للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانقلاب العثماني الميمون

(لاهور في ١٩ أغسطس ١٩٠٩)
حضرة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا أدام الله فضلكم ونفعنا بعلومكم
آمين.
أما بعد السلام والاحترام، لا أستطيع أن أفي بحق شكركم على ما أبديتم من
اللطف في نشر مقالتي والرد عليها ردًّا مسهبًا، وسأنشر ترجمة ردكم هذا في
جريدتى تمامًا، إن شاء الله تعالى.
ولا أكتب بعد ذلك في هذا الأمر شيئًا بقصد استطلاع الآراء، بل نترك للدهر
يقضي كيف يشاء، فإنه خير قاض، ولكني أرى بنفسي أن الذين هم اليوم أعداء
لعبد الحميد مثل: شوكت باشا والغازي مختار باشا وغيرهم، يحسون عاجلاً
بضرورة رجوعهم إلى عبد الحميد؛ إن لم تأخذهم الحمية حمية الجاهلية، وسلكوا
مسلك الإنصاف والسداد.
وأما أمر التحاشي من نشر ردكم الأول فكنت على الصواب فيه؛ لأنه صدق
ظني حين نشرته جريدة (علي كده أنستي تيوت غازت) فاستاء منه العالم
الإسلامي الهندي أشد الاستياء، حتى اضطر محرر هذه الجريدة لتقديم الاستقالة من
خدمته في أواخر شهر يونيو الخالي؛ وساءت سمعة مجلة المنار أيضًا؛ فرأيت أن
أدافع عن المجلة، ونشرت ردكم في جريدتي مع جوابي الذي أرسلته إليكم بعد
التعريب كما نشرتموه في العدد السادس من مجلة المنار الأغر؛ ولقد أثر ذلك الأمر
تأثيرًا حسنًا في تسكين ثائرة نفوس المسلمين الهنديين، وإطفاء ثائرة غيظهم على
(المنار) .
وليكن في علم حضرتكم أن الجرائد التي وافقت آراءكم من مائة جريدة
إسلامية في الهند لا يربو عددها على اثنتين فقط؛ إحداهما جريدة (علي كده أنستي
تيوت غازت) ، والأخرى جريدة (وكيل) (أمر تسر) فما الذي جرى للأولى؟
هو أن النواب وقارالملك ناظر الكلية الإسلامية في (علي كده) طلب من المحرر
أن يصلح آراءه، ويكتب ردًّا لأقوال مجلة المنار، ولكنه أبى الرد واستقال من
وظيفته؛ ورد أقواله حضرة النواب المشار إليه في الأعداد التالية من الجريدة،
واضطر إلى التسليم بأن عبد الحميد هو (عبد الحميد الأعظم) لا محالة؛ وقد
ندمت جريدة (وكيل) أيضًا من سلوكها ذلك المسلك الصعب المخالف للرأي العام
لمسلمي الهند، واعتذرت عما فرط منها.
وظنكم أن آراء جريدة (وطن) موافقة لقرائها، وهم عدد قليل في الملايين
من مسلمي الهند فليس في محله؛ لأن شيوع هذه الجريدة في الأقطار الهندية
وإشاعتها أكثر بكثير من جميع الجرائد الإسلامية الهندية، فإن جريدة (علي كده)
جميع إشاعتها خمسمائة في الأسبوع، وجريدة (وكيل) إشاعتها ألف وخمسمائة؛
وبقية الجرائد الإسلامية لا تزيد إشاعتها عن الألف ألبتة , ولكن جريدة (وطن)
إشاعتها الآن خمسة آلاف وثلاثمائة في كل أسبوع , ولا ريب في أن قراءه لا
يكونون أقل من خمسين أو ستين ألف رجل من المسلمين، بل ربما يكونون مائة
ألف أو يزيدون، ولا يخفى على حضرتكم أن جريدة (وطن) تجد مشتركين
معاونين لها في كل مكان فيه عدد ولو قليل من المسلمين الذين يعلمون لسان
(الأردو) مثل إفريقيا الجنوبية والمشرقية، وأمريكا الشمالية والجنوبية،
وجزائر غرب الهند، والصين، وإستراليا، وزنجبار، وتونس، وطرابلس
الغرب، ونيجريا، وملايا، وسومترا، وتركستان، وعرب (?) وبغداد
وغيرها من البلاد النائية الأطراف من العالم الإسلامي. فإن جريدة (وطن) لتصل
إلى كل هذه البلاد دائمًا، وإنكم تعلمون أن وظيفة الجريدة ليست هي هداية قرائها
إلى جادة الصواب فقط، بل إنها يجب أن تكون مرآة ترى فيها آراء الأمة والقراء
جميعًا. وتكون مظهرة لميلاتهم (?) وإني أقول بكل الثقة: إن آراء جريدة (وطن)
في هذه المعاملة مطابقة لآراء قرائها وآراء الجمهور من المسلمين ولا عبرة
للشواذ.
وأما قولكم بجهل مسلمي الهند بالحقائق في أول الأمر، واقتناع منصفهم بعد
ما ظهر لهم من الحق بواسطة نشر الحقائق في الجرائد التركية والعربية، حتى
تتعجبون من إصراري على ما كنت عليه، فالمطلوب من حضرتكم إمعان النظر
في مكالمة مراسل جريدة (باونير) الإنكليزية (التي تصدر في بلدة إله آباد بالهند)
مع محمود شوكت باشا، وقد أدرجت هذه المقالة بعددها الصادر في ١٣ أغسطس
سنة ١٩٠٩، فاعترف شوكت باشا بأنه ليس عنده الرجال الأكفاء ذوو سطوة
واقتدار، حتى يقدر على حفظ السلطنة من التورط في الهلاك والخراب.
