للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استشارة غير المسلمين
والاستعانة بهم في الحرب

س ٣١ (من صاحب الإمضاء في بيروت
سيدي الأستاذ الشيخ محمد رشيد أفندي رضا الحسيني منشئ مجلة المنار
المحترم.
بعد التحية إليكم؛ إنه قد اطلعت في عدد (٢٦٣) من جريدة الاتحاد العثماني
الأغر، فرأيت في طليعته منشورًا لشيخ الإسلام، كان من ضمنه هذه الجملة (وقد
استشار نبينا في ظروف عديدة خطيرة أناسًا لم يكونوا يدينون بالإسلام وطلب صلى
الله عليه وسلم في الحروب معاونتهم ومساعدتهم) فأرجو أن تبينوا لنا مَن هم
المشاوَرون؟ وما هي تلك الحوادث التي وقعت فيها الاستشارة، كما أرجو بيان مَن
هم الذين طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) معاونتهم ومساعدتهم في الحروب؟
أخذًا للحكمة وبيانًا لمن انتحل لنفسه التعصب الذميم، فتطهر بذلك نفسه، واتباعًا
للحق مولاي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم العلم الشريف
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... راغب قباني
(ج) خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الطائف في أول
الإسلام، وطلب من رؤساء أهلها حمايته من قريش؛ ليبلغ دعوة ربه فردوه. وكان
يخرج في المواسم إلى أسواق العرب يعرض نفسه على القبائل؛ ليحموه حتى يُبَلِّغَ
دعوة ربه، فكان بعضهم يرد ردًّا حسنًا وبعضهم يرد ردًّا سيئًا. ثم إنه بعد أن قوي
الإسلام استعان في الحديبية بعُيينة الخزاعي، فاتخذه عينًا على المشركين وكان
يومئذ مشركًا، ومن المعروف أن قصة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست من
الهجرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ألف وأربع مائة أو
وخمس مائة، واستعان بصفوان بن أمية يوم حنين , وأخذ في خيبر برأي عزَّال
اليهودي فقطع مشرب القوم؛ ليخرجوا من حصنهم لمناجزته.
وفي مراسيل أبي داود عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان
بناس من اليهود في خيبر فأسهم لهم، وهو ضعيف. وفي حديث ذي مخبر
(رضي الله عنه) عند أحمد وأبى داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم قومًا من ورائكم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم محالفًا لخزاعة، وكانت قريش محالفة لبكر، فاعتدى بنو بكر
على بني خزاعة وساعدتهم قريش بعد عهد الحديبية، فانتقض عهدهم وحاربهم
النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لأجل ذلك، حتى فتح مكة عنوة، وخرجت
خزاعة معه على قريش.
لكن ورد في حديث عائشة عند أحمد ومسلم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - خرج قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كانت تذكر منه جرأة،
ونجدة قال: جئت لأتبعك فأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(تؤمن بالله ورسوله؟) قال لا، قال (فارجع فلن أستعين بمشرك) ثم ذكرت أنه
عاد مرتين بعد ذلك، فقال له مثل ما قال في المرة الأولى. وفي حديث خبيب بن عبد
الرحمن عن أبيه عن جده أنه استأذن النبي هو ورجل آخر من قومه في الغزوة
معه، فقال: (أسلمتما) ، قالا، لا.. فقال: (إنا لا نستعين بالمشركين على
المشركين) رواه الشافعي وأحمد والنسائي وغيرهم.
ومن هنا جاء الخلاف بين العلماء في جواز الاستعانة وعدمه، فنقل الجواز
عن الحنفية، وعن الشافعي منع الاستعانة بهم على المسلمين وجواز الاستعانة بهم
على أمثالهم. أما الجمع بين الروايات المختلفة فقد قال الحافظ ابن حجر في
التلخيص: إن أقرب ما قيل فيه أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها،
قال: وعليه نَصَّ الشافعي، وأنت ترى أن جميع ما نقلناه من روايات
الاستعانة كان بعد غزوة بدر التي قال فيها:
(لن أستعين بمشرك) والعمدة في مثل هذه المسألة اتباع ما فيه المصلحة وهي
تختلف باختلاف الأحوال.
وأما استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين، فلعل شيخ الإسلام -
نفعنا الله بعلمه - يريد بها ما كان في أول الإسلام من استشارته - صلى الله عليه
وسلم - لعمه أبي طالب، ومن استشارة المنافقين بعد الهجرة؛ كاستشارة عبد الله بن
أُبِيّ في غزوة أحد، ومراجعته لحلفائه من اليهود في بعض المسائل المتعلقة
بالمحالفة؛ إن صح أن يسمي هذا استشارة. أما كونه - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا عرض أمر يستشير فيه المشركين أو أهل الكتاب؛ ليستبين بمشاورتهم الرأي
فهو ما لا أعرفه ولا أظن أن شيخ الإسلام يريده. وقد علمت مما تقدم في
الكلام على الدستور أنه لا مانع من المشاورة، وإن مصلحة الأمة هي المحكمة
في مثل هذه المسألة , ولا شك أن مصلحة دولتنا في هذا العصر تقتضي إشراك جميع
شعوبها في المشاورة ووضع جميع القوانين , لا تقوم المصلحة بدون ذلك،
وهذا وحده كاف للجواز شرعًا.