للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعصب الديني عند الإفرنج
كتبنا في الجزء الماضي نبذة في التعصب الديني عند الإفرنج، بينَّا فيها أن
مهد الغلو فيه أوروبا لا آسيا، وقبل أن ينشر الجزء ظهر في الجرائد الإفرنجية
المصرية ما يؤيد رأينا ويثبته.
أشاعت هذه الجرائد أنه وقع خلاف في لجنة الاحتفال بعيد الدستور العثماني
سببه الاختلاف في الدين، وأن صاحب المنار قال في اللجنة: إنه لا يقبل أن يكون
رئيسها نصرانيًّا. وطفق محررو تلك الصحف يشنعون على هذا التعصب الإسلامي
الشرقي الذي تخيلوه فخالوه، فشنعوا عليه كدأبهم وعادتهم وقياسهم على أنفسهم.
ويقال: إن بعض محرري تلك الصحف من السوريين، وكأنهم لما تلقوا لغات
الإفرنج وآدابهم تفرنجوا، فأخذوا منهم محضاء التعصب يحركون به ناره كلما
سنحت السوانح أو عنت البوارج، وهاك ما قاله في ذلك جريدة (النوفل) نقلاً عن
ترجمة الأخبار لها: (قلنا في عدد سالف: إن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار
ارتأى أنه يجب أن لا يرأس نصراني جمعية الاحتفال بالدستور العثماني، والشيخ
رشيد هذا كان إلى اليوم يعد حرًا مريدًا للدستور، عدوًّا لحكم السلطان عبد الحميد،
وقد حارب الخليفة السابق بصفته مسلمًا باذلاً جهده في سبيل تقويض حكمه المبني
على الظلم والاعتداء والنهب والسلب والفتك بعباد الله، وقد كان شديد اللهجة في
كتاباته إلى حد أنه ألزم أن يفر من تركيا ويلجأ إلى القطر المصري.
والآن قد تغيرت الأحوال واعتقل عبد الحميد في سجنه الحالي في سالونيك،
محجوبًا نظره عن الإشراف على ما يجري في البلاد، وأصبح تحول بينه وبين
الحياة، وبينه وبين الطبيعة سيوف الحراس، فقد هذا الظالم الذي طرده العالم من
بينهم قوته، ولكن أولاً هل سقط مع عبد الحميد كل ما كان قائمًا في أيامه؟ إننا لنشك
في ذلك؛ لأنه إذا كان مثل الشيخ رشيد رضا يجعل بين المسلم والنصراني فارقًا،
فماذا يفعل غيره؟ أفلا يجوز أن نعتقد أن أحرار الأتراك ما كادوا يستولون على
كرسي السلطة حتى تناسوا مطالبهم القديمة بإقامة العدل وتأليه الحرية.
إن الشيخ رشيدًا سيندم على ما جاهر به، غير أن ندمه لا ينفي أنه قال ما
قال، ولقد أصبح الآن يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص إخوانهم
المسلمين) . اهـ
(المنار) لما اطلع أعضاء لجنة الاحتفال بعيد الدستور على هذه الكتابة، كتبت
اللجنة إلى هذه الجريدة وسائر الجرائد التي ذكرت الخبر المختلق تكذيبًا له. ونحن
نزيد على هذا التكذيب كلمة نقولها لكاتب تلك النبذة في جريدة النوافل وهي:
قلتم: إنه يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص المسلمين لهم،
بعد أن نقلت لهم صحفكم تلك الكلمة عن صاحب المنار دون صحفهم العربية، وكان
من مقتضى التساهل الذي تدعونه أن لا يصدقوها عنه؛ لما يعلمون بالاختبار
الطويل من تساهله، وكتابته في الدعوة إلى الوفاق اثنتي عشرة سنة حتى باسم
الإسلام، وسعيه مع بعض أصدقائه المسلمين في تأليف جمعية سياسية سرية مؤلفة
من جميع العناصر العثمانية؛ لأجل جمع كلمتهم وتوحيد مصلحتهم، أو كان ينبغي
لهم مع تصديقها أن يحملوها على غرض صحيح غير التعصب كأن يكون مراده - لو
صح الخبر - أن جعل الرئيس من كبراء المسلمين كأمراء البيت الخديوي مثلاً،
يجعل للجنة من النفوذ والاحترام وقبول الدعوة إلى الاكتتاب ما لا يرجى مثله، لو
كان الرئيس نصرانيًّا؛ لأنه ليس في نصارى العثمانيين من له مثل هذا النفوذ. هكذا
شأن المتساهل يتروى ويتثبت في الخبر الذي يثير الخلاف وينافي الائتلاف، فإن أيقن
بصدقه التمس له مخرجًا صحيحًا.
فإذا كان النصارى يعذرون على رأيكم بعدم الثقة بإخلاص أحد من المسلمين
لخبر يحتمل الصدق والكذب، والقرائن تدل على كذبه، ويحتمل على تقدير صدقه
أن يكون قيل لغرض صحيح لا للتعصب، أفلا يعذر المسلمون بالأولى إذا كانوا
يرون الرجل من علماء دينهم وسلالة نبيهم والدعاة إلى الإصلاح الديني فيهم.
يقضي السنين الطوال وهو يدعوهم إلى التسامح والائتلاف مع النصارى وغيرهم
بالقول، ويجعل نفسه قدوة في ذلك بالعمل، ثم يرميه النصارى بالتعصب ويجعلونه
حجةً على عدم ثقتهم بأحد من المسلمين.
بلى، ولكن نحمد الله تعالى أن كان أهل الشرق من المسلمين والنصارى لم
يصلوا إلى هذا الحد من التعصب الذي ينفثه فيهم كتاب الإفرنج والمتفرنجين منهم؛
ولذلك رأينا الفريقين قد هزءوا بما كتب في تلك الجرائد الإفرنجية عن صاحب
المنار، حتى قبل تكذيب اللجنة له.