وإننا مسلمي الهند مع وقوفنا على كون العهد الحميدي محفوفًا بالأخطار
ومملوءًا من السيئات، لا نلقي تبعة هذه المفاسد على عبد الحميد وحده كما تلقون
حضرتكم، بل ننسبها إلى جهل الملة وخمولها، ونعلم أن عبد الحميد سعى جهد
طاقته في تخفيف ذلك الجهل والخمول (! !)
وإني لا أدعي الأولية في كتابة ذم عبد الحميد وعماله على جميع جرائد العالم
بل قصدي أنه أول من كتب بهذه الصراحة في الجرائد الإسلامية الهندية لا غير
وهذا صحيح لا ريب فيه، وقلتم: إن الاختلاف في مشروع السكة الحجازية لم يكن
من جهة السلطان السابق، فإني لا أسلمه؛ لأن عندي كتبًا خصوصية من أصدقائي
في الآستانة وهم يكتبون أن الجرائد التركية حظرت عليهن الحكومة ذكر مشروع
سكة بغداد والحجاز، وسبب نشر آرائي في جريدة المعلومات العربية؛ هو قلة
انتشارها في المملكة العثمانية، وإن لم أنس فأذكر أن الذين كتبوا منهم صديقكم
وصديقى السيد عبد الحميد الزهراوي أيضًا.
والمؤرخون الذين ينحازون إلى أحد الطرفين، لا يعد قولهم صحيحًا، بل
العبرة بما قاله مؤرخة أولي الدراية في الأزمنة التالية، وكذلك الذين ليس لهم علاقة
بأحد من الفريقين المتخاصمين، وأنا كما تعلمون ليس لي واسطة بعبد الحميد ولا
بتركيا الفتاة، بل كل ما أقصده هو خير الدولة العلية وسلامتها، حفظها الله ووقاها
من جميع الآفات والمهلكات، آمين.
وعجبت من احتجاجكم باعترافي أن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية
لم توجد في عهد عبد الحميد ... إلخ (فأقول لكم بكل أدب: إن فيلسوفًا مثلكم لا
يلزم أن يكون ناسيًا الفرق بين الترقية وبين حفظ مركز السلطنة وسد الخلل،
ومقصودي هو أن عبد الحميد لا يجب أن نأخذه بجريرة أسلافه ونترك ما أصلحه
هو ولا نشكره عليه، فإن العقل لا يسلم لأحد أن لا يكون فيه حسنة غير السيئات؛
ولذلك لا يخلو عبد الحميد أيضًا من حسنات، ويشهد على حسناته ما كتبته جرائد
مصر العربية وجرائد أوروبا في أكثر الأوقات في أعمدتهن من مدائحه وإصلاحات
عصره بالصراحة التامة، والتاريخ يحفظ ذكرها.
وأما مدحت باشا فإنه عزل من منصب الصدارة في سنة ١٨٢٢ ونفي. ولكن
القوم لم يكترثوا لحالته، وبعد ذلك لما عين واليًا على عدة ولايات؛ فلم يكن سببه
خوف عبد الحميد منه أو من جماعته، بل رأى ذلك السلطان العظيم أن يستفيد من
أهلية الرجل وكفاءته في إصلاح شؤون المملكة، وما كان سبب العزل والنفي
لمدحت باشا؛ إلا قلة مواليه ومشاركيه في حب الدستور (!) .
أنكرتم عليّ قولي: إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم والصديق والفاروق
- رضي الله عنهم - وغيرهم من الخلفاء الراشدين كان مطلقًا، وأوجبتم عليّ أن
أستغفر الله من هفوتي هذه، فأعوذ بالله وأستغفره من كل ذنب وأتوب إليه، وبعد
ذلك أسألكم: إن ضمير (هم) في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: ١٥٩) هل مرجعه جميع أفراد الملة الإسلامية أو بعض سراتها وذوي
الرأي منها؟ إن كان المقصود منه ذوي الرأي من سادات القوم ووجهائهم، فلم
تنسون مجلس شورى الدولة الذي كان موجودًا في عهد عبد الحميد إلى آخر أيامه،
وأعضاؤه من أهل الخبرة والجاه والسياسة وسراة الأمة؟ ؟ وإن كان الضمير راجعًا
إلى كل فرد من أفراد الأمة، فمتى حصلت الاستشارة لجميعهم، وكيف السبيل إلى
حصولها أيضًا؟
هل كان صلح موقع الحديبية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال أهل
الردة والممتنعين من أداء الصدقات، وتزحيف جيش أسامة - رضي الله عنه -،
وعدم مؤاخذة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، من أعمال الصديق - رضي الله
عنه - كل هذه الأمور بمشورة القوم وغير مناقض لأراء الجمهور من الصحابة
- رضي الله عنهم - ? ومتى أظهر المسلمون رضاهم من عزل خالد - رضي الله
عنه - حينما عزله الفاروق - رضي الله عنه -؛ لأن الجمهور كانوا يحبونه
ويفضلون أن يكون هو قائدًا عليهم ? وإن كانت هذه الأمور بالاستشارة، فالمرجو
من كرمكم أن أفيدوني بإعلامها، واذكروا لي أسماء الصحابة الذين استشيروا في
تلك الأمور.
