للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدستور والحرية والدين الإسلامي

(س ٢٩ و٣٠) من صاحب الإمضاء في سواكن (السودان) :
حضرة الأستاذ المرشد السيد محمد رشيد رضا دام فضله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد؛ فقد ألجأني فهمي القاصر وذهني الفاتر لرفع هذه الأسئلة لجنابكم؛
ملتمسًا حلها وشرحها شرحًا وافيًا يفهمه الخاص والعام؛ لأن ظروف الأحوال
تقتضي ذلك بالنسبة لما هو حاصل الآن في دار الخلافة الإسلامية صانها رب البرية
وهى:
الأول: ما هو الدستور وما حقيقته، وهل هو موافق للدين الإسلامي تمام
الموافقة؟ وما الدليل عليه من الكتاب والسنة؟
الثاني: ما هي الحرية - القولية والفعلية - وما حقيقتها؟ وهل هي موافقة
للشريعة الإسلامية؟ وما الدليل عليها شرعًا وعقلاً؟
وهل هي كما علق بأذهان العامة بأنها الفوضوية التامة التي لا رادع لها؛ كأن
تذهب المرأة من بعلها وتفعل ما تشاء؛ وهو لا يقدر على منعها. ويذهب الولد
خارجًا من طاعة الوالد، ولا يقدر على تأديبه ومنعه من ارتكاب المحظور، أم هي
بخلاف ذلك؟
نرجو من حضرة الأستاذ إجابتنا على صفحات المنار الأغر في أول عدد منه
لا زال خضم علمه زاخرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... عبد القادر ملا قلندر البخاري
الدستور والدين الإسلامي
(ج) تنقسم الحكومة في عرف أهل العصر إلى قسمين أصليين: حكومة
مطلقة وتسمى شخصية واستبدادية، وحكومة مقيدة أو دستورية ويعبر عنها الترك
والفرس بالمشروطة أي: المشروط فيها العمل بالدستور.
فالحكومة الشخصية المطلقة هي التي يكون فيها حق التشريع والتنفيذ للحاكم
العام والرئيس الأكبر الذي يلقب بالملك أو السلطان أو غير ذلك من الألقاب، فهو
الذي يضع لبلاده من القوانين ما يشاء متى شاء، وينسخ منها ما شاء متى شاء،
غير مقيد برأي أحد ولا مكلفًا أن يستشير أحدًا، وهو الذي ينفذ الأحكام التي يحكم
بها في بلاده بإرادته أي تنفذ باسمه، على أن له أن يوقف تنفيذ ما يشاء منها ويعفو
عمن يشاء، سواء كان الحكم من نوع القانوني الوضعي أو من نوع الديني الشرعي
فهو فوق الشريعة والقانون، لا تجوز محاكمته إذا خالفهما. ومثال هذه الحكومة ما
كنا فيه قبل سنة وشهرين من حكم عبد الحميد، فقد كان بما له من السلطة المطلقة
يمنع من الأحكام الشرعية ما يشاء؛ كمنعه شهادة التواتر والحكم بمقتضاها، والحكم
بالحجر على المجانين، وتنفيذ أحكام الإعدام الشرعية وغير ذلك، كما كان يمنع
من كتب الدين والعلم ما شاء، ويصادر منها ما شاء بمحض الهوى والوسواس.
فهذا النوع من الحكم يُحَرِّمُهُ الدين الإسلامي، بل تحكم الشريعة الإسلامية
بكفر مستحله؛ لأن من استحل الحرام المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة؛
كإبطال الأحكام الشرعية، ومصادرة الناس في أموالهم ودمائهم كان مرتدًّا.
وأما الحكومة الأخرى أي: المقيدة أو المشروطة أو الدستورية فهي التي
يكون فيها الحاكم العام ومَن دونه مِن الحكام والعمال مقيدين كلهم بالدستور،
والدستور عبارة عن شريعة البلاد وقوانينها التي يضعها أهل الرأي الذين تعهد إليهم
الأمة ذلك بالتشاور بينهم؛ ليس للحاكم العام فيها أن يستبد بشيء، بل عليه أن يتقيد
بالشريعة والقانون الذي رضيه وقرره أهل الشورى. فهذه الحكومة موافقة للدين
الإسلامي في أساسها وأصلها؛ هذا لأن أحكام الإسلام قسمان: أحكام دينية جاء بها
الوحي، وأحكام دنيوية جاء ببعضها الوحي؛ إرشادًا وتعليمًا، ووكل سائرها إلى
أهل الشورى من أُولي المكانة والرأي الذين عبر عنهم القرآن العزيز بأولي الأمر،
فهم الذين يضعون برأيهم واجتهادهم ما تحتاج إليه الأمة لإقامة المصالح ودرء
المفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. دليل ذلك قوله تعالى في المؤمنين:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) ، وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) وقد بينا معنى هاتين الآيتين أكثر
من مرة، وليراجع السائل تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) - (ص ٧٢٦ م١١) وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه
وسلم في أمور الدنيا، والخلفاء الراشدون من بعده.
