للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

(س ٣٢) من صاحب الإمضاء في بتاوى (جاوه)
مولاي الأستاذ المصلح فضيلتلو أفندم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، والمسؤول منكم إيفاء لما التزمتم
به من النصح لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين؛ أن تفيدونا عن أسئلتنا هذه، فقد
عرفنا منكم الصدق وقوة الحجة وقطع ألسنة أئمة البدعة - أدامكم الله وزادكم
توفيقا -: إنها قد نبغت في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب والسنة،
ويؤثرون ما كان عليه السلف الصالح على كثير من المنقول عن المتأخرين، وقد
كثر أصحابهم وعلت أصواتهم، ونرى على أقوالهم جلالة الحق ومسحة الصدق.
وقد غاظ أمرهم هذا أُناسًا عاشوا بترويج الرابطة والتوجه. وآخرين جمدوا
على ما قاله بعض مصنفي المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون
الله، يحلون ما أحلوا ويحرمون ما حرموا، ويقدمون أقوالهم على قول الله تعالى،
وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقوال كبار أصحابه، ورجالات التابعين
بإحسان، مع صحة النقل وانتفاء المعارض. وقد زعموا أن الواجب علينا هو
الأخذ بما قاله أولئك المصنفون، وأنه لا تجوز لنا مخالفتهم ولا نسبة السهو والغفلة
إليهم فضلاً عن الغلط، وأن خلاف ما قالوه بدعة وضلالة وفسوق مهما قويت
صحته، وكذا القائلون به من سلف الأمة وخلفها، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية كبير
الفسقة، وأن من يسميه شيخ الإسلام فاسق أيضًا، بل حرموا الاستدلال من الكتاب
والسنة مطلقًا، وقالوا: لا يقرأهما أحد إلا بنية التبرك أو نحو الاستسقاء وإلا فهو
ضال مجرم! ! !
وإلى سيدي نبذة طبعها مصنفها حديثًا , عكف عليها عباده وفيها همز ولمز لا
نسأل عنهما، ولكن نرجوكم عدم غض النظر عما فيها من، التغرير، والتضليل،
وإطلاق المقيد، وتعميم الخاص، وإيراد الأحاديث الموضوعة، والتحكم في الدين
والافتراء على الله بالقول؛ هذا حلال وهذا حرام بدون حجة؛ ليكون ما تكتبونه
زاجرًا له ولأمثاله من الجهال المتعصبين، ومنفذًا لمن يقع في حبالتهم من العوام
والسذج من المؤمنين؛ ولتعلموا أن قصده من الكتابة الرد لما جاء في المنار من
نحو الفتيا في الغناء ومن المدح لشيخ الإسلام، ومن الإنحاء على البدع والتقليد، ثم
لغيركم بعد من الرسالة فصولاً أخرى، ولربما سكت عن الجواب لعذره ولا عذر
لجنابكم، ومع تلك الرسالة نموذج من فتاوى ذلك البعض في منع الترجمة للقرآن،
لم يأت على ما قاله فيها ببرهان، فنرجوكم بيان الحق في حكم الترجمة، والتفصيل
بين ما يترجم لبيان معناه للاستدلال به على مَن لا يفهم العربية، وما يترجم ليقرأ
به العاجز عن القراءة بالعربية، وما يترجم ليكون كالتفسير، وما يشترط لذلك،
وأن تشيروا بمَن كتب ترجمة بيان آي القرآن في كتبه بالفارسية وغيرها كالغزالي
والبهوبالي والدهلوي وغيرهم، ولكم منا جزيل الشكر، ومن الله وافر الأجر،
والسلام.
... ... ... ... سائل خائف يحب إظهار الحق ويخشى السجن
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م
(المنار)
قد أرسل إلينا صاحب هذا السؤال رسالتين مطبوعتين في جاوه؛ مؤلفهما
عثمان بن عبد الله بن عقيل المستشار الديني لحكومة هولندا في جاوه , إحداهما في
النهي عن ترجمة القرآن، والثانية في مسائل المجتهدين والمقلدين والصوفية
والأولياء والصحابة والنصيحة والحب والبغض في الله، والورع وحفظ اللسان.
