للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

لا تقوم مصلحة عامة إلا برياسة، ولا تسير رياسة في منهاج الصواب ما لم
تكن مقيدة بقانون عادل. والدين مصلحة عامة، ورئيسه في الإسلام بعد زمن النبوة
الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين، فهو المطالَب بحراسته الصورية والمعنوية،
المسئول بتعميم نشره في البرية، وقد بيّنّا في مقالات (الخلافة والخلفاء) أن خلفاء
المسلمين بعد الراشدين قصروا في حفظه فضلاً عن نشره، ولم ينتشر انتشاره
السريع في أقطار الأرض إلا بسهولة تعقل عقائده ويسر أحكامه، وتأثير فضائله
وآدابه، لا بعناية الخلفاء، ولا سعي الملوك والأمراء. أي خليفة أقام للدين دعاة
تحت حمايته في بلاده أو في البلاد الأخرى إلا ما كان من دعاة الفتنة ورواد
الإضلال على عهد العبيديين في مصر؟ أي خليفة سعى في جمع كلمة المسلمين
التي فرقتها المذاهب، ومزقها اختلاف المشارب؟ كل ذلك لم يكن كما علمت من
المقالات السابقة، ولو كان لما وقف سير الإسلام، أو تقلص ظل سلطته عن أحد
من الأنام، ولما أصيب فيضانه بالجزر أو يبلغ مده غاية حده. ما رعوا الخلافة حق
رعايتها، بل صيروها ملكًا عضوضًا كما ورد في أعلام النبوة، فساءت الحال،
وانتهت إلى هذا المآل. وهذا لا يمنع من تدارك ما مضى وتلافي ما فرط فيه.
ولما كانت لمولانا المتبوئ مقام الخلافة لهذا العهد أمير المؤمنين عبد الحميد
الثاني (أعزه الله تعالى وأيده) عناية عظيمة في إحياء منصب الخلافة الأسمى،
والقيام بشؤونها بقدر الاستطاعة، رأينا من واجب النصيحة للإمام التي ورد بها
الحديث الصحيح الذي أوردناه في مقالة (الإصلاح) السابقة أن نبين ما نعلم أنه من
مقومات الإصلاح الديني، كما بينا رأينا في مقومات الإصلاح السياسي المدني،
على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية لا يقوم أحدهما حق القيام إلا
بالآخر، والشريعة الإسلامية هادية للإصلاحين، إذ كل خير وصلاح للعباد، يتعلق
بالمعاش والمعاد، قد قرره الإسلام واعتده من مقاصده. وقد عرف علماء المسلمين
الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح
في المآل. ولهذا قلنا في العدد الماضي: إن مرادنا بالإصلاح الديني (ما يؤدي إلى
المحافظة على الدين والعمل به وجمع كلمة المسلمين) ولا يحصل هذا بعمارة
المساجد والتكايا، ولا بالإنعام على بعض الشيوخ أو أهل الحجاز بالرتب والرواتب
والوسامات، بل لابد في ذلك من أعمال تناط بالحكام وأعمال تطلب من العلماء
وأصحاب الوظائف الدينية، كالأئمة والخطباء والمدرسين، وأعمال تتعلق بمجموع
الأمة، وأعمال تختص بالبلاد الحجازية، وإننا نتكلم على ما يسنح لنا في ذلك
بوجيز من القول مستمدين التوفيق للتي هي أقوم ممن علم بالقلم، علم الإنسان ما
لم يعلم.
أهم ما جاء به الإسلام هو التوحيد في العقائد الدينية والتعاليم الأدبية والأحكام
القضائية والمدنية، فأهم أركان الإصلاح الإسلامي جمع المسلمين على عقيدة واحدة
وأصول أدبية واحدة وقانون شرعي واحد، لا يحكم عليهم غيره في أي نوع من
أنواع الأحكام، ولغة واحدة. ويتوقف هذا الإصلاح على تأليف جمعية إسلامية تحت
حماية الخليفة يكون لها شعب في كل قطر إسلامي، وتكون عظمى شُعبها في مكة
المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها
ومعاهدها المقدسة، ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف،
حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج
فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية
والجهرية. وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها
في دار الخلافة، وثم مرجحات أخرى من أهمها: البعد عن دسائس الأجانب
ووساوسهم، والأمن من وقوفهم على ما لا ينبغي وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله.
(ومنها) : أن لشرف المكان ولحالة قاصديه الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص
والتنزه عن الهوى والغرض فضلاً عن الغش والخيانة، وينبغي أن يكون للجمعية
الكبرى جريدة علمية دينية تطبع في مكة أيضًا، وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة
تنشئها.
