للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(جمعية الاتحاد والترقي)
استحسن العقلاء في سورية ما كتبناه في الجزء الثالث من مجمل ما ينتقده
الناس على هذه الجمعية، وكتب إلينا غير واحد يقول: إن المعتدلين من أعضاء
الجمعية أنفسهم استحسنوه، وعدوه من النصح الخالص، وقد استنكره آخرون مع
ما عهدوا من تأييدنا للجمعية في المناظرات والخطب زيادة عما يكتب في المنار،
وقد يعذر المستنكر لذلك؛ إذ لم يكد يصل ذلك الجزء إلى سورية إلا وقد ظهرت
خفايا ثورة الآستانة، وعلم الناس أنها دبرت في يلدز لمحو آية الدستور وإعادة
استبداد عبد الحميد إلى شر مما كان عليه، وفر أعضاء الجمعية إلى سلانيك
مستنصرين مستصرخين ينفضون غبرة الموت قتلاً وغيلةً عن رءوسهم.
نعم.. إننا كتبنا ما كتبنا قبل ظهور تلك المكيدة. ولكننا قبل طبع الكراسة
الأخيرة من ذلك الجزء، علمنا ببعض بوادر الفتنة فأشرنا إليها بما هو صريح في
الميل إلى الجمعية والدعاء لها بالانتصار , ومع هذا كله نرى أن التعريف بما ينكر
الناس عليها، وما يقولون فيها ضروري، لاسيما من يحمد سعيها ولا ينكر فضلها.
إننا لخصنا الكليات التي يرجع إليها انتقاد المنتقدين من غير موافقة لهم على
كل ما ينتقدونه، وسكتنا عن بعض الجزئيات الفظيعة التي هي من قبيل تعيين
بعض الأشخاص والأعمال المنكرة. وهل تؤمن عاقبة أشخاص يعملون بقوة في
مملكة واقعة في أشد الحرج، وهم لا يسألون ولا ينتقدون؟ وقد كان الصحابة
يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض رأيه في السياسة والحرب، حتى
يرجع عنه، فهل كانت الجمعية أجدر بالتقديس منه؟
إننا صرحنا هناك بفضل الجمعية علينا في الانقلاب، وإنما ذلك الفضل لأفراد
ربما كان العمل الآن في أيدي غيرهم ممن لم يكن لهم عمل قط في الانقلاب، وقد
دخل في الجمعية خلق كثير منهم من لا خلاق لهم؛ ولكنهم أصحاب دهاء أو حظ
على ما يقال، وقد ينتخب بعضهم للجنة العليا، كما أن اللجان المركزية في بعض
البلاد فيها من نعرف ومن لا نعرف، ممن لا خلاق لهم، ولا عرفان، ولا إخلاص
فهل يقول عاقل: إن مصلحة الأمة أو مصلحة الجمعية أن تعد الجمعية مقدسة في
جميع أعمالها؟
وقد أيدناها أيضًا في ذلك المقال من حيث الحاجة إلى بقائها، وتأييد الجيش
لها، إذا حدث ما يخشى منه على الدستور مع اعتزاله للسياسة في عامة أحواله،
فهل فوق هذا التأييد من تأييد؟ على أنه تبين أن الجيش حام للدستور على حال.
إنه وايم الحق، قد راعنا عندما عدنا من سورية إلى مصر ما سمعناه من
أحرار الترك وسائر العثمانيين: من الإنكار على الجمعية في تصرفها، وعلمنا أن
الإنكار والاستياء في الآستانة أشد، فخشينا أن ينتج ذلك مما لا تحمد عاقبته إذا لم
تتداركه الجمعية، فكان ذلك هو الباعث لنا على كتابة ما كتبنا وما كنا إلا ناصحين.