يكلفنا هذا السائل كما كلفنا غيره أن نقرأ هاتين الرسالتين، ونبين ما فيهما
من الخطأ ومخالفة الشريعة، كما كلفنا غيرهم من قبل مطالعة بعض كتب النبهاني
والرد عليها. وإن الكتب الحديثة وكذا القديمة المحشوة بالأباطيل والقول في دين الله
بغير علم؛ ككتب النبهاني وأمثاله أكثر من أن تحصى، فهل يكلف مثلي أن يقرأها
ويبين ما فيها من الخطأ والباطل؛ مهما كثر ذلك وتكرر؟ إن هذا من تكليف ما لا
يطاق، فحسبنا أن نبين الحق في مسائل الدين، ومنه يعلم أن كل ما خالفه باطل ,
وإن أكثر المسائل التي نسأل عنها من هاتين الرسالتين وكتب النبهاني قد بينا الحق
فيها بالدلائل الواضحة، فهل نكلف أن نعيد كل ما كتبناه، كلما تكرر السؤال عنه؟
على أن الرد على هؤلاء المقلدين المُتَهَوِّكِينَ مُشْكِلٌ؛ لكثرة تناقضهم ولضيعة
البرهان عندهم، كما قال الشاعر:
أقلد وجدي فليبرهن مفندي ... فما أضيع البرهان عند المقلد
فتراهم يحرمون الاهتداء بالكتاب والسنة والاستدلال بهما على المطالب،
ويدَّعون أن الله تعالى ما كلفنا إلا العمل بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين؛ كابن حجر
الهيتمي والسبكي في دين عثمان بن عقيل مؤلف هاتين الرسالتين، ثم إنهم يستدلون
بعد ذلك بالكتاب والسنة، ويخالفون إمامهم ومقلدهم فيما اشترطه في نقل الأحاديث بلْه
الاستدلال بها. فقد ذكر ابن حجر في (ص ٣٢) من فتواه الحديثية أنه لا يجوز لغير
المحدث رواية الأحاديث ونقلها بمجرد رؤيتها في الكتب، بل لا بُدَّ من نقلها من
كتب أهل الحديث الذين يميزون بين الصحيح وغيره , وابن عقيل هذا ينقل في
رسالته أحاديث من غير الكتب المعتمدة ولا يعزوها إلى أحد من الحفاظ ولا
إلى كتبهم، وفيها الموضوع والواهي الذي لا يحتج به والمحرف وهو لا يعرف
أصلها. ومن غرائب التهافت أنه عقد في رسالته فصلاً للأحاديث الموضوعة،
وذكر أنها أشد الأشياء خطرًا على الدين.
وممن يعدهم عمدة وحجة في الدين الغزالي، وقد شنع في الإحياء وما بعده
من كتبه على التقليد، والفقهاء الذين أعلى من ابن حجر مرتبة، فهل يأخذ برأيه
في ذلك وهو يحمد اتباع السلف، ويأمر بعد ذلك بالبدع التي تخالف سنتهم، ويعتمد
على أقوال الخلف وأعمالهم التي لم تكن في زمنهم.
كذلك تراه يعظم الصوفية ويأمر باتباعهم، والصوفية كلهم يتبرءون من التقليد
ويقولون: إنهم لا يأخذون دينهم إلا من عين الشريعة وهو كتاب الله وسنة رسوله
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل في رسالته شيئًا من أقوالهم في ذلك،
ولهم في ذلك ما هو أصرح مما نقله وأوضح. فبماذا نحتج على مثل هذا المؤلف
وهو ليس من أهل الحجة والدليل؛ لأن هؤلاء هم الذين يسميهم هو وأمثاله
المجتهدين، ويقولون: إنهم قد انقرضوا، ولا يأتي الله بمثلهم، يقولون هذا
افتياتًا على الله وعلى الوجود بما لا يعلمون؟ ؟
ومن غريب تناقضهم أنهم على تبرؤهم من الاستدلال الذي هو الاجتهاد،
تراهم يحكمون في المسائل والوقائع حكم المجتهدين بمحض الجهل والهوى،
فيقولون: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، وهذا العالم على هدى
فيؤخذ بقوله، وهذا على ضلال فيرد قوله، فالأئمة المجتهدون لم يكونوا يجيزون
لأنفسهم أن يقولوا مثل هذا إلا بدليل، فكيف صار هؤلاء المتأخرون الجاهلون فوق
الأئمة؛ يقولون في دين الله تعالى بغير دليل، حتى كأن الله تعالى أَذِنَ لهم أن
يُشَرِّعُوا للناس من الدين ما شاؤوا.