وعلمت اطلاع عبد الحميد على النوايا السيئة للغازي مختار باشا إليه من نشر
تقارير الجواسيس في جرائد الآستانة في هذه الأيام. وظهر أنه كان عالمًا بسوء نية
الرجل، وإنعامه عليه وإكرامه كان بسبب لطفه الطبيعي وحسن سياسته في تأليف
قلوب النافرين منه بواسطة المال والإكرام (!) .
إنكم تقولون: إني عاشق لعبد الحميد , ولا أعرف الحقيقة التي عرفتها
الأرض والسماء من أنه كان السفاك المبيح للدماء وقاتل الأبرياء وغيره. فقولكم
هذا لا يعتد به من غير بينة. وإن الجرائد التركية مع كونهن تجاوزن حد الآداب
في ذم عبد الحميد، لم تستطعن أن تثبتن شيئًا حقيقيًّا من التهم الموجهة إليه في أمر
إفساد الدستور وشركته في الحركة الارتجاعية يوم ١٣ إبريل الماضي؛ غير
الظنون والشكوك، فإن العاقل لا يعبأ بها , ومن الذي لا يعلم أن جرائد أوروبا لم
تكن لتقصر في إذاعة سيئات عبد الحميد ومظالمه لو وجدن إليه سبيلاً. والحمد لله
خابت آمالُهنَّ من هذا القبيل، ولم تستطع جريدة من جرائد أوروبا أن تكتب كلمة
واحدة تدل دلالة صريحة على شركة عبد الحميد في الحادثة الارتجاعية. ولكنكم
تضربون على هذه النغمة عبثًا، وتحاولون إقناعي بمثل هذه الخزعبلات (!) .
ومعصيتي الكبيرة التي جنيتها في زعمكم هي قولي الحق في شأن مولانا
السلطان محمد خان الخامس - أدام الله ملكه وسلطنته - إنه كآلة صماء في يد
جماعة (ودعوتموني إلى التوبة من هذه المعصية. ولكن ما تقولون في إشاعات
جمعية الاتحاد والترقي وأقوال شوكت باشا نفسه؛ بأنه لم يترك حول جلالته أحدًا
من أنصار عهد القديم، لا من رجال المعية، ولا من الخدم والحشم، حتى لم
يتركوا حوله من خُدَّامه القدماء أحدًا , وقد قاله شوكت باشا في مكالمته مع مراسل
جريدة باونير المذكور سابقًا في هذا المكتوب) .
وبالجملة فإني أتعجب من شدتكم في أمر عبد الحميد وسبكم له، مع كونكم من
العلماء الأعلام وحكماء الإسلام. يغفر الله زلتكم هذه ويهديكم سبيل الرشاد؛ لأن
السبَّ والشتم ليس من شيم الكرام , والسلام.
ولا أبغي نشر مكتوبي هذا في المجلة، ولا أكلفكم الرد عليه بغير رضاكم؛
لأني علمت من الردَّين ما قد كفاني , وإني عرضت عليكم بعض ما جال في
خاطري عند قراءة ردكم , وخفت أن لو أكتب في جوابه شيئًا فيطول الكلام؛ لذلك
اكتفيت بعض الأمور التي يجب اطلاع قرائكم عليه، فإن رأيتم من المناسب نشره
نشرتموه وإلا فلا , فأطلب منكم العفو من تكليفكم مرتين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن)
... ... ... ... ... ... ببلدة لاهور (بنجاب - الهند)
(جواب المنار)
إن هذه الرسالة تشعر بإخلاص صديقنا فيما كتبه أولاً وآخرًا في مسألة
الانقلاب في الدولة؛ لنشره بعض ردنا، ووعده بنشر الباقي , وهذا هو ظننا فيه
الذي بيناه في ردنا عليه من قبل؛ خلافًا للجرائد التركية والعربية التي جعلته من
صنف (الارتجاعيين) الذين يتبعون الهوى في نصر عبد الحميد؛ حبًّا في ماله
ورتبه وأوسمته , وقد أوسعته تلك الجرائد ذمًّا وتوبيخًا وتهكمًا، وهي مخطئة في
ذلك كما أنه هو مخطئ في اجتهاده، ولذلك لم ننوه بشيء مما كتبوا، وإن أثنت
علينا الجرائد التركية فيه، وأرسل إلينا بعضه من الآستانة معلمًا عليه بالحبر
الأزرق. ونقول لأولئك الكتاب: إن صاحب جريدة الوطن ربما كان أشد إخلاصًا
للدولة من أكثر الجرائد العثمانية التي تلعن اليوم الاستبداد وسلطانه، وتطري
الدستور وأعوانه، وسيرون إن شاء الله من محمد إنشاء الله خير نصير للدولة
الدستورية، لا سيما بعد الاقتناع القريب بسوء عاقبة السياسة الحميدية، ثم إننا
نجيب مناظرنا عن شبهاته في هذه الرسالة بما يأتى بالاختصار:
(١) إن قراء الجرائد في الهند معذورون في إساءة الظن في المنار؛ لما
كتب ما يخالف آراءهم وأهواءهم وجرائدهم التي استمدوا منها تلك الآراء والأهواء
في السياسة الحميدية. وقد علمت أن أكثر المستائين يظنون أننا كنا نمدح عبد