***
(طعن المؤيد في الدولة العلية الدستورية)
ظهر المؤيد بمظهر الساخط الماقت للحكومة الدستورية في الدولة العلية، وقد
كادت تنقضي السنة الأولى لها وهو يكتب عنها بقلمه وأقلام بعض محرريه ومكاتبيه
شر ما يسمع وما يقرأ، وشر ما يتخيل ويتصور، وقد أرضى بذلك بعض الأغرار
من المصريين المخدوعين بما كانوا يقرؤون في الجرائد من إطراء عبد الحميد ,
ولكنه أسخط العقلاء وخواص الأمة المصرية، حتى إننا سمعنا بعض الكبراء الذين
يعرف صاحب المؤيد صدقهم واستقلالهم يقول: إنني لم أر أحدًا من الخواص يعذر
المؤيد على خطته هذه.
وقد اختلف رأي أهل التعليل في سبب اختيار صاحب المؤيد لهذه الخطة،
فقال بعضهم: إنه قد أسخط في سنيه الأخيرة جمهور أهل بلاده من جميع الطبقات
حتى الأزهريين، وهو يعلم أن حسن الظن بعبد الحميد خان غالب فيهم، فأنشأ
يدافع عنه ويطعن في الحكومة الجديدة؛ ليستميل بذلك الجمهور الساخط، ومن
هؤلاء من يقول: إن الجمهور سخط على المؤيد؛ لتذبذبه واتباعه لهواه دون
مصلحة الأمة، ومنهم من يقول: بل لاعتداله في الكلام عن الحكومة والمحتلين،
وهذا هو الأقل.
ويقول آخرون: إن سبب اختيار المؤيد لهذه الخطة؛ هو اتفاقه مع عزت
باشا العابد وغيره من أعوان عبد الحميد على إسقاط الحكومة الدستورية وإعادة
الحكم الحميدي السابق، ولما خلع عبد الحميد وأخرج من عاصمة السلطنة، كان
الإصرار على الانتصار له دعوى الثبات على الرأي.
ومن الناس من يقول: إن المواطأة بين عزت العابد وحزبه، إنما هي على
تأسيس دولة عربية وخلافة جديدة، وقد تنصل المؤيد من هذا، ولعن من يسعى إليه
ومنهم من يظن أن صاحب المؤيد يخدم بذلك إنكلترا التي تحب أن تمحو نفوذ الدولة
الديني من مصر والهند وإن جاملتها في أوربا، وإن لها يدًا في تحريك سخط
مسلمي الهند على الحكومة العثمانية الجديدة، وهذا إغراق في سوء الظن.
ومنهم من يرى أن صاحب المؤيد لما كان يعلم أن جمعية الاتحاد والترقي
تعتقد أنه من جواسيس الحكومة الحميدية وشيعة عزت العابد، لاسيما بعد أن أظهر
ضلعه في أول العهد بالانقلاب وميله إلى الماضي، وأنها لا بد أن تتخذه خصمًا
وعدوًّا هاجمها هي وحكومتها بقوة؛ لعلها تخافه فتسعى إلى استمالته، فلا يحرم من
الكرامة في الآستانة وسورية في كل مصيف.
ومنهم من يرى أنه لعلمه بما كان من فتك عبد الحميد خان بالدولة والأمة،
اعتقد منذ حدث الانقلاب أن الدولة لم يبق فيها رمق فتنهض بحكومة دستورية، فإما
أن يعود عبد الحميد إلى استبداده، وإما أن يسقط الدولة بتدميره الماضي وكيده
الحاضر، فصار يكتب ما يكتب وهو يظن أن الأيام ستصدقه بفشل الدولة وسقوط
الدستور أو ما هو أعظم من ذلك، فيظهر بمظهر السياسي الخبير والمحب الغيور.
ويظن أنه لا يبعد أن يكون سمع من كبار الأجانب أو عنهم بنفسه أو بواسطة عزت
العابد شيئًا من هذا المعنى؛ لأن الأجانب شعروا بالدسائس التي كان يدبرها عبد
الحميد وأعوانه، واعتقد الكثيرون منهم أن قوة الدولة ستكون قسمين يتصادمان
فيتساقطان، وقد أعدوا لذلك عدته، ونحمد الله أن كذب هذا التشاؤم.
