القبور، فيقولون: إن
عمر والصحابة لم يدعوا العباس أن يسقيهم الغيث، كما يدعو جمهور عامتنا
الأموات: أن يقضوا لهم حاجاتهم، وإنما كان توسلهم بالعباس هو جعله إمامًا لهم
في الاستسقاء، فصلى بهم ودعا وهم أمنوا على دعائه، ويقولون: إنه ورد فيه أن
عمر رضي الله عنه قال: (اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا فاسقنا) وهذا دليل على أن الميت لا يتوسل به وإن كان حيًّا عند الله تعالى.
وأقول: إن المسألة ليست من باب ما يسمونه اليوم بالتوسل؛ وهو أن يدعو غير
الله - تعالى - ويطلب منه شيئًا ما، وإنما هو استسقاء كما تقدم، ويحتجون به من
وجه آخر، وهو دعاء العباس الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح وهو: (اللهم،
إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) وهو نص في أن كشف الضر لا
يكون بسبب الأشخاص؛ وإنما يكون بالتوبة إلى الله والرجوع إليه وحده، وفي
الحديث روايات لا تصح.
((يتبع بمقال تالٍ))