الحميد وسياسته في عهده، فلما خلع انقلبنا عليه ذامين قادحين، وظنهم هذا من
الإثم والحكم علينا بغير علم؛ ولذلك نظن أن قراء المنار لم يتهمونا بمثل ما اتهمنا
به غيرهم؛ لأنهم يعلمون أننا لم نكن نحسن الظن في السلطان عبد الحميد بعض
الشيء، ونلتمس له بعض العذر إلا في السنة الأولى من سني المنار؛ لأن استبداده
لم يكن قد بلغ غايته؛ ولقرب عهدنا يومئذ ببلادنا المحجوبة عنها الحقائق،
والمملوءة بالنفاق والمدح الكاذب. وقد كان المنار بعد ذلك يتميز غيظًا من سوء تلك
الحال، ويشكو منها بالأساليب المختلفة من الأقوال، ومن أوضحها مقالة (حال
المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين) وما يتبعها من
المقالات التي نشرناها في المجلد التاسع، ودعونا فيها علماء الإسلام في مصر
والهند وتونس إلى مطالبة السلطان عبد الحميد بالعدل والإصلاح، ولولا أننا أنشأنا
جمعية سياسية سرية لمجاهدة استبداد عبد الحميد، وجعلنا لها جريدة خاصة
سميناها باسمها (الشورى العثمانية) ، وكنا نعزز الجريدة بمنشورات سرية يوزعها
عمال مخصوصون في الآستانة والرؤملي والأناطول بنفقة من الجمعية، لما
رضينا بذلك التنديد الإجمالى في المنار، وقد نوهنا بذلك في فاتحة هذه السنة.
ومن كان في شك من مجاهدتنا لعبد الحميد في عهد استبداده بأشد مما كتبناه
في المنار بعد خلعه، وهو نفسه يعلم ذلك ولا يشك فيه؛ فليطلب منا بعض أعداد
جريدة جمعيتنا؛ ليعلم أننا لسنا كأصحاب تلك الجرائد العثمانية التي كانت تسبّح اسم
عبد الحميد بكرة وأصيلاً راضية أو كارهة، ثم صارت تلعنه كذلك , ولو كان
المنار كتلك الجرائد وصاحبه كأصحابها، لما خربت الحكومة بيت أبيه، ونكلت
بأهله ومحبيه، ولولا أنه مخلص في جهاده الاستبداد الحميدي لما احتمل ذلك العذاب،
والبلاء في الأموال والأنفس والأوقاف، ورغب عن العطايا والرتب التي
عرضت عليه؛ ليكون من المادحين لعبد الحميد، وإننا ننشر في هذا الجزء ما
نشرته الحكومة الحميدية في جريدة بيروت الرسمية من اتهامنا واتهام بعض إخوتنا
وأصحابنا بالجناية والأمر بالقبض علينا أحياء أو ميتين. ونرجو من صديقنا أن
يترجمه وينشره مع هذا الرد في جريدته؛ ليقرأه من لا يعرف العربية من إخواننا
مسلمي الهند.
(٢) إننا نعجب لظن صديقنا المناظر لنا بعد أن بينا له الحقائق؛ أن مثل
مختار باشا وشوكت باشا سيظهر لهما على عداوتهما لعبد الحميد ضرورة الرجوع
إليه! ! يالله العجب! أيظن صاحبنا أنه أعلم بعبد الحميد منهما وممن على رأيهما
من خيار رجال الدولة، حتى يظهر لهم أنهم هم المخطئون فيكون هو المصيب في
غلوه في إطراء عبد الحميد! ! أيسمح لي صديقى الفاضل أن أسمي هذا الظنَّ
غرورًا مبينًا مع احترامه وحفظ مقامه! هل أعيد له القول البديهي أنهم يعرفون
جميع عُجَره وبُجَره الخفية والجلية، وجميع أعماله السرية والجهرية، وصديقنا لا
يعرف منها إلا بعض الظواهر التي برز أكثرها في غير صورته الحقيقية. وهل
تكون حمية مختار باشا على عبد الحميد حمية جاهلية، وهو أكبر قواد الدولة الذي
بذل دمه مرات كثيرة في سبيلها؟ وتكون حمية صاحب جريدة الوطن هي الحمية
الصادقة التي يثيرها الإنصاف ? أي حظ لمختار باشا من عداوة عبد الحميد؟ إن
مرتبه الآن لا يبلغ عُشْرَ مرتبه من عبد الحميد، وإن ولده كان بمحاباة عبد الحميد
فريقًا من الدرجة الأولى، وقد أنزل بعد الدستور إلى رتبة أميرألاي، ومختار باشا
راضٍ مسرور من خلع عبد الحميد، أليس هذا برهانًا قاطعًا على إخلاصه؟ فائتنا
أيها الصديق ببرهان مثله يثبت أنك أشد إخلاصًا للدولة وأعلم بمصلحتها منه؟ ؟ ما
كان ينبغي لك أن تعيد مثل هذه الأقوال التي لا يكاد يعقل صدورها من عالم مخلص
مثلك، إلا بذلك التأويل الذي حملت عليه كلامك من قبل؛ وهو كون اعتقادك حسن
حال عبد الحميد صار وجدانًا، لا يقبل البحث كدين العجائز، ومنك يرجى السماح
والعفو.
