للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي


السعادة الحقيقية
لحضرة الأصولي الفاضل حموده أفندي عبده المحامي
(تابع ما سبق)
السعادة الحقيقية هي راحة القلوب وكمال النفوس، فكل ما أدى إلى ذلك كان
موصلاً للسعادة، والفضائل هي المعدات الحقيقية لنوال تلك الغاية كما نبينه الآن.
قدمنا فيما سبق أن الشرائع الدينية لم تتخير مقامًا أعلى من الحث على الفضائل،
ولهذا ما تركت فضيلة إلا وحضت على الأخذ بها، وكلها اتحدت على أن الناس لو
عملوا بما جاءت به من الفضائل لنالوا سعادتهم واستكملوا ارتقاءهم.
وكان يكفينا في هذا المقام أن نطالب أفراد كل أمة بالرجوع إلى ما دوِّن في
كتبهم الدينية والوقوف عند حدها؛ لأن للآيات الدينية عند ذوي العقائد تأثيرًا في
نفوسهم وسطوة على قلوبهم يعلوان أثر كل تعبير مهما أجهد فيه البليغ نفسه إلا أننا
مع ذلك توفية للموضوع نذكر بعض الفضائل، ونبين كيف أنها روح السعادة
وقوامها، ليكون أنموذجًا للقارئ يقيس عليه باقي الفضائل.
فضيلة الصدق مثلاً: هي أساس لراحة القلوب وارتفاع النفوس عن كثير من
الدنايا والرذائل؛ لأن الصدق هو رواية ما يطابق الواقع، وهو قوام للجامعة
البشرية ورباط الألفة وحفيظ المعاشرة.
الإنسان مدني بالطبع وهو في حاجة إلى كثير من المعاملات، ولأجل أن يحفظ
علاقته بمن يحوطونه يلزمه أن يكون صادقًا في رواياته ومعاملاته. والعلة الأولى
في فساد الأسرات (العائلات) هي تطرق الكذب إلى معاملاتهم، وضياع الصدق
من صدورهم وألسنتهم؛ لأنه متى ظهر الكذب فيهم جهل كل عضو من أعضاء
الأسرة ما ينويه الآخر، ورأى من إقبال غيره ما لا يسمع من أقواله، بهذا تتنافر
القلوب وتحقد الصدور وتتزعزع الرابطة ويجر ذلك إلى مفاسد أخرى كالغيبة
والنميمة وما شاكل ذلك من الشرور التي تتولد عقب فساد الطباع. ومتى
ظهر الكذب في أسرة انتقل إلى من يخالطها من الناس، وصار كالداء النقال
يسري في غيرهم، وينتهي الحال بأن تكون روابط الملة التي لا تتكون من
الأسرات المتعددة مزعزعة الأركان فاقدة الجامعة، وينحل فيها النظام.
إذا تأيد الصدق في نفوس أمة سهل حكمها وثبت نظامها وأصبح القضاء فيها
ميزانًا للعدل وأضحى ظهور الحقائق فيها يسطع كضوء الشمس، وعند ذلك تستريح
قلوب الناس من عناء البحث والتنقيب عن كشف غامض أو تبيان خاف، ومتى
تمكن الصدق من نفوس أمة أصبح زاجرًا لهم عن إتيان الموبقات؛ لأن فاعل
الموبقة إذا ثبت في طبيعته فضيلة الصدق خاف عاقبة الإقدام عليها حيث يصبح
مسؤولاً ويلزمه طبعه بالاعتراف بما أتاه ويؤاخذ بما جناه.
ومن ذلك فضيلة الأمانة: وهي أعظم الوسائل الموصلة لراحة النفوس؛ فإنها
إذا انتشرت بين الناس اطمأنت القلوب وحسنت العلاقات وأصبح الناس يتآلفون
ويتعاضدون، وكم يكون رب الأسرة سعيدًا إذا كان أهله وخدمه وحشمه أمناء على
عرضه ومصرفه وخدمته، وكم يصبح أمير البلاد مشروح الصدر إذا كانت بطانته
ورجال دولته أمناء على أعمال الدولة ومهامها. ماذا يكون من حال الدولة إذا بيعت
الأمانات ونقضت العهود وفسدت القلوب وبدلت بالخيانات؟ هل لها من عاقبة سوى
الانحطاط والدمار؟ وهل يغنيها حينئذ وفرة المال أو كثرة الرجال.
انظروا إلى حال الخائن وتعاسته وعذاب قلبه وتعب نفسه، وعرجوا بالطرف
نظرة إلى حال الدخلاء الذين خانوا عيش هذه البلاد. أتوا إليها حفاة عراة والجوع
يكاد يقضي عليهم، ومع ذلك وسعتهم البلاد ورحبت بهم رأفة على حياتهم. وأول
هدية قدموها إليها هي سب الأمراء والعلماء والكبار. ما الذي نالوه بذلك؟ هل نالوا
بذلك غير سخط الله والناس، وهل بقي لهم ذرة من الشرف لو كانت أرواحهم التي
تشغل أجسادهم أرواحاً بشرية ما كانت فارقتها من مدد وأزمان. هل لهؤلاء حياة
حقيقية بين الناس؟ كلا إنهم أموات وستفني الأرض أشباحهم ويحيق بهم العذاب
الأليم.
ومن ذلك فضيلة الألفة واتحاد الكلمة: إذا تنافرت القلوب وتفرقت الكلمة
وضاعت الألفة بين أفراد الأسرة ماذا يكون الحال؟ ألا يصبحون أفرادًا بعد جامعتهم،
وأذلاء بعد عزتهم، وضعفاء بعد قوتهم.
ماذا يكون الحال إذا فقدت الشجاعة من صدور الرجال، وسكن فيها الجبن
القتال؟ هل تبقى راحة في القلوب، وهل تبقى أمانة على الحياة؟ كم يركب الناس
من أهوال الذل ويحوطهم من الويل ويستهويهم من المصائب؟
ماذا يكون من عاقبة الحسد إذا انتشر بين الناس؟ كم يصبح الناس في شقاء
من شر الحساد؟ وكم تزعزع روابط وتنحل ثقات، هل يبقى للحاسد دين، هل له
قلب، كم يكسبه الحسد من الرذائل، ويغريه على إتيان القبائح؟ كم تهينه نفسه
ويلعنه ضميره والله يبغضه؟
فعلى الأمة التي تبغي أن يعلو لها شأن أو يرقى لها حال أن تعتني ببثّ الفضائل
في جميع الطبقات من أفرادها؛ لأنها إذا فقدت الفضائل من نفوس أهلها تصبح آلة
لفساد طباعهم، وتمكنهم من استتباع شهواتهم، وبالفضائل ترتفع الأمة وإن كانت
فاقدة المال، وبلادنا ولله الحمد بلاد الثروة، لا يعوزها غير التربية ولا يحجبها عن
الارتقاء إلا فقد التربية، فعلى كل أسرة أن تعتني بتهذيب أفرادها وتثقيف أذهانهم
بالفضائل الدينية أولاً وبالعلوم الحديثة ثانيًا، حتى يكون لنا الأمل الوطيد في
الوصول إلى السعادة الحقيقية إن شاء الله تعالى.
هذا مجمل الكلام على بعض الفضائل ليتخذها القارئ منوالاً له، وإلا لو
استرسلنا في الكلام على كل فضيلة مع بيان فوائدها في الحياة بالتفصيل لأدى بنا
ذلك إلى التطويل الموجب للملل والسآمة، ونعوذ بالله من الغواية ونطلب منه الهداية.
اهـ