هذا هو معنى موافقة الدستور للشرع الإسلامي في أصله وأساسه بالإجمال ,
وأما التفصيل فهو موكول في دولتنا الآن إلى أولي الأمر الذي انتخبتهم الأمة لوضع
القوانين التي يطلق على مجموعها لفظ (الدستور) ، فإذا كانت مسائل هذه القوانين
مطابقة للنصوص الثابتة وللأصول والقواعد الشرعية المستنبطة منها: كالعدل
ورفع المضار وجلب المنافع وغير ذلك من القواعد والأحكام، كان الدستور موافقًا
للدين الإسلامي في جزئياته التفصيلية، وإن كان بعض تلك المسائل مخالفًا لها،
يكون الدستور مخطئًا فيما خالف فيه كما أخطأ كثير من الفقهاء في بعض الأحكام
في كتبهم وللأمة حينئذ أن تنبه مجلس نوابها على ذلك؛ ليتداركه إذا تبين له.
ويرد هاهنا اعتراضان يتحدث بهما الناس: أحدهما مستمد من التفسير وهو
أن أولي الأمر الذين فوض كتاب الله تعالى إليهم استنباط الأحكام والقوانين يجب أن
يكونوا من المسلمين، ومجلس النواب العثماني الذي يضع القوانين الدستورية
مؤلف من المسلمين وغيرهم , والجواب عن هذا أن استشارة المسلمين لغيرهم
ومشاركتهم في الرأي غير ممنوعة، وقد تكون مطلوبة إذا كان ذلك من مصلحة
الأمة؛ لأن المصلحة هي الأصل في جميع الأحكام الدنيوية، حتى قال بعض
علمائنا: إنها تُقَدَّمُ على النص إذا عارضته كما نقلناه عن الطوخي في المجلد التاسع
(ص ٧٤٥) على أن المسلمين هم الأكثرون في مجلس الأمة المكون من
المبعوثين والأعيان، وهم العارفون بمصالح الأمة ومنافعها، فلا ينفذ إلا ما قرروه.
والاعتراض الثاني مستمد من أصول الفقه؛ وهو أن الذين يستنبطون
للمسلمين ما يحتاجون إليه من الأحكام غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ يجب
أن يكونوا من أهل الاجتهاد الذين استوفوا شروطه التي ذكرها الأصوليون، وقد
يجيب المشتغلون بالسياسة عن هذا؛ بأن الأحكام الشرعية المحضة لا يتعرض لها
المجلس، بل هي لا تزال تؤخذ من كتب الفقه بالتقليد، وإنما يضع المجلس
القوانين المتعلقة بأمور الدنيا؛ كجباية الأموال وطرق إنفاقها ونظام المحاكم وغيرها
من مصالح الحكومة، وهي لا تحتاج إلى ما ذكروه من الشروط للمجتهد. ولكن هذا
الجواب لا يقنع المتفقهة، فإنهم يقولون: إن جميع الأحكام المالية والسياسية
والحربية والإدارية يجب أن تكون مستمدة من الشرع وموافقة له.
وإنني أجيب بجواب آخر؛ وهو أن ما ذكره الأصوليون من شروط المجتهدين
ليست نصوصًا تَعَبَّدَنَا الله - تعالى - بها فيما أوحاه إلى نبيه، وإنما هي آراء
لأولئك الأصوليين. وقد بينا الحق في ذلك، وما يجب من الإصلاح من الأمور
الدينية والدنيوية بالتفصيل في مقالات محاورات المصلح والمقلد، فليرجع إليها
السائل ومن شاء في المجلد الثالث والرابع من المنار [١] .
ونقول هنا أيضًا: إن الله - تعالى - قد جعل لجماعة أولي الأمر من الأمة؛
أن يستنبطوا برأيهم واجتهادهم من الأحكام ما تمس حاجتها إليه وأطلق ذلك، فإن كان
هنالك أدلة تدل على أنه يشترط فيهم ما قاله علماء أصول الفقه في المجتهدين،
فلتكن تلك الشروط كالشروط التي اشترطوها في الخليفة، وفي القاضي من حيث
إنه يجب تحصيلها، ويقدم من توفرت فيه على غيره، ولكن لا تتعطل الأحكام
بفقدها. فكما أجازوا خلافة الخليفة من غير استيفاء جميع شروطه للضرورة،
وأجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد للضرورة، يجب أن يُجيزوا استنباط الأحكام
المالية والسياسية والإدارية والقضائية لمَن لم تتوفر فيهم شروط المجتهد لأجل
الضرورة؛ إذ لا فرق بين هؤلاء المستشارين والمستنبطين وبين الحاكمين
والمنفذين.
لا بد للأمة في كل وقت من الحكام، ولا بد أن يكون هؤلاء الحكام مقيدين
بالشورى، ولا بد أن يكون أهل الشورى من أولي الرأي والمكانة؛ لتثق بهم الأمة،
فعليها في كل زمن أن تختار أمثل أهله للقيام بذلك الركن الشرعي، فإن لم يوجد في
زمن ما من هم متصفون بصفات الكمال التي تدل عليها الدلائل الشرعية، فعلى
الأمة مع اختيار الأمثل للضرورة أن تُعِدَّ أُناسًا منها بالتربية والتعليم للكمال
المطلوب.