(٣) إذا كان قولك ذاك عجبًا، فأعجب منه استدلالك على كونك مصيبًا في
إصرارك على رأيك في عبد الحميد وحكومة الدستور، بقول شوكت باشا إنه ليس
عنده من الرجال الأكفاء من يكفي لحفظ السلطنة! ! إن هذا أكبر حجة لنا عليك،
وأظهر مبطل لقولك إن عبد الحميد كان يسعى جهد طاقته في تخفيف الجهل
والخمول السائدين في السلطنة. لو كان حقًّا ما تقول لكانت مدة سلطنته كافية لتعميم
التربية الملية والتعليم النافع، وتخريج رجال لا عداد لهم يصلحون للنهوض بجميع
أعباء السلطنة. فإن ثلث قرن كاف لتربية ثلاث طبقات أو أجيال من الأمة. ولكن
عبد الحميد كان والله مفسدًا في المملكة، عدوًّا للعلم والتربية، نصيرًا للجهل
والضلالة. وإن من البراهين القاطعة على إفساده وتخريبه للدولة وإتيانه إياها من
قواعدها وأساسها؛ ما قامت به الحكومة الدستورية من تصفية الرتب العسكرية،
فقد تبين به صدق ما كنا نعلمه بالإجمال ونقوله بالاختصار من ترقية عبد الحميد
للضباط والقواد بمحض إرادته محاباة لهم؛ لئلا يسخطوا على هدمه لسائر قواعد
السلطنة. فالعسكرية التي أحدثت الانقلاب وبيدها زمام الأمر هي التي اختارت
إنزال الجم الغفير من قوادها وأمرائها وضباطها عن مراتبهم؛ غيرة على الدولة،
ومنعًا لهذا الخلل الذي يقضي على الدولة إذا هي وقعت في حرب مع دولة قوية
منظمة.
لقد خُلِعَ عبد الحميد والدولة عاجزة عن محاربة البلغار التي هي قطعة منها
ولكن حكومة الدستور أمكنها أن تتلافى الأمر بسرعة، حتى استعدت للطوارئ في
أقل من سنة، وإن كان الإصلاح التام لما أفسده عبد الحميد لا يتم إلا بسنين!
وناهيك بإصلاح الأسطول وتعزيزه، وقد ظهر للوجود بعد خفائه.
يا سبحان الله! البلاد بلادنا والمكاتب والمدارس مدارسنا، ومكاتبنا بنيت
بأموالنا وهي تحت مواقع أبصارنا، والمعلمون فيها والمتعلمون فيها إخوتنا وأولادنا
ونحن الذين نقول: إن عبد الحميد أبطل كثيرًا منها، وجعل بعضها تحت مراقبة
الجواسيس، ومنع منها بإشاراتهم بعض العلوم وبعض الكتب، ثم بعض الآلات
والمواد التي يتمرن فيها التلاميذ على الأعمال في العلوم الطبيعية، كما منع أكثر
الكتب النافعة في الدين والأدب والتاريخ والتربية وغير ذلك، وأحرقت حكومته
ألوفًا كثيرة من هذه الكتب، وحملت الناس بضغطها وظلمها على إحراق أكثر مما
أحرقت هي. وبعد هذا كله يقول صاحب جريدة الوطن إن السلطان عبد الحميد كان
باذلاً جهده في إزالة الجهل وإصلاح حال الأمة بالعلم! . ثم هو يعترف مَعَنا بعد
ذلك بأن الأمة العثمانية ليس فيها - بعد هذا الجهد في تعليمها بزعمه - أناس قادرون
على القيام بأعباء الحكومة! ! كيف يفهم هذا وبم يفسر؟
يعترف صاحب (وطن) بأنه هو وقومه واقفون على ما كان في العهد
الحميدي من السيئات. ولكنهم لا يلقون عليه التبعة وحده مثلنا كما يدعي؛ بل
يقولون: إن سببها جهل الأمة، نعم.. إن جهل الأمة هو الذي مكن مخالبه من
مقاتلها؛ ولذلك كان يكره أن تتعلم، وينكل بكل من ينبه أفكارها وإلا فليدلونا على
ذنب المنار، حتى لقي وأهله ما لقوا منه؟ أما عماله وأعوانه على الإفساد فإنهم
كانوا على شاكلته.
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
ولماذا لا تُحرق الكتب الآن، ولا يحذف بعض المسائل من نسخها الطابعون،
كما حذفوا طائفة من كتاب المواقف الذي طبع في عهده بالآستانة، ومن كتاب شرح
المسايرة في العقائد الذي طبع في مصر، فجعلت بعض نسخه كاملة صحيحة وهي
ما يباع بمصر وسائر بلاد الدنيا ما عدا البلاد العثمانية , وأما بقية النسخ التي ترسل
إلى الآستانة وغيرها من الولايات العثمانية، فقد حذف منها بعض المباحث؛ لئلا
يجعل وقودًا للنار.
