للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الهرج والقتل في أطنه)
أشرنا في آخر الجزء الثالث إلى هذه الحوادث وكانت في بدايتها، وقلنا: إنه
لا ثقة بأخبار شركة روتر أن الترك هنالك تصدوا لذبح الأرمن عدوانًا، ثم إن
الجرائد في الآستانة وسورية ومصر، جاءت بتفصيل لتلك الحوادث، جاء في
بعضها أن الأرمن كانت هي المضرمة لنار الفتنة وأن مبدأ ذلك تمثيل الأرمن لقصة
سياسية في أدنه، يصفون فيها ظلم الترك لهم، وقيام ملك منهم ينقذهم من ظلمهم
ويقيم لهم دولة جديدة. ثم إنهم لم يكتفوا بهذا، بل طفقوا يستحضرون السلاح الجديد،
فتنكر لهم المسلمون إلى أن انفجر البركان، وفاض الطوفان، واقتتل الفريقان،
وروي أن أول واقعة من وقائع الاعتداء كانت من الأرمن. ومن الناس من لا
يصدق هذه الروايات، بل يرجح أن المسلمين هم المعتدون، ومنهم من يقول
ويكتب غير ما يعتقد، وللهوى سلطان على القلب وعلى القلم واللسان. ومن رأينا
أن يُرجأ الحكم في الأسباب والمبادي إلى أن يتم تحقيق الحكومة في ذلك، وينشر
رسميًّا.
مهما كانت الأسباب والمبادي، وأيًّا ما كان المعتدي والبادي، فلا شك في كون
الفريقين قد عملا ما لا يبيحه الدين الذي ينتسبان إليه، ولا يتفق مع مصلحة الوطن
الذي يقيمان فيه، فقد هدمت الدور، وأحرقت الأسواق، وقتل النساء والأطفال،
وحملت الأمة عبئًا من العار، ولحق الحكومة ما لحقها من الخسار، وتألمت
الإنسانية الفاضلة في جميع الأقطار.
قد أكثر أهل الأهواء وأفرط مقلدة التفرنج من القول بأن سبب ذلك هو
التعصب الديني، ولو كان ما زعموا لما كان الهرج بين الترك والأرمن دون سائر
المسلمين والنصارى، فقد ثبت أن أبناء العرب هناك كانوا يحمون الأرمن
ويواسونهم، وأن الأرمن لم يعتدوا على غير الترك، والترك لم يعتدوا على
غيرهم. فالمسألة إذا أثر من آثار الأحقاد الجنسية، ومن جعل سببها التعصب الديني
فهو - إن لم يكن جاهلاً- متعصب أو منافق يتزلف للمتفرنجين، وإن ادعى أنه
من الأحرار أو المسلمين.
دعا بعض فضلاء العثمانيين الناس إلى الاجتماع في حديقة الأزبكية؛ لسماع
الخطب والقصائد في شكوى الإنسانية؛ من ذبح أبنائها بعضهم لبعض، والحث
على مواساة المنكوبين وإعانة اليتامى والأرامل من الفريقين- المسلمين والأرمن-
فلبى الدعوة جماهير أهل الخير من جميع الطوائف ما عدا الأرمن. وخطب صاحب
هذه المجلة - على أنه كان مريضًا والحر شديدًا- خطبة ارتجالية بناها على بيان
التفاوت العظيم بين الإنسانية الراقية والإنسانية السافلة، التي يكون أصحابها شرًّا
من الوحوش الضارية والحشرات السامة، وكون هذا الاجتماع احتجاجًا من أهل
الأولى على أهل الثانية وإرشادًا وتعليمًا. وبينت فيها مشروعية البر والإحسان في
الإسلام بجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، بل بجميع الأحياء (في كل كبد حرى أجر)
ورمى بعض الخطباء إلى كون المسلمين هم المعتدين الباغين باسم الإسلام،
فرددت عليه بلطف وقلت: إن المقام مقام استعطاف لا محاكمة ولا تاريخ، وإن
التحقيق الرسمي سيظهر الحقيقة، إن المسألة جنسية لا دينية.