لماذا تضاربت الظنون، واختلفت الآراء في إنحاء المؤيد على الحكومة
الدستورية في الدولة العلية؟ أليس لأنه كان في زمن عبد الحميد يدافع عنها بالحق
وبالباطل، فيخفي عيوبها ويجعل سيئاتها حسنات؟ نعم.. ومن العجب أن يعكس
الأمر الآن، فينحي عليها بالحق وبالباطل، ويجعل حسناتها سيئات.
يقول: إنه يعتقد حقية ما يكتب، ونقول: لماذا لم يختر من الحق إلا ما يسوء
ويضر نشره، ومتى كان السياسي صوفيًّا صديقًا يقرر العقائد كما هي مهما ترتب
عليها؟ أليس عند هؤلاء الصديقين من الأسرار الباطنة ما لا يجوزون نشره لأنهم
يخشون ضره؟
يقول: إنه يقصد بهذه الشدة النفع؛ بإرجاع جمعية الاتحاد والترقي عن
غرورها الذي يراه ضارًّا، نقول: ولماذا يخفى عليه غروره في هذه الدعوى،
فيتوهم أن هذه الجمعية تنتظر جريدته العربية لتترجمها وتعمل بنصائحها، وهي لم
تحفل بما قام في وجهها من الأحزاب والكتاب الذين هم أبلغ منه قلمًا، وأعلم بمكان
الانتقاد، ولماذا خفي عنه الآن عما كنت أعده كغيري عذرًا له في دفاعه عن
الحكومة الحميدية؛ وهو أن إظهار سيئات الدولة وعيوبها يسقط منزلتها من نفوس
المصريين وغيرهم من قراء المؤيد، فيكون ذلك ضعفًا لها على ضعف؟ أليس
إسقاط نفوذ الدولة الآن أشد ضررًا من إسقاطه في العصر الماضي؛ عصر الظلم
والتخريب والتدمير؟ بلى.. إن خطة المؤيد الجديدة يخشى ضررها، ولولا أن
الجرائد التي تناقضها في القطر المصري نفسه أوسع منها انتشارًا لأضلت وأضرت
الجمهور، وما يرجوه صاحب المؤيد من التأثير في نفوس لجنة جمعية الاتحاد
والترقي، لا يوازي هذا الضرر لو حصل على أنه يطعن الدولة لا الجمعية وحدها.
إن خطته هذه قد سلبته أنفس حلية كانت له في أنفس المسلمين، لا سيما
مسلمي الدولة العلية الذين يهتم لهم سائر مسلمي الأرض؛ وهي أنه صاحب الجريدة
الإسلامية العربية الكبرى التي تدافع عن الخلافة والسلطنة وتؤيد نفوذها، والآن
نرى الجرائد العثمانية في عاصمة الدولة وولاياتها تنطق بلسان واحد صائحة أن
المؤيد عدو الدولة والخلافة، عدو الدين والملة، وقد أحرقه جماهير الناس في بلاد
كثيرة حتى بلاد الحرمين، ونادوا بإسقاطه، وما كان أغناه عن التصدي لهذه العاقبة
التي لم تكن في حسبانه.
نعم.. إن صاحب المؤيد صار من عدة سنين على غير ما كنا نعهد منه؛
صار لا يبالي برأي أحد ولا بنصحه، ولا يحسب للعواقب حسابًا، ويرى أن الدنيا
كلها إذا قامت عليه اليوم؛ فإنه يسهل عليه أن يستميلها إليه غدًا، ولكننا رأينا هذه
الشاكلة قد أضرته ولم تنفعه. هذا هو رأينا إن كان يقبله، وهو يعلم أننا لا نقول إلا
ما نعتقد، ونتمنى لو يقدر بالفعل على استمالة الدولة العلية والأمة العثمانية بما
يكتبه بعد، فيرجع عن اجتهاده ذاك إلى ضده، والله الموفق.