ولنذكر كل توحيد من التواحيد التي يجب في الإصلاح جمع الأمة كلها عليها،
وما يكون من عمل الجمعية فيها، ثم نذكر أهم ما يناط بالجمعية وشُعبها من الأعمال
وهو تلافي البدع والتعاليم الفاسدة التي تحدث قبل انتشارها، وإصلاح الخطابة
والدعوة إلى الدين، وأهم نتائجها وهو ارتباط الحكومات الإسلامية واتحادها فنقول:
(الأول والثاني: توحيد العقائد وتوحيد الآداب) : تؤلف الجمعية كتابًا فيما
أجمع عليه المسلمون بجميع فرقهم التي يعتد بإسلامها من أصول الدين الثلاثة:
صحة الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، وإحسان الأعمال. لا يذكر فيه شيء من مسائل
الخلاف، لا سيما بين الطوائف الإسلامية التي لها إمارة وفيها كثرة كالشيعة، بل
ينحى فيه منحى " رسالة التوحيد "، التي ألفها حديثًا أحد علماء الأزهر الشريف،
ولا يتعرض فيه أيضًا لمباحث الفلسفة التي مزج الأولون بها علم الكلام، ويكون
الكتاب بعبارة في غاية السهولة، ويترجم لجميع اللغات المتداولة، ويعلم من مقام
الخلافة بأن هذا هو الإسلام وجميع الآخذين به إخوة في الدين يجب على كل منهم
أن يعتد مجموع الأمة جسمًا واحدًا هو عضو فيه كسائر الأعضاء، وأنه لا قوام له
ولا حياة ولا شرف إلا بسلامة المجموع من كل ما يعرض على الحياة من العلل أو
يمس الشرف، ولا يمنع من هذا الاختلاف في المسائل الفرعية والتي ليست من
أسس الدين وأركانه، كالمفاضلة بين الصحابة (عليهم الرضوان) في الخلافة
وغيرها، كما لا يمنع الإنسان من تكريم أعضائه، تلونها بلون غريب عن لون
الفطرة، أو كما لا يمنعه من محبة إخوته وأبنائه دمامة أو مرض يعرض لبعضهم،
بل ينبغي أن تكون العناية بأمر المنحرف أشد، والانعطاف عليه أقوى.
(الثالث: توحيد الأحكام) : لا يمكن أن تنال الأمة حظها من السعادة المدنية
إلا بخضوعها ظاهرًا وباطنًا للقوانين القضائية والمدنية التي تسير عليها حكامها،
ولا يمكن أن يخضع مسلم لقانون وضعه البشر إلا كرهًا وإجبارًا، ومن يراعي منهم
القانون ويخضع له في الظاهر كرهًا يعصيه في السر إذا أمن العقوبة، كأن علم أنه
لا يمكن إثبات عصيانه ومخالفته أو أنه يتسنى له إرضاء لحاكم بالشفاعة أو الرشوة،
وما اضطر الحكومة العثمانية والمصرية إلى العمل بالقوانين الأوروبية إلا عدم وجود
كتب شرعية إسلامية تنطبق على حالة العصر، وعجز الحكام عن أخذ ذلك من
الشريعة لجهلهم بها وغفلة العلماء عن حالة العصر وما تقتضيه، والتقيد بمذهب
واحد. فإذا أمر الخليفة الجمعية بتأليف كتب تؤخذ من جميع المذاهب الإسلامية
تنطبق على حالة العصر لأجل الحكم بها فعلت، وهو أيسر شيء عليها. ولا
يتوقف هذا على التلفيق الذي يمنعه الجمهور لأنه مفروض في مسألة واحدة، وإذا
صادقت على هذه الكتب شُعَبُ الجمعية كلها صار متعينًا للاتفاق عليه من علماء الملة
على اختلاف مذاهبهم، ثم إذا أمر الخليفة بالعمل به تذعن له النفوس وتخضع سرًّا
وجهراً. ولا يختلج في ذهن عاقل أن ذلك يسوء أصحاب الملل الأخرى في الدولة،
ويتولد منه نفورهم منها؛ لأن العنصر الكثير في الدولة منهم هو عنصر النصارى،
ولا يمكن نفور هؤلاء من قوانين الشريعة الإسلامية بحجة الدين؛ لأن دينهم يأمرهم
بالخضوع لأى سلطان يحكمهم وأية شريعة يحكمون بها، ولا بحجة المصلحة
والمنفعة؛ لأن مصالحهم ومنافعهم تحفظ بشريعة يذعن لها مشاركوهم في تلك
المصالح وأعمالها، ومجاوروهم في وطنهم سواء فيها حاكمهم ومحكومهم - ما لا
تحفظ بشريعة يعتقد الحاكم والمحكوم أن العمل بها غير واجب، بل تعدي حدودها لازم
لا يمنع منه إلا الأمن من العقوبة، لا سيما وهم يعلمون أن الشريعة الإسلامية تأمر
بالعدل والمساواة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، وتفرض على المسلم من
الواجبات ما لا تفرض على غيره. وكاتب هذه السطور يعلم من مذاكرة نبهاء
النصاري وعقلائهم أنهم يتمنون لو تكون الأحكام شرعية إسلامية، ولا ينتقدون مما
يعلمونه من أحكام الفقه الإسلامي إلا مسائل قليلة ليست من مسائل الإجماع ومهمات
الدين في الغالب.