ذلك ما كتبناه للجزء الماضي من المنار، فلم يتسع له ثم قرأنا في جريدة لسان
الحال البيروتية المؤرخة في ١٥ الشهر (رجب) ملخص تقرير المجلس العرفي،
فنحن ننشره بنص هذه الجريدة وهو:
(تقرير المجلس العرفي في أطنه)
وضع المجلس العرفي في أطنه تقريرًا مفصلاً بحوادث أطنه. ولكن جرائد
دار السعادة العلية لم تنشر إلا خلاصة منه. وهو يذكر أن الحوادث التي جرت
هناك إنما يصعد تاريخها إلى أيام بحري باشا الوالي الذي كان قبل جواد باشا؛ فإنه
ظلم الناس ظلمًا فاحشًا، وأوقع بهم خسفًا وجورًا، وهم لا يبدون ولا يعيدون، بل
كانوا كالموتى لا يتحركون ولا يشكون، وكان رجال الوالي كثيرين، وهم ينتفعون
من توسيع نطاق تلك الاختلالات، ويتمنون إلى الله أن تدوم؛ لأن أكثر تلك المظالم
التي تشمئز منها النفوس الأبية، كانت واقعة على الأرمن، وكان هؤلاء بها
راضين صابرين، حتى يمن الله بالفرج ولما ثقلت الوطأة وشعروا بشدة الشكيمة،
فضلوا الموت على الحياة. ولكن الذين كانوا يعللون النفوس بأمل الانفصال في
الاستقبال، كانوا يُسَكِّنُونَ رَوْعَهُمْ وَيَحُضُّونَهُمْ على الصبر، وقد أتوا بكثيرين من
هؤلاء المظلومين من أنحاء الولاية وأقاموهم في مركز الولاية، وقالوا: إنَّ هذا
المركز يعتبر ثغرًا بحريًّا، وقد استجلبوا له كثيرًا من الأسلحة لا سيما بعد إعلان
الدستور، فإنها كانت ترد إليهم من بيروت كميات عظيمة بالسفن والبواخر، وكانت
توزع عليهم في أطنه وضواحيها، حتى زادوا طمعًا بالانفصال عن الحكومة.
وبعد إعلان الدستور، كان المسلمون يتقربون من جميع أبناء الطوائف،
ويظهرون لهم المودة والمسالمة. ولكنهم ما كانوا يخفون احتقارهم للجمعيات
الأرمنية الموجودة في البلاد؛ لاعتقادهم بأن أعضاءها يسعون في الانفصال
والاستقلال، وقد زادهم ثقة بذلك؛ كونهم رأوهم يقيمون الشُّعَبَ والفروع لجمعياتهم
في كل الجهات، ولا ننكر أن الحكومة أظهرت ضعفًا شديدًا في كل الأحوال التي
مرت بالبلاد، فإنها لم تسع في قمع الفتن ولا في إخماد المشاغب، حتى إنه بلغ
مسامعها أن الأرمن يسعون سعيًا متواصلاً في الوصول إلى الاستقلال الإداري،
وأن رفاقهم في أوربا يكاتبونهم بذلك. ولكن الحكومة لم تلتفت إلى هذه المسألة،
واعتبرتها كأنها لم تكن.
وقد اتصل بالحكومة أن الجمعيات الأرمنية وزَّعَتْ رسومًا وجرائد وشارات
مخصوصة على الأرمن، وجعلت لكل منهم علامة فارقة يعرف بها، ومع ذلك
فإنها لم تهتم للأمر، ولا سَعَتْ في إيقاف تياره، حتى إن المطران موشاخ الذي
هرب، كانت له يد سوداء في كل هذه الأعمال المغايرة، وما زال الأمر يزداد
استفحالاً، ونطاق الخلاف يزداد اتساعًا بين المسلمين والأرمن، حتى صارت
الحوادث تتوالى من مدة إلى أخرى، وكثيرًا ما كانت تتفاقم وتتجسم حتى امتلأت
القلوب بالضغائن، ووقع ما وقع بين الفريقين من أسباب القتال الذي قضى بذهاب
الأنفس، ووقائع الحرق والنهب وغيرها [١] .
وكانت الحكومة تنظر إلى هذه الأحوال بعين لا يخامرها كلل، وفكر لا
يعتريه وجل ولا حسبان لشيء، وكان الخَطْبُ يتفاقم ويتعاظم بين المسلمين
والأرمن، وفي كل يوم يطلق الرصاص هنا وهناك من الفريقين، والحكومة لا
تكترث له، حتى جنت بذلك جناية لا تغتفر، ولما قبضت على بعض المشاغبين
من الأرمن، توسط البعض في آمرهم فتركتهم وشأنهم. أما المسلمون فأبقتهم في
الحبس فكثرت إذ ذاك الإشاعات، وتراكمت المخاوف والترهات، فراج السلاح
رواجًا عظيمًا، وكان تجاره وباعته ينذرون الفريقين بقرب اشتباك القتال، وإن
الواقعة ستكون عظيمة يتخللها مذابح هائلة، حتى بلغ ما دخل أطنه من الأسلحة
بطريق بيروت وإسكندرونه ومرسين أكثر من ١٣ ألف بندقية عدا البنادق
والمسدسات وغيرها مما لم يعلم به أحد. واتفق أنْ قَتَلَ رجلٌ من الأرمن مسلمًا،
فتعقبته الحكومة ولكن الأرمن خبأوه وأخفوه عنها، ولما أقروا به قالوا: إنهم لا
يسلمونه ما لم تقتص الحكومة من مسلم ادعوا عليه بكونه كان قتل أرمنيًّا.