(٤) تنازل صديقنا من دعوى ترقية عبد الحميد للسلطنة أو اجتهاده في
ترقيتها في بعض كلامه (وإن تناقض مع بعضه الآخر) ، وجعل حسنته العليا
حفظ مركز السلطنة وسد الخلل، ونقول: إن هذه الدعوى ممنوعة أيضًا، فإن سد
الخلل إنما يكون قبل كل شيء بإصلاح المالية، فالدولة التي ليس عندها مال لا
تقدر أن تدفع خطرًا داخليًّا ولا خارجيًّا، وهو قد دمر مالية الدولة تدميرًا كما هو
بديهي لا يقبل المراء. ثم إن الركن الآخر لحفظ المركز هو العسكرية، وقد قلنا
آنفًا: إنه اشتغل في آخر عهده بإفسادها، وإن تصفية الرتب العسكرية أقوى برهان
على ذلك. نعم.. إن كل ما كان يعمله عبد الحميد في المشكلات الخارجية هو
الحيلة والمواربة والتسويف والترضية للدول بعد ذلك، والغرض من هذا كله تأخير
سقوط الدولة إلى ما بعد موته؛ ليبقى طول حياته متمتعًا بنعيمها، وإن كان أكثره
وهميًا مشوبًا بالمنغصات التي لا قبل له بدفعها؛ لأن وسواسه هي مثارها ومعهدها
ولو طال العهد على تلك السياسة الخرقاء التي لم ينل منها بعض ما يريد إلا
باختلاف الدول وتنازعها؛ لخربت المملكة فقد تداخلت أوروبا في ولايات مقدونية،
وكان ذلك مقدمة لسلخها من الدولة، ولولا الدستور الذي أراحنا من سياسته
لذهبت تلك الولايات، وما ثبتت الآستانة بعدها إلا قليلاً. وأما مدح الجرائد له فكان
بعضه بالثمن، وبعضه بسوء الفهم، وبعضه بالإكراه.
(٥) قال: إنه لم يثبت أن عبد الحميد هو مدبر الفتنة الأخيرة التي خُلِعَ بها
ومع هذا نَصفه بسفك الدماء، ونقول: إن هذا وصف قديم له معروف عند الإفرنج
الذين يسمونه السلطان الأحمر، وإن الحكومة الدستورية قررت عدم محاكمته؛
ولذلك لم تظهر كل ظهر لها من دسائسه في الفتنة وغيرها.
(٦) سمى صديقي ما عبت به عبد الحميد في سياسته وإدارته، وما كتبته
من وجه العبرة بخلعه، سبًّا وشتمًا. وقال: إنه ما كان يليق ذلك بمثلي. وهي
غفلة من الصديق؛ سببها الغلو في حب عبد الحميد، فإن السبَّ عبارة عن ألفاظ
بذيئة توجه إلى شخص لأجل تحقيره وإهانته فقط. وما ذكرناه في عبد الحميد لم
يكن كذلك، وإنما كان بيانًا لحقيقة رجل آذى دولة عظيمة وأمة كبيرة، وتنبيهًا
لوجه العبرة في سقوطه فهو من قبيل ما في الكتاب والسنة من ذم فرعون وملأه
والعبرة بهلاكهم، ومن قبيل جرح المحدثين لرواة الحديث، ومن قبيل ما أذن الله به
من قول السوء لمن ظلم؛ ببيان ظلم ظالمه وسوء عمله. وعبد الحميد لم يكن ظالمًا
لي ولأهلي فقط، بل كان ظالمًا لنا ولجميع الأمة ما عدا أعوانه على الظلم منها.
هذا ما أقوله فيما يتعلق بعبد الحميد، وأثبت له حسنة السكة الحجازية، وحسنة عدم
التعصب لجنسه وكراهته أن يقال: ترك وعرب. وأما المسائل العامة التي أنكرها
علينا صديقنا أو سأل عنها، فهذا جوابها بالإجمال الذي يسعه المقام نذكره تابعًا
بالعدد لما قبله.
(٧) من البديهي أن الذين تجب استشارتهم في الأمور العامة هم أهل الرأي
والمكانة في الأمة، والعارفون بمصالحها، والمحترم رأيهم عند جمهورها، المعبر
عنهم في القرآن بأولي الأمر لا جميع أفراد الأمة. ولم يكن مجلس شورى الدولة
مؤديًا في عهد عبد الحميد لوظيفة المشاورة الشرعية، ولا أعضاؤه من أهل المكانة
في الأمة، ولا من المعروفين عندها، وإنما يعرفهم من كان بينه وبينهم صلة جوار
أو نسب أو عمل. ذلك مجلس قديم العهد في الدولة، وقد أفسده عبد الحميد كما أفسد
غيره حتى جعله مستودعًا لمن يسترضيهم ممن يخشى اشتغالهم بالسياسة، وكان
أكثرهم لا عمل لهم، ولم يكونوا مرجعًا له في الأمور العامة ولا مستشارين على أن
يكون رأيهم معمولاً به قطعًا؛ بل كان المجلس ولا يزال ثلاث دوائر إحداها للملكية،
والثانية للتنظيمات، والثالثة للمحاكمات، يحاكم فيها كبار الموظفين، وكانت
الإشارة من أقل رجال المابين أو جواسيسه تكفي لإدانة البريء والحكم عليه بأشد
العقوبة، وعفو السلطان فوق حكم هؤلاء، كما أنه فوق جميع المحاكم الشرعية
والنظامية. أهذه هي الشورى المطلوبة في القرآن التي كان النبي صلى الله عليه
وسلم يعمل برأي رجالها، وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد التي أنزل عليه
فيها: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) يا سبحان الله! ألهذا الحد
وصلتم في الانتصار لعبد الحميد؟
(٨) ذكر صديقنا عدة شُبه على قولنا: إن حكومة الإسلام حكومة شورى
مقيدة لا استبداد مطلقة، وإن الخلفاء الراشدين لم يكونوا في أحكامهم مستبدين.
