للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت

(مقدمة رسالة) قد كان من سيئات الحكومة الاستبدادية لا سيما الحميدية
منها؛ أن يذل المسلمون لكل خسف ينالهم حتى العبث بدينهم؛ لأن السلطان عبد
الحميد كان قد منع المسلمين من جميع أنواع الاجتماع، ومن الحديث والكتابة فيما
يتعلق بالأمور العامة، ومن تقديم الشكاوى للحكومة في المظالم العمومية: دينية
كانت أو دنيوية، فلم يكن للأمة أن تقدم محضرًا، وإنما كانت الشكوى خاصة
بالأفراد! ولما سقطت سلطته- لا سقى الله عهدها- كان مما شكا منه التلاميذ
المسلمون في المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت وشايعهم عليه الرأي العام؛ إلزام
المدرسة إياهم بتعلم الديانة النصرانية، وحضور عبادتها في الكنيسة، كما علم مما
نشرناه في العام الماضي. وقد انتهى الأمر الآن بما يعلم، ويعلم مقدار السخط منه
من الكتاب الآتي:
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا -حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها؛ بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا،
والآن وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة
من مسلمين ويهود لغرفته؛ طالبًا منهم التوقيع على صك، تعهدًا منهم بالقيام
بالواجبات الدينية في السنة المقبلة؛ من دخول كنيسة، ودرس توراة وإنجيل حسب
الشروح والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من
له مسكة من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة
الثانية، حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلاً مع
أحد العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دينهم، حتى لا يبقى عذر للآباء ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تحض المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية،
قبل مناقشتها الحساب أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة وبعد النظر في
الأمور العقلية والنقلية. ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل، وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط تستوجب الانفجار.
فيا مَنِ اتَّخَذَكَ الكبيرُ أخًا والصغير أبًا، مُدَّ يَدَ المساعدةِ إلى مسلمي الكلية،
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذكرهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأييد مركزها هو من باب السياسة
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن، وقد ثار من مَرْبَضِهِ مدافعًا عن الأشبال؛ خيفة أن يصيبهم
أذى من الأغرار، ليظهر أن للإسلام صوى (ومنارًا) يستضاء بنوره، إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا وللمسلمين مرشدًا، مقر بفضلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الغندور
(المنار)
هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه، فإن هؤلاء الإفرنج أشد
خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في الشرق كما بينا
ذلك مرارًا. ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا أن الشرق هو
مهد التعصب؛ (رمتني بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزيفهم هذا على الجمهور زمنًا
ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا وتساهلاً منهم! ! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجأوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها، ولا يرجعون عنها
بحملة الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم، لا سيما
في الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه.
فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها بغيرها
وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم، وجعل ذلك ذريعة إلى
منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها. وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(١) مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام؛ ككتب الأستاذ
الإمام وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية، وكتاب روح
الإسلام للقاضي أمير عليَّ.
(٢) مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية؛ ككتاب أضرار
تعليم التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز، وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره
من الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي التنير.
(٣) المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن، وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية؛ كالصيام في هذه الأيام.
(٤) ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد، فإن عملهم هذا مما يحمد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في العام الماضي؛ أن المسلم لا
يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا هناك أيضًا:
إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لاسيما القائمين بأمر هذه المدرسة، هو الذي
يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة، فعمل
رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه، ويصدق فيه على المسلمين قوله تعالى:
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: ٢١٦) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان، ولا
من سماعها. ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبسه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة، فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلاً، فإنه يحكم بأن مَنْ هذا
شأنُهُ لا يَرِثُ مِنْ أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا
الحد، فإن هم وصلوا إليه رفع الأمر إلى الحكومة، فإنها تمنعهم منه بلا شك سواء
تعهد التلميذ به أم لا، نعم.. ما كل ما يحكم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما
يسميه النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا. ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم
من أمر الدين ممنوع قطعًا.
***
غلط فاحش يجب إصلاحه بالقلم
في السطر ٢٣ من صفحة ٥٧٨، وفي السطرين ٣ و٤ من صفحة ٥٧٩ من
مجلد المنار الحادي عشر: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (آل عمران:
١٥٢) أي فضل خاص لا يشاركهم فيه غيرهم، وهو عناية بهم وتوفيقهم.
وصوابه هكذا: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (آل عمران: ١٥٥) لا يعجل بتحتيم
العقاب، ومن آياته مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم.
وفي السطر الأول من صفحة ٥٢٨ من الجزء الماضي: كلمة (السابع)
وصوابها التاسع.