إن مناقشة هؤلاء عبث، والرد عليهم قليل الجدوى في الغالب، ولا يمنع
إضلالهم للعامة التي تثق بهم؛ لموافقتهم لأهوائها في البدع والعادات الحاكمة عليها،
وإنما السبيل إلى ذلك أن يكثر العلماء الراسخون العارفون بدين الله تعالى، ويتولون
أمر التعليم والإرشاد، فمن أراد أن يسعى في إنقاذ المسلمين مما هم فيه من الجهل
والبدع ويردهم إلى أصل دينهم، فليسع في هذا، وهو ما يهتم به بعض أصحاب الغيرة المصلحين اليوم، وسيظهر أثره إن شاء الله تعالى عن قريب.
على أن المؤلفين الذين يفسدون بمصنفاتهم ولا يصلحون قسمان: قسم طبع
الله على قلوبهم، وجمدوا على ما اعتادوه وألفوه باسم الدين، وصار لهم به حظ من
المال والجاه حتى تودع منهم، ووقع اليأس من رجوعهم إلى الحق. وقسم آخر لا
يزال على شيء من نور الفطرة وسلامة القلب، فهؤلاء وإن سدوا على أنفسهم باب
الاستدلال لا يزالون محل رجاء، فهم يعودون إلى الحق إذا ظهر لهم نوره.
فلهؤلاء أقول:
إننا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى عليه وآله وسلم، فإن الله
تعالى لم ينزل عليكم غير هذا القرآن، ولم يرسل إليكم غير هذا الرسول صلى الله
عليه وسلم، وقد قال في كتابه: إنه أكمل لكم دينكم، فكل من زاد في الدين شيئًا
فهو غير مذعن لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) ، ولا قول
نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الذي حسنه النووي في الأربعين
وصححه ابن الصلاح (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وَحَدَّ حدودًا فلا
تعدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا
تسألوا عنها) .
ندعوكم إلى معرفة الكتاب والسنة والاهتداء بهما، وأن تستعينوا على فهمها
بما كتبه خدمتهما من أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة، لا نتهاكم عن الاستهداء
والاستعانة بكلام هؤلاء الأئمة بل ندعوكم إليه , ولكن لا تجعلوا كلام هؤلاء العلماء
شرعًا مقصودًا لذاته وتتركوا الأصل الذي كتبوا ما كتبوا لأجل خدمته وبيانه، حتى
يصير نسيًا منسيًا فيصدق عليكم ما نعاه القرآن على من قبلكم؛ بأنهم نبذوا كتاب
الله وراء ظهورهم.