ونجيب عنها واحدة بعد أخرى:
(الشبهة الأولى) أن صلح الحديبية لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
برأي الصحابة؛ بل كانوا له كارهين في أول الأمر، وإنما قبلوه تدينًا لا اقتناعًا
بفائدته كما هو معروف في السير، مع أنه وقع بعد غزوة أحد التي أمر فيها
بالاستشارة. والجواب عنه من وجهين:
(الوجه الأول) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بعض الأعمال
بأمر من الله تعالى فلا يستشير فيها أحدًا؛ إذ لا مجال لرأي أحد مع أمر الله تعالى،
ويجب أن يكون صلح الحديبية من هذا القبيل، وإلا لزم مخالفة النبي صلى الله
عليه وسلم لأمر الله تعالى إياه بمشاورتهم، وذلك غير جائز، وقد يدل على ذلك
قوله تعالى في الرد على كراهة الصحابة لذلك الصلح: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن
دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: ٢٧) وتسمية ذلك فتحًا مبينًا في أول السورة أيضًا،
ولم يعاتبه تعالى عليه كما عاتبه على أخذ الفداء من الأسرى ببدر.
(الوجه الثانى) قيل: إن المشاورة لم تكن واجبة على النبي صلى الله عليه
وسلم، وإن أمره الله بها للندب، فهو يفعله إذا لم ير غيره أرجح منه. ولا أراك
تطيب نفسك للقول بأنه صلى الله عليه وسلم مخالف الأمر الإلهي، وإن كان للندب
كما تطيب نفسك للقول بأنه فعله بوحي إلهي، كما تدل عليه سورة الفتح.
(الشبهة الثانية) بعض أعمال الصِّديق كقتاله لأهل الردة ومانعي الزكاة،
وإنفاذه لجيش أسامة، وعدم مؤاخذة خالد بن الوليد على قتل مالك بن نويرة
والتسري بزوجه. وإننا نجيب عنها كلها جوابًا عامًّا , ثم نجيب عن كل منها
بالتفصيل.
أما الأول: فهو أن الحكومة المطلقة هي ما كان الأمر فيها للحاكم العام في
التشريع والتنفيذ، والحكومة المقيدة هي ما كان الحاكم العام فيها مقيدًا بشريعة ليس
هو الواضع لها، إما منزَّلة وإما موضوعة برأي الأمة، وإما بعض أحكامها منزل
وبعضه موكول إلى استنباط أولي الأمر من الأمة يضعونه بالمشاورة بينهم -
كالشريعة الإسلامية - والتنفيذ في هذه الحكومة لا يحتاج فيه إلى الاستشارة، متى
كان الحكم معروفًا عند الحاكم , وكذلك كانت حكومة الراشدين، كانوا إذا وجدوا
الحكم في كتاب الله حكموا به أو في السنة كذلك، فإن لم يجدوا جمعوا أهل الرأي
من الصحابة واستشاروهم كما روينا ذلك بالأسانيد المتصلة، وأوردنا بعض ذلك في
المنار من قبل.
وعلى هذا تجري الحكومات الدستورية الآن في أوروبا وغيرها، يحكم الحاكم
بالقانون فلا يراجع مجلس النواب في كل قضية، وإنما يرجعون إليه في المشكلات
وما كان غير منصوص في القانون , وقد كان الحكم الشرعي في المسائل المذكورة
معروفًا عند أبي بكر، فجاز له أن ينفذها من غير استشارة؛ بل وجب عليه
ذلك في اعتقاده.
وأما التفصيل فقد تأول في قتال مانعي الزكاة حديث: (أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) فإنه جعل من حقها أن مانعي الزكاة
الهادمين لركن من أركان الإسلام، يقاتلون عليه حتى يذعنوا له. وإن الفقهاء
صرَّحوا بأن الذين يمنعون شيئًا من شعائر الإسلام ولو مسنونًا كالأذان يقاتلون
عليه. فهو قد تصدَّى لقتال مانعي الزكاة عملاً بحكمٍ مقرر عنده بالنص، ولما
راجعه عمر في ذلك وذكر الحديث قال له: ألم يقل: إلا بحقها؟ فالزكاة من حقها ...
إلخ ما قال وهو مشهور، فاقتنع عمر بقوله وهذه المراجعة تدل على أنهم كانوا
يعارضون الإمام إذا تصدى لشيء لم يظهر لهم دليله الشرعي فيه، أو ظهر لهم
مخالفته فيه للنص الشرعي.
والناس يغلطون في هذا المقام، فيخلطون بين محاربة المرتدين وهم بنو
حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وبين مانعي الزكاة وهم غيرهم،
فمحاربة بني حنيفة كانت باتفاق الصحابة لم يعرض لأحد فيها إشكال، ومحاربة
مانعي الزكاة عرض فيها الإشكال لعمر فأقنعه أبو بكر.