وفي ١٣ نيسان أطلق رجل اسمه محمود طلقًا ناريًّا في محلة من البلدة،
فقبضت عليه الضابطة. ولكن اجتمع أكثر من خمسمائة نفس من المسلمين وأنقذوه
منها؛ بحجة أنها لم تقبض على الأرمن الذين أطلقوا النار، وليس ذلك فقط، بل
إنهم اجتمعوا ثاني يوم مع رفاقهم وحضروا إلى السراي، وبالاتفاق مع مدير
البوليس أطلقوا سراح كل إخوانهم المحابيس، ومنذ ذلك اليوم أخذ المسلمون
يطوفون في المدينة شاكي السلاح، ويبدون مظاهرات تدل على أنهم لا يعبأون
بالحكومة، ولا يأتمرون بأمرها، وفي أثناء ذلك قتل أرمني مسلمًا، فعارضه
المسلمون، فخرج الأرمن عليهم متحمسين شاكي السلاح حتى ملأوا الشوارع
والطرقات، فاستدعت الحكومة رجال الرديف فحضروا وطافوا في الأسواق
بملابسهم المدنية، فكانوا كسائر الأهالي لا فرق بينهم في اللباس، فقام عليهم
الأرمن. ولكنهم أشاعوا فيما بينهم أن الحكومة هدرت لهم دماء الأرمن،
ورخصت لهم بالفتك بهم، وعند ذلك هجموا على المستودعات العسكرية، وأخذوا
الأسلحة وما يلزمهم من الذخيرة، وفعلوا ما فعلوه، مما أوجب على أعضاء ديوان
الحرب أن ينكروه ويذرفوا من أجله الدموع، ولما حمي الوطيس أخذ رجال
الحكومة يفوزون بأنفسهم، فهربوا وتواروا عن العيان، ثم سجن عدد كبير من
الأرمن.
ولما عقد الديوان الحربي حكم على ١٥ نفسًا من الأرمن والمسلمين بالإعدام،
فأعدموا، ويوجد الآن من ٧٠٠ إلى ٨٠٠ نفس كلهم مجرمون مذنبون كالذين شنقوا
وإذا أردنا محاكمة كل الذين دخلوا في هذه الحوادث كان هناك من ١٠ إلى ١٥ ألف
نفس، وإذا كان لابد من عقاب كل الذين ارتكبوا المخالفات والجرائم، كان لابد من
عقاب كل سكان الولاية.
وقد طلب في ذلك التقرير العفو عن مرتكبي الجرائم والصفح عما مضى. اهـ
(المنار)
ذكر اللسان بعد هذا أن بطرك الأرمن اعترض على هذا التقرير، وزيف
أكثر كلامه. وقد ذكر مثل هذا في بعض جرائد مصر , وإنا لنعلم أكثر من ذلك؛
نعلم أن الأرمن اجتمعوا في الكنيسة في الآستانة، فحثهم البطرك على الثبات على
طلب الاستقلال، وقرروا هناك وفي كل مكان عدم مشاركة العثمانيين بالاحتفال
بعيد الدستور، ولا تزال جمعية الاستقلال الأرمني العليا في الروسية مجدة في
عملها، وساسة الروس يغرونها، وسيكشف لهم الزمان أن اتحادهم بالعثمانيين خير
لهم وأبقى.
***
(فقيد العلم والصحافة الشيخ حسين الجسر)
نعت إلينا جرائد طرابلس الشام وبيروت عالم الديار السورية، بل أحد أفراد
علماء المسلمين في هذا العصر، أستاذنا الشيخ حسين أفندي الجسر صاحب الرسالة
الحميدة التي طار بها ذكره في الأقطار، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار،
ولما كانت مواد هذا الجزء قد تمت، أرجأنا ترجمته إلى الجزء الثامن. سائلين الله
- عز وجل - أن يحسن عزاء أنجاله، وعزاء الوطن عنه، وأن يتغمده برحمته
ورضوانه. آمين.
***
(الدستور في فارس)
ثبت الشعب الفارسي في محاربة الاستبداد، كما ثبت الشاه الجاهل محمد علي
على رفض الدستور، حتى نصر الله الحق على الباطل، فدخل المجاهدون طهران
فاتحين، وخلعوا الشاه، وجعلوا ولده وولي عهده مكانه وهو ابن إحدى عشرة؛
ولذلك جعلوا له نائبًا من كبار رجال الدولة.