للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاحتفال بعيد الدستور العثماني

قرر مجلس الأمة العثمانية المؤلف من المبعوثين والأعيان أن يكون مثل اليوم
الذي أعلن فيه الدستور من كل عام عيدًا وطنيًّا للعثمانيين، تحتفل فيه
الحكومة رسميًّا، وصدرت إرادة السلطان الدستوري الأول مولانا محمد الخامس
بذلك، وقد علم من صحف عاصمة السلطنة أن الاحتفال الأول فيها سيكون ذا بهجة
وفخامة لم يعهد لهما نظير، يشترك فيه الأهالي مع الحكومة بمحض أريحيتهم
واختيارهم راضين مسرورين، لا كاحتفالات عيد الجلوس الحميدي التي كان عبد
الحميد ينفق على الرسمي منها وغير الرسمي، حتى إنه كان يرسل مقدار الزينة
من يلدز إلى دور الكبراء؛ لعلمه أنه لا يكاد يوجد فيهم من ترتاح نفسه إلى إنفاق
شيء مما ملكته يده على ذلك، وإن كان مما نهبه بجاه عبد الحميد من مال الأمة، أو
ما باعه للأجانب من مصالحها.
سبق لنا بحث في فلسفة هذه الاحتفالات في المجلد الرابع من المنار في مقالة
عنوانها (الشعور والوجدان، وشعائر الأمم والأديان) (في ص ٦٤١) وفي
استدراك عليها (في ص ٦٧٥) ، وقد بينا هنالك أن الأعياد من الشعائر التي تحيي
شعور الأمم بالمعنى الذي وضع العيد لأجله، سواء كان دينيًّا أو اجتماعيًّا، ومما
قلناه في المقالة:
(إن أهل الغرب اتخذوا لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي
يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي
يعتزون بها ويعززونها. وقد قلدهم الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم
لإرضائهم، إذ كانوا لا وطن لهم ولا وطنية، ولا دول عزيزة بحكومتها قوية، ولا
شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين
يعتقدون النفع فيه للدولة والأمة، فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون،
حتى يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.
وقد مزجنا في هذا بين ما هو مقصود من هذه الاحتفالات بأعياد الملوك
والأمراء إلفًا، وما كان ينبغي أن يقصد، ثم استدركنا على ذلك في الجزء الذي
نشرت فيه المقالة بعد ذكر الاحتفال بقدوم الأمير من أوروبا، فبينا أن الشرقيين لم
يتبعوا الغربيين في ذلك، وإنما يحتفلون بالملوك والأمراء لذواتهم لا لمعنى وطني
عام، قلنا: (الصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك
أنهم عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة
والاستبداد. وأما مسألة إحياء الشعور، فنرى بعض الجرائد تنوه بضدها ذاهبة إلى
أن هذه الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتفل لأجله وحبه، وربما يصح
هذا من بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولد هذا الشعور، وإنما الظلم في
إسناده إلى الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون) . اهـ. المراد منه
هنا.
وأقول الآن: إن الاحتفال لذكرى جلوس السلطان عبد الحميد قد كانت من
أسباب انتشار الشعور بعظمته في نفوس من لم يذوقوا ظلمه، ونفوس من ذاقوه من
حيث لا يعلمون أنه منه، وكذا من عرفوا. ولكن شعورهم هؤلاء بعظمته في أمتهم
كان يزيدهم شعورًا بمقته وبغضه، ولم يحل دون ذلك الشعور كله كون النفقة على
الاحتفال الرسمي منه كانت من مال الحكومة، وعلى غير الرسمي من أموال
المرائين في الغالب.
إن تقوية الشعور بعظمة الأمراء والسلاطين في نفوس الأمة، يضعف فيها
الشعور باستحقاقها للسلطة وأهليتها للحكم الدستوري فتبقى ذليلة مهينة، ويقابل هذا
كون الاحتفال بعيد الدستور يقوي في الأمة الشعور بكرامتها واستحقاقها
للحكم الذاتي، وإذا كان سلطانها راضيًا لها بذلك مشتركًا معها فيه - كما هو
شأن سلطاننا محمد الخامس أيده الله تعالى - كان ذلك مما يحببه إليها ويرفع
مكانته في نفوسها، مع العلم بأن عزته بعزتها وعظمته بعظمتها دون العكس.
لهذا المعنى وضع عيد الدستور للأمة العثمانية، وتعلقت به الإرادة السلطانية
ولهذا المعنى يحتفل العثمانيون بهذا العيد الوطني حيثما كانوا، وأينما حلُّوا،
وستكون عنايتهم بذلك على قدر فهمهم لقيمة الدستور، وشعورهم بفائدته.
ألفنا نحن العثمانيين المقيمين بمصر لجنة لجمع المال، والقيام بما يحسن من
الاحتفال، وشاركنا في ذلك إخواننا المصريون، وما هم إلا مثلنا عثمانيون (وإذا
قوبل الخاص بالعام، يراد بالعام ما وراء الخاص) وسيكون احتفالنا في حديقة
الأزبكية بكيفية لم يعهد لها نظير في الأعياد القومية ولا الرسمية، تتجلى فيها
الحديقة متلالئة بالأنوار الكهربائية، وأبدعها ما يمثل منها الشارات العثمانية،
وتأتلف فيها أصوات أشهر المطربين بنغمات أحسن آلات الموسيقيين، وتعرض
فيها الصور المتحركة البديعة، ولا سيما صور حوادث الآستانة الأخيرة، وغير
ذلك من أسباب الأنس التي تتوخى في هذه المراسم.
وقد ألف أهل الإسكندرية لجنة لإقامة احتفال عمومي أيضًا، وسيكون هنا
وهناك زينات خاصة يقيمها الأفراد على بيوتهم أو أمكنة أعمالهم، فتتجلى بهذه
الاحتفالات عثمانية المصريين وإخلاصهم للدولة العلية، كما يتجلى فيها حبهم
للدستور ومعرفتهم لقيمته.
يذهب بعض رجال الدين إلى أن هذه الأعياد الوطنية والسياسية محظورة في
الإسلام؛ لأنه لم يأت إلا بعيدين فقط هما: عيد الفطر وعيد النحر، فالزيادة عليهما
بدعة. وقد سمعنا هذا القول من أحد العلماء فقلنا له: إن البدعة الدينية إنما هي فيما
يعمل على أنه من الدين، فقولك هذا إنما يصدق على الموالد التي صبغت بصبغة
الدين، دون هذه المواسم المشتركة بين أهل الأديان المختلفة التي لا صبغة للدين
فيها. نعم.. يتجه أن يقال: إن الدين يحظر من المواسم الدنيوية ما وضع منها
لمقصد ضار؛ كتعظيم الملوك الظالمين وتقوية سلطتهم دون ما وضع لمقصد نافع؛
كتعزيز الأمة ورفعة شأنها.
***
المشتركون الماطلون
بعض الماطلين في القطر المصري معذور بما أصابه من العسرة المالية،
وبعضهم يعتذر بها بغير حق، ولكن ما بال أهل سنغافورة وجاوة وروسيا الذين كنا
نعدهم أحسن المسلمين وفاء، كادوا يكونون كأهل تونس مطلاً وهضمًا.