أجمع سلف الأمة ومنهم الأئمة الأربعة على تحريم التقليد، ونصوصهم في
ذلك مشهورة، ذكرنا كثيرًا منها في (محاورات المصلح والمقلد) ، ثم جاء
المصنفون المقلدون فقالوا بوجوب التقليد للعاجز عن الاجتهاد. ولكنهم أجمعوا
على أنه لا يجوز تقليد المقلد، وإنما يجب تقليد الأئمة المجتهدين , ثم جاء
المتأخرون يقولون بوجوب اتباع مثل ابن حجر وغيره من المقلدين، فإذا كان
قول مثل ابن حجر بوجوب التقليد ليس حجة عند أحد، فهل يكون كلام مقلديه مما
يعتد به وهو كلام مقلد المقلد الذي لا يفهم الكتاب والسنة، ولا يعرف كلام مَن يقول
إنهم هم الذين فهموهما وبينوهما وهم الأئمة المجتهدون؟ ؟
يدعي الشيخ عثمان بن عقيل وأمثاله في جاوه وحضرموت أنهم متبعون
للإمام الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي نص في كتبه على منع التقليد،
فكيف يكون المقلد متبعًا له! ؟
طبع في هذه الأيام كتاب الأم له مع رسالته في الأصول، وطبع على هامشه
مختصر صاحبه إسماعيل بن يحيى المزني فلينظروا كيف بدأ المزني مختصره
بقوله بعد البسملة: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي -
رحمه الله - ومن معنى قوله لأُقَرِّبه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق) .
فالأئمة رضي الله عنهم ما تصدوا لبيان الكتاب والسنة؛ إلا ليعينوا الناس
على فهمهما، ولم يقصدوا أن يكون كلامهم شرعًا يعمل به ويترك الكتاب والسنة؛
استغناء به عنهما، فهم معلمون للكتاب والسنة لا شارعون، فينبغي أن نستعين
بكلامهم على الفهم ونعمل بما فهمنا.
ذكر الشيخ عثمان في الفصل الثالث أن الأئمة أهل الاجتهاد المطلق مبينون
للكتاب والسنة، والعلماء أهل الاجتهاد في مذاهب الأئمة مبينون لكلام الأئمة
كالغزالي، وأهل الترجيح والفتوى كابن حجر مبينون لكلام أهل الاجتهاد في
المذهب، فهو يعترف بأن أصل الدين وأساسه كتاب الله، وأن السنة مبينة لما أُجمل
فيه، وأن الأئمة مبينون للسنة ... إلخ، ويرى هو وأمثاله أن الواجب على
جميع المسلمين الآن اتباع أصحاب الطبقة الأخيرة من المبينين كابن حجر، فلنا مع
هؤلاء أسئلة:
(١) إن علماء الأصول قالوا: إن الوجوب هو حكم الله المقتضي للفعل
اقتضاء جازمًا، فمن أين أخذتم هذا الحكم الإلهي باتباع طبقة ابن حجر، وهذه
الطبقة لم توجد إلا بعد انقراض الأئمة الذين فهموا الكتاب والسنة والطبقة التي
فهمت كلامهم؟
(٢) إن بعض العلماء جعلوا الطبقات ستة، والأخيرة التي يعتمد عليها هي
طبقة الناقلين الذين لا يعتد بفهمهم ولا ببحثهم كما بينه ابن عابدين في رسم المفتي،
فإذا أراد بعض العقلاء المستقلين من الإفرنج أن يدخل في دينكم؛ فكيف تقنعونه
بوجوب اتباع الطبقة الثالثة أو السادسة مع إقراركم بأنها لا تفهم أصل الدين، وإنما
تفهم عبارات طبقة فوقها أو تنقلها، وتلك الطبقة لا تفهم أيضًا بنفسها أصل الدين
... إلخ؟
(٣) إذا سلمنا لكم ما تقولون في هذه الدرجات من البيان، وإنكم أهل لأن
توجبوا على الأمة حكمًا شرعيًّا لم يوجبه الله ولا رسوله ولا الصحابة، والأئمة
الذين فهموا كلامهما؛ وهو إيجاب اتباع هذه الطبقة من مقلدي المقلدين فيما سميتموه
بيانًا لبيان بيان بيان أصل الدين، أفلا يجب أن يكون بين هذه الطبقات من البيان
وبين الأصل المبين اتصال؛ يعلم منه أنه بيان له ويزداد الأصل اتضاحًا وجلاء؟