وفي توحيد الأحكام الشرعية على ما ذكرنا إرضاء لجميع مذاهب المسلمين في
الفروع، وقطع لعرق التعصب الذي أضر بهم في الأيام الخالية، وغير ذلك من
الفوائد التي لا محل في هذه المقالة لشرحها. ويوشك أن تحكم الدول الأجنبية
مستعمراتها الإسلامية بهذا القانون إرضاء لأهلها واستمالة لهم واطمئنانًا بخضوعهم
للأحكام سرًّا وجهرًا. ولا حاجة هنا لبيان كيفية التأليف من الضبط والسهولة
والترتيب، وإن لنا في مجلة الأحكام العدلية لخير مثال. ولا دليل على أن جميع
الحكومات الإسلامية تأخذ بهذا القانون حالاً ولكن لا مندوحة لهم عن الأخذ به مآلًا.
(الرابع: توحيد اللغة) : كل من كان قصير النظر لا يتجاوز شعاع بصره
ما بين يديه - وكل من كان جاهلاً بأحوال الأمم الحية وسعيها في نشر لغاتها في
جميع الأقطار- وكل من ضعف عقله ودينه فوقع في هوة اليأس من حياة الأمة
ونجاح عمل كبير على يدها - وكل من تمكن منه الطيش والعجلة وقلة الاحتمال
فصار يطلب الغاية في البداية - كل هؤلاء الأصناف يعتقدون أن محاولة جمع الأمة
الإسلامية أو شعوب الدولة العثمانية على لغة واحدة غرور وجهل لأنها محاولة محال،
وطلب ما لا ينال، ولكن لا يوجد ذو مسكة من العقل يرتاب في أن نجاح الأمة
التام وارتقاءها الكامل يتوقف على وحدة لغتها، فاللغة هي مناط الجنسية ومعقد
الارتباط عند الأمم المرتقية، وما دامت الدولة مختلفة الأجناس فهي على خطر من
حياتها السعيدة، وبين يدينا من الشواهد ما يقطع لسان كل معاند.
هذه دولة أوستريا - النمسا والمجر - تعد من الدول القوية المتمدنة في
أوروبا، ومع ذلك قد رماها اختلاف الأجناس بالفتن التي يخشى أن تؤدي إلى
تمزيقها بتفريقها وتودي بعظمتها التي يمسكها الإمبراطور الحالي أن تزول لما له من
المكانة والمحبة في نفوس الجميع.
العمل الأول في توحيد اللغة إنما يكون من الخليفة صاحب السلطان، وعمل
الجمعية فيه كعملها في نشر الدين والدعوة إليه كما يأتي. والحكومة العثمانية تجتهد
في تعميم لغتها التركية العذبة في بلادها ولا يتسنى لها ذلك أبدًا. وتترجح اللغة
العربية على التركية في وجوب تعميمها بأمور:
(منها) : كونها لغة الدين، فإحياؤها إحياء له، وتعميمها وسيلة لتعميمه
وفهمه.
(ومنها) : إمكان نشرها بسهولة؛ لأن التركي يدعوه إلى تعلمها كونها لغة
دينه أما العربي الذي لا طمع له في مناصب الدولة فلا تتوجه نفسه إلى تعلم
التركية، وهذه الدولة العلية لم تقدر في بضعة قرون أن تستبدل لغتها بالعربية في
قطر من الأقطار، ولو سارت على ما كان يرغب السلطان سليم ياوز- رحمه الله
تعالى - من جعل العربية لسان الدولة الرسمي وتعميمه لكان معظم الأتراك اليوم
ينطقون بالضاد.
(ومنها) : محو الامتياز الجنسي بين الترك والعرب؛ فقد أضر هذا الامتياز
بالدولة ضررًا مبينًا، ولا تزال أخطاره تهددها. نعم إن الرابطة الإسلامية بين
العنصرين كافية للاتحاد والاعتصام، ولكن أين التربية الإسلامية التي تنفخ هذا
الروح في العنصرين كما نحب ونرضى؟ ولا يجهل من وقف على دسائس
المفسدين أن أنفذ عواملهم في التفريق بين هذين العنصرين هو اختلاف اللغة. فإن
كان كمال بك الكاتب العثماني الشهير (عليه الرحمة) قال: (إن الجامعة بين
الترك والعرب مؤيدة بأخوة الإسلام ورابطة الخلافة، فإن كان أحد يقدر على تفريقها
فهو الله، وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو إبليس) فلقد قال ما قال ولم يكن السعي في
التفريق قد وقع فعلاً. أما الآن فقد ظهر من أعداء الدولة أبالسة تسعى لهذا الفعل
القبيح بما تستطيع، وفتنة اليمن لا تخلو من آثار هؤلاء الأبالسة الأشرار.
(ومنها) - أي المرجحات -: كون الناطقين بالعربية في الدولة أكثر عددًا،
فما بالك بهم في الأمة كلها.
(ومنها) : كون علماء المسلمين في جميع أقطار الأرض يعرفونها.
(ومنها) : أن سعي أمير المؤمنين في نشر لغة الدين وتعميمها يجمع قلوب
المسلمين في جميع المسكونة على محبته والتمسك بولاء دولته.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))