يقول حملة الفقه: إننا نستغني بما استنبطه المجتهدون السابقون عن استنباط
أحكام جديدة، فيجب أن نعمل بما دُوِّنَ في كتب الحنفيةِ أو غيرهم من فقهاء
المذاهب الأربعة، ولا نزيد على ذلك شيئًا، ويجيبهم الحكام وغيرهم من العارفين
بحال العصر:
أولاً: إن ما دُوِّنَ ونُقِلَ عن الأئمة الأربعة، لم يكف الأمة في زمن ما؛
ولذلك زاد عليه أتباعهم غير المجتهدين أضعاف أضعافه، حتى صار العمل بكتب
هؤلاء المقلدين، وفقد أكثر كتب الأئمة المجتهدين، وما عساه يوجد منها لا يقرأ ولا
يفتي به ولا يرجع إليه. واتباع المقلد وتقليده باطل بحسب أصولكم، وأعذاركم عن
ذلك غير مسموعة.
ثانيًا: إن الزمان قد تغير وتغير العرف الذي بني عليه كثير من الأحكام،
وحدثت للدولة والأمة مصالح وحاجات كثيرة، لم تكن في زمن الأئمة ولا زمن
مدوني الفقه المنسوب إلى أصولهم ومذاهبهم في الاستنباط، وصارت عرضة
لمضار ومفاسد لم تكن في زمنهم فنعرف من كتبهم طرق درئها. فاضطررنا إلى
أحكام تناسب حال زمننا، وإننا ما صرنا أضعف الأمم بعد أن كنا أقواها؛ إلا بعد
جرينا في درء المفاسد وجلب المصالح في هذه الأزمنة الأخيرة بحسبها.
هذا، وإن أساس هذا الدستور هو أن تنتخب الأمة نوابًا عنها يكونون هم
أصحاب الشأن في الأحكام التي تساس بها، فعليها أن تختار أمثلهم وأعلمهم بالشرع
أحكامه ومقاصده، والرأي الراجح في مجلس الأمة للمسلمين كما قلنا آنفًا، فإذا
قرروا ما يخالف الشرع القطعي ولم تستبدل الأمة بهم من يعود إليه كان الإثم عليها
وعليهم، ولم يكن الدستور مانعًا لها ولهم من إقامة شرعهم. وأما في زمن الحكومة
المطلقة فلم يكن لها أن نقول ولا أن تعمل، وإن ضاع دينها كله وضاعت دنياها
معه.
وجملة القول: إن الأمة يمكنها بهذا الدستور أن تُحيي دينها ودنياها، فإن لم
تفعل كان الإثم عليها. نعم.. إنها لا تستطيع ذلك إلا بالتدريج كما نشأ الإسلام
وترقى بالتدريج. فكان شأنه إلى عهد صلح الحديبية سنة ست غير شأنه بعد فتح مكة
سنة ثمان، فلا ينبغي أن ننسى هذا.
الحرية والدين الإسلامي
الحرية تطلق على عدة معان بحسب العرف والاصطلاح، ولعل ما تسألون
عنه هو ما قرره القانون الأساسي الذي هو أصل الدستور وأساسه في المادتين ٩
و١٠، والمراد منهما أنه ليس للحكومة - ولا لغيرها بالأولى - أن تعتدي على أحد
لقول يقوله أو عمل يعمله، أو تكلفه شيئًا من ذلك إلا ما يعينه القانون؛ لحفظ
الحقوق العامة والخاصة، فمَن كان في بلد حكومته دستورية يكون حرًّا غير مستعبد
لحكومتها ولا لأصحاب النفوذ والجاه فيها، آمنًا على نفسه من الاعتداء؛ ما دام
محافظًا على القانون الذي يحظر عليه الاعتداء في حريته على حرية غيره وحقوقه
فحماية الناس من التعدي عليهم موافق للشريعة الإسلامية كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لعمرو بن العاص لما علم أن ولده ضرب غلامًا قبطيًّا: (منذ كم
تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) فإذا أدخل معنى في الحرية ترك بعض
الحدود أو التعزيرات المجمع عليها، كانت الحرية حينئذ غير شرعية بجميع جزئيات
معناها، بل بعضها شرعي وبعضها غير شرعي وإن كان سلبيًّا، وليس في القانون
الأساسي تصريح بذلك. ولكن قد يكون هذا النقص مما يقصر فيه مجلس الأمة عند
وضع قانون الجزاء والذنب عليه، وللأمة أن تطالبه به.
أما ما علق بالأذهان من كون الحرية القانونية تبيح نشوز النساء عن رجالهن،
وعقوق الأولاد لوالديهم فغير صحيح.
(سؤال آخر)
ورد علينا استفتاء آخر في المسألة من دمشق الشام، يحيلنا فيه السائل على
مقالة نشرها المقتبس فيها لم نطلع عليها، فإذا كان في جوابنا مقنع له فيها؛ وإلا
فليعد السؤال وليرسل معه المقالة التي سأل عن موضوعها.