أليس بهذا الاتصال يعقل أن يكون كلامهم بيانًا، ولا يمكن أن يعقل ذلك بدونه؟
(٤) هل يعقل أن يحتاج كلام الله الذي سماه بيانًا وتبيانًا، مع زيادة بيان
الرسول صلى الله عليه وسلم له بأفعاله وأقواله إلى كل هذه الطبقات من المبينين؟
ألا ينافي هذا الاحتياج كونه بيانًا وتبيانًا، وكون الدين قد كمل قبل وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
(٥) إذا رأينا في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عندنا حكمًا فهمناه
وعقلناه، ورأينا في كلام مثل ابن حجر ما يخالفه فهل يفرض الله علينا أن نترك
كلامه وسنة رسوله إلى كلام مثل ابن حجر؛ لأنه مُبَيِّنٌ لكلامِ مثل السبكي المُبِّينِ
لكلام مثل الشافعي المُبَيِّنِ للكتاب والسنة؟ فنترك الأصل الصريح الواضح إلى كلام
يخالفه؛ بناء على أنه مبين له في الدرجة الرابعة من البيان؟ ؟ هل يقول عاقل أو
مجنون: إن بيان الشيء يكون بخلافه ونقيضه. لو كان هذا السؤال مبنيًّا على
شيء مفروض لصح أن يكون ناقصًا لقاعدتهم، فكيف وهو مبني على أساس ثابت؛
وهو أن في كلام الفقهاء كثيرًا من المسائل المخالفة لنصوص الدين، لا سيما
الأحاديث الصحيحة، أخذوها من قواعدهم أو من ترجيح حديث ضعيف على
صحيح أو العمل به ابتداء فأخطأوا، وما كانوا معصومين , وقد أورد ابن القيم في
(إعلام الموقعين) أكثر من سبعين شاهدًا على ذلك، فتراجع فيه أو في المجلد
السادس من المنار. ومن هذه المخالفات ما هو للشافعية وهو أقلها - ومنها ما هو
لغيرهم.
وليس هذا بالأمر بالغريب؛ فإن الأئمة أنفسهم كانوا يقولون القول ثم يظهر
لهم خطؤه فيرجعون عنه، كما رجع الشافعي عن مذهبه القديم إلى مذهبه الجديد،
وكما رجع علماء مذهبه إلى بعض المسائل من مذهبه القديم فأفتوا بها ترجيحًا لها
على الجديد؛ لظهور دلائل تؤيدها، وكما رجحوا بعض مسائل مخالفة للمذهب
مطلقًا؛ كقول النووي في شرح صحيح مسلم: إن الراجح من حيث الدليل أن
نجاسة الخنزير كغيرها من النجاسات في الغسل، وكفتوى الغزالي بعدم تنجس الماء
القليل إلا بتغير أحد أوصافه من النجاسة، وكما صرح الإمام مالك عند موته: بأنه
كان يرى الرأي في المسألة ثم يظهر له خطؤه فيه فيرجع عنه، وبكى لأجل ذلك
حين بلغه أن الناس أخذوا بقوله وقلدوه فيه، وكما رجع بعض الصحابة عن خطإهم
وهم أعظم من هؤلاء الأئمة وأعلم؛ كرجوع عمر (رضي الله عنه) في مسألة
المهور إلى قول المرأة التي ردت عليه؛ وهو يخطب في المسجد. فكل أحد من
العلماء عرضة للخطأ فيما يقوله؛ لأنه غير معصوم فيه؛ إما لنسيان الدليل كما نسي
عمر قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: ٢٠)
فأراد أن يحدد المهر بمثل مهور بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم علمه به؛
لأنه لم يكن كل صحابي حافظًا لكل القرآن، وأما لعدم فهمه له، كما أخطأ بعض
الصحابة في فهم المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود، وفي فهم كيفية تيمم الجنب، وغيرهم أولى بمثل هذا الخطأ في الفهم.
فإذا كان كل أحد من علماء الأمة عرضةً للخطأ فيما يقوله؛ لما ذكرنا، وما لم
نذكر من الأسباب والشواهد، فلا جرم أن كل من يأخذ بقوله من غير أن يعرف
أصله من الكتاب والسنة هو عرضة لهذا الخطأ، ولهذا قال أبو حنيفة وغيره: لا
يجوز لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه.
