للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي طبع في هذه الأيام. قال بعد بحث وتحقيق ما
نصه:
إذا عرف هذا، فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب
أن تُعْرَف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من
ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه
المحدثون في هذا اللفظ ومعناه، فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب هو
بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا
يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: ٣٥) وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: ٥٦-٥٧) فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر
عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات
والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب
ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرمًا أو
مكروهًا أو مباحًا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب
أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله
الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله
إلا ذلك.
الثاني لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
(سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله،
وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم
القيامة) ، وقوله: مَن قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة،
والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته،
إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم
خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من
عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول،
وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من
جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن
الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرًا.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة،
فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين
يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن
يعتقدون فيه الصلاح.
وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به
معنى ثالث لم ترد به سنة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما
هو أصل الإيمان والإسلام؛ وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعاؤه
وشفاعته كما تقدم، فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومِن هذا قول عمر بن
الخطاب: اللهم، إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا فاسقنا , أي: بدعائه وشفاعته وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: ٣٥) أي: القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى:
{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: ٨٠) فهذا التوسل الأول هو أصل
الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا
عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا
أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس؛ علم أن
ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له
فإنه مشروع دائمًا.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته؛ فهذا فرض لا
يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته؛ وهذا كان في حياته، ويكون
يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به؛ بمعنى الإقسام على الله بذاته
والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في
حياته، ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من
الأدعية المشهورة بينهم , وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة
وموقوفة، أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا هو
الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز ونهوا عنه، حيث قالوا: لا يسأل
بمخلوق، ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه
الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد
من أصحاب أبي حنيفة , قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة:
لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو
بحق خلقك , وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله،
فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت
الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق
على الخالق، فلا تجوز وفاقًا , وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه مِن أن الله لا
يسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم
أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على
الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا
يغشى، والنهارإذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقًا، والصافات صفًّا،
فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما
يحسن معه إقسامه بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما في
السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف بغير الله فقد
أشرك) وقد صححه الترمذي وغيره وفي لفظ (فقد كفر) وقد صححه الحاكم، وقد
ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله) وقال: (لا تحلفوا
بآبائكم؛ فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف
باللاتي والعزى فليقل لا إله إلا الله) وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف
بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته؛ كالعرش والكرسي والكعبة، والمسجد
الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة
والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين، وإيمان
السدق، وسراويل الفتوة وغير ذلك، لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك.
والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين
في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك , وقيل هي مكروهة
كراهية تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس
وعبد الله بن عمر لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ أن أحلف بغير الله صادقًا؛ وذلك لأن
الحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب , وإنما نعرف النزاع في الحلف
بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: أحدهما لا
ينعقد اليمين به كقول الجمهور: مالك وأبي حنيفة والشافعي، والثانية ينعقد
اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه , وابن المنذر وافق
هؤلاء. وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم
خاصة، وعدّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء , وإيجاب الكفارة بالحلف
بمخلوق، وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص،
فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس.
(المنار)
ثم حقق المصنف مسألة سؤال الله بما ليس سببًا للإجابة؛ كسؤاله بخلقه،
وسؤاله بما هو سبب شرعي للإجابة؛ كالإيمان والطاعة. وقد أودعنا بعض كلامه
في تفسير الجزء الماضي (السابع) ، ثم قال من فتوى أفتاها بمصر ما نصه:
فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته مثل الإقسام بذاته أو
بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فليس هذا مشهورًا عند
الصحابة والتابعين؛ بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما
من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا
استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيًّا؛ كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم
يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا
عند قبره، ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون
عليه في دعائهم، وقد قال: عمر: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا
نتوسل إليك بعمِّ نبينا فَاسْقِنَا , فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك؛ لما تعذر أن يتوسلوا به
على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره
ويتوسلوا هناك، ويقولوا في دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم
بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو
بجاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس.
وروى بعض الجهال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا سألتم
الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم وهذا الحديث كذب ليس في شيء من
كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث
مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ
اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: ٦٩) .
وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} (آل عمران: ٤٥) فإذا
كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام
المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود
الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، ومَن
شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر
عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء؛ آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو
سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم
إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه
لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ} (مريم: ٩٣-٩٤) وقال تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ
المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم
مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً} (النساء: ١٧٢-١٧٣) .
والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب
والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم
مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: ٢٢-٢٣) .
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتخاذ
القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيدًا؛ وذلك لأن أول ما
حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح , قال ابن عباس كان بين آدم ونوح
عشرة قرون كلهم على الإسلام، وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلم أن نوحًا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وقد قال تعالى عن قومه أنهم
قالوا: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} (نوح: ٢٣-٢٤) قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا
قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد
عبدوهم. وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة
صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام.
فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد - وإن كان المصلي يصلي لله عز
وجل - كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس؛ لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن
كان المصلي إنما يصلي لله تعالى. وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره
أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون
ذلك، وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته
وموالاته والتوسل بدعائه وشفاعته؛ فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن
هذا وهذا، فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئًا من ذلك، ولا دعوا بمثل
هذه الأدعية وهم أعلم منا [١] . وأعلم بما يحب الله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به
رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره
ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم؛ دل عدولهم [٢] عن التوسل بالأفضل إلى
التوسل بالمفضول؛ أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنًا ... إلخ.