ونتيجة هذا كله أن كلام الأئمة يستعان به على فهم الكتاب والسنة ولا يترك
الكتاب والسنة له، بل يجعل فهمهما هو المقصود بالذات والعمدة في الاهتداء، ولا
تترك الأمة تعلمهما والفقه فيهما قط، ولا تهمل كلام أئمة العلماء والانتفاع بما فتح
الله عليهم من الفهم فيهما، مع البصيرة التي هي شأن المؤمنين.
فنطلب من هؤلاء المعارضين لنا في الدعوة إلى الاهتداء بكتاب الله عز وجل
وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم التي جرى عليها سلف الأمة؛ أن يجيبونا
عن هذه الأسئلة.
أما طعن السيد عثمان بن عقيل في شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن مثل ابن
حجر الهيتمي طعن فيه، فنقول فيه كلمات تكفي لرجوعه عنه وتوبته؛ إن كان قال
ذلك عن سوء فهم لا عن سوء قصد كما نظن فيه؛ ترجيحًا للخير على الشر وهي:
(١) إذا كنتم تقبلون طعن العلماء بعضهم في بعض مطلقًا، وتضللون كل
من طعن فيه، فإنه لا يسلم لكم أحد من أئمتكم؛ لا في الفقه كالشافعي، ولا في
الحديث كالبخاري، ولا في الكلام كالأشعري، ولا في التصوف كالشاذلي، وابن
عربي، ولا من المتفننين كالغزالي، كما هو مبين في كتب التاريخ والتراجم ونقله
معتمدكم الشعراني في أول كتاب اليواقيت والجواهر وغيره من كتبه، وذكر التاج
السبكي طائفة منه في طبقاته، ومنها أنهم طعنوا في والده التقي السبكي الذي هو
عمدتكم في تخطئة ابن تيمية.
(٢) إذا كنتم تسلمون معنا؛ بأنه لا يجوز أن يضلل كل من طعنوا فيه،
ولا أن يتبع كل طاعن في طعنه، فإما إن تسكتوا عن الطعن في العلماء ولا
تخوضوا فيه وهو الأسلم لأمثالكم، وإما أن تبحثوا عن سبب الطعن وتُحَكِّمُوا فيه
الدليل، وأنتم لا تدَّعون أهلية الحكم بين مثل ابن تيمية والتقي السبكي.
(٣) إذا كنتم ترون أنفسكم أهلاً لهذه المحاكمة، فلا يكون حكمكم عادلاً كما
أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل، إلا إذا اطلعتم على ما كتبه ابن
تيمية في المسائل التي أنكرها عليه السبكي وغيره من المعاصرين له (دع ما نسبه
إليه من بعدهم زورًا وبهتانًا) ورأيتم أدلته، ثم اطلعتم على كلام خصمه وأدلته ,
وأما الحكم على شخص بمجرد سماع كلام خصمه فهو ظلم بيَّن كما هو بديهي.
(٤) إن ما عزاه ابن حجر الهيتمي إلى ابن تيمية من القول بأن الرب تعالى
محل للحوادث، وأن القرآن محدث، وأن العالم قديم بالنوع، ومن القول بالجسمية
والجهة، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا جاه له؛ كل ذلك مكذوب على ابن
تيمية، وكتبه الكثيرة مصرحة بخلاف ذلك، ولم نر في كتب أحد من علماء الإسلام
مثل ما رأينا في كتبه من الدلائل والبراهين على نفي هذه الأباطيل وتفنيدها فإما أن
يكون ابن حجر قد سمع تلك المطاعن من بعض الكاذبين فصدقها؛ وهو المرجح
عندنا، وإما أن يكون هو الذي افتجر ذلك عليه؛ وهو ما لا نظنه في مثله،
وإما أن يكون ذلك مدسوسًا على ابن حجر، وقد دس المفسدون كثيرًا في الكتب كما
بيَّن ذلك معتمدكم الشعراني. ومهما كان سبب تلك المطاعن فهي لا قيمة لها مع
استفاضة كتب الرجل بخلافها، وقد طبع الكثير منها ولله الحمد؛ ومنه رسالة
التوسل والوسيلة التي نقلنا منها نبذة في تفسير الجزء الماضي فيها؛ إثبات الجاه
للنبي (صلى الله عليه وسلم) ، وننقل في هذا الجزء نموذجًا آخر منها؛ فعليكم أن
تطلعوا على هذه الكتب، إن كنتم للحق تطلبون.
(٥) إن كلام مثل ابن حجر في ابن تيمية مُعارَض بكلام مَن هو أعلم منه
بالرجال، وبما قيل فيهم كَسَمِيِّهِ الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو شيخ شيوخه
وأعلمهم بالرجال، فانظروا ماذا قال في ابن تيمية في كتابه طبقات الحفاظ وغيره من
كتبه. وبمثل قوله فيه وثنائه عليه واعترافه له بمشيخة الإسلام قال: وأثنى واعترف
أكابر الحفاظ في عصره وبعد عصره وشهدوا له بالاجتهاد المطلق.
(٦) إن كتب ابن تيمية أكبر شهادة من كل أولئك العلماء على كون الرجل
وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق، وقصارى ابن حجر أنه في رتبة المرجحين في
فقه الشافعية.
فأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي
هذا ما ننبه إليه السيد عثمان صاحب رسالة فصل الخطاب التي أرسلت إلينا
حديثًا، ونقول: إننا نحسن الظن فيه؛ وإن جاءنا فيه مطاعن كثيرة من علماء بلاده،
قالوا فيها: إنه عون الظالمين ونصير المستبدين.. وإننا بما يغلب علينا من حسن
الظن فيه؛ نرى إذا تدبر كَلامَنا هذا رضيه وأذعن له إن رآه حقًّا كما نرى ونعتقد،
وإن رأى فيه شيئًا باطلاً بينه لنا بالدليل؛ عملاً بوجوب النصيحة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
والفرق بيننا وبين المنكرين علينا أننا لا نقول شيئًا بغير دليل، وأننا نصرح
على رؤوس الأشهاد بأننا نرجع إلى الحق إذا ظهر لنا دليله. وإنهم يقولون بغير
دليل، وإذا قامت عليهم الحجة أعرضوا وأدبروا، وولوا واستكبروا، إلا من كان
منهم مخلصًا في إنكاره، فإنه يرجع إلى الحق إذا ظهر، وكان الله للأوابين غفورًا.
ثم نقول لصاحب السؤال ولأمثاله الذين يكلفوننا المرة بعد المرة الرد على
الطاعنين في شيخ الإسلام ابن تيمية بالتفصيل: عليكم بالكتاب الجديد الذي
استقصى ذلك وطبع في هذا العام المسمى: (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ،
وهو مجلدان كبيران لأحد علماء العراق الأعلام.
هذا - وأما ترجمة القرآن فلنا فيها فتوى طويلة نشرت في المجلد الحادي
عشر، فتراجع فيه (٢٦٨) ، فإنها تغني عن قراءتنا للرسالة التي كتبها الشيخ
عثمان وبيان خطأها من صوابها.
***
تنبيه للمستفتين
إن من أسباب إغفال بعض الأسئلة أو تأخيرها زمنًا طويلاً لا يجاب عنها،
وضع السائل إياها في ضمن خطاب يتكلم فيه عن أمور أخرى؛ كالاشتراك في
المنار، أو طلب بعض الكتب. فأمثال هذه الخطابات تحفظ في أوراق حسابات
المنار أو حساب المكتبة، ولا نجد في الغالب وقتًا لنسخ السؤال منها , وأما الأسئلة
التي تكتب في ورقة مستقلة فإنها تحفظ في ظرف وحدها، ثم تعطى للمطبعة عند
إرادة الجواب عنها، فلا تكلفنا أن ننسخها. فعلى المستفتين أن يكتبوا أسئلتهم في
ورقة على حدتها إذا أحبوا أن لا تغفل ولا تؤخر كثيرًا.