الحديث الذي دار الكلام عليه بين الشيخين مروي في الصحيحين، وقد
أخرجاه بزيادة هي نص في فهم أبي بكر الذي رجع إليه عمر؛ إذ قال: (فوالله ما
هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) . وهذه الزيادة
هي {وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (البينة: ٥) فالحاصل أن أبا بكر عمل بما علم
من حديث الرسول في المسألة، وذلك مما لا يحتاج فيه إلى الاستشارة، وقد أقره الصحابة كلهم على ذلك بعد مراجعة عمر واقتناعه.
وأما إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة فهو أيضًا تنفيذ لأمر النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد أشار عليه بعضُ الصحابة أن يرد الجيش فلم يفعل، وقال: (لا أحل
راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فاحتج بأنه منفذ لأمر الرسول
صلى الله عليه وسلم وكانت المصلحة فيما فعل. ومما يدل على أنه لم يكن يرى
أن له الحق في رد الجيش طلبه من أسامة أن يأذن لعمر في البقاء في المدينة
لينتفع المسلمون برأيه، ولم يمسك عمر عنده بما له من السلطة العامة؛ لأن سلطته
في الأمور المنصوصة لا تعدو تنفيذ النص إلا أن يظهر له في اتباع النص
ما ينافي المصلحة العامة لأمور عرضت تقتضي ذلك، فحينئذ يستشير أولي الأمر في
العمل بما فيه المصلحة كما فعل عمر في الطلاق الثلاث باللفظ الواحد؛ إذ كان على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر (رضي الله عنه) يعد طلقة واحدة.
فرأى عمر بعد مضي زمن من خلافته إكثار الناس من هذا الطلاق المخالف للسنة
ومقصد الشريعة فاستشار الصحابة في إنفاذه عليهم عسى أن يتركوه، وأنفذه
برضاهم , والحديث في الصحيح وتقدَّم الكلام عليه في التفسير وغير التفسير.
وأما عدم مؤاخذة أبي بكر لخالد بن الوليد؛ أي: مقاصته على قتل مالك بن
نويرة، فهي لا تدل على أن حكومته كانت مطلقة استبدادية؛ إذ ليس في الشريعة
نص يوجب القصاص في مثل تلك الحادثة وهي القتل بالتأول في الحرب، بل
فيها ما يقتضي عدم القصاص، فإن خالدًا نفسه قتل طائفة من بني جذيمة متأوَّلاً،
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)
كما في الحديث الصحيح , ولكنه لم يقتله، ولم يوجب عليه دية. وكذلك قتل أسامة
رجلاً قال لا إله إلا الله، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، وقال: (يا
أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قالها ثلاث مرات كما في الصحيحين، ولم
يقتله به ولا أوجب عليه قودًا ولا دية؛ لأنه متأوَّل. وما روي من أن عمر أشار
عليه بقتله غاية ما يفيده، كما قال ابن تيمية أن المسألة اجتهادية اختلف فيها
اجتهاد الشيخين، ولم يأت عمر بدليل يوجب على أبي بكر الرجوع إلى رأيه ,
والظاهر أن عدم الدية والقَوَد خاص بما يكون من مثل هذا في أيام الحرب , وأما
من قتل معصومًا في أيام السلم متأولاً فتأوله قد ينافي التعمد الذي يقتل به , ولكنه لا
يمنع إيجاب الدية ولا التعزير بحبس أو غيره , ولمؤرخي الشيعة وغيرهم أقوال
غير صحيحة في مسألة قتل خالد لمالك؛ ومنها تسرِّيه بزوجه من غير اعتداد ولا
استبراء، وليس لهم في ذلك رواية يحتج بمثلها شرعًا، على أن فقهاء الأمة
مختلفون في اعتداد مثلها، وليس هذا المقام مما يتسع للخوض في ذلك.
(الشبهة الثالثة) عزل الفاروق لخالد من قيادة الجيش في الشام , ونقول:
إن ذلك حقه، وقد بلغه من الأخبار ما أراه أن المصلحة في ذلك. وهذا ما يفعله كل
رئيس للعساكر أو للإدارة في الحكومات الدستورية، ولا يتبعون في اختيار القواد
هوى الجند ورضاه قط؛ بل كثيرًا ما تقضي السياسة بإبعاد القائد عن الجند الذي
يعشقه ويفتتن به؛ لئلا تحدثه نفسه بالخروج به على الحكومة وتأسيس دولة جديدة.
ويروى ما يدل على أن هذا هو السبب في عزل عمر له وهو؛ أنه لما سأله خالد
عن ذلك، قال: خفت أن يعبدك أهل الشام. ألم يكن السبب في سفك نابليون لدماء
الملايين من البشر هو افتنان جنوده به، حتى إنهم عصوا حكومتهم عندما أمرتهم
بمحاربته بعد رجوعه من جزيرة ألبا وكانوا عازمين على ذلك، فلما أقبل عليهم
بوجهه ودعاهم إلى قتله، خروا أمامه خاضعين وله متبعين؟ ؟
(٩) ومن المسائل العامة التي غلط فيها صديقنا صاحب (وطن) ما ذكره
في المؤرخين الذين يعتد بأقوالهم والذين لا يعتد بأقوالهم، وتطبيقه ذلك على أقوالنا
وأقواله في الانقلاب العثماني. والصواب أن المؤرخ الصادق العدل يعتد بروايته
عما رآه واختبره بنفسه. وأما ما يرويه عن غيره فالعبرة فيه بصحة السند، ومتى
كان الراوي عدلاً قُبِلَ قوله، ولو فيما يؤيد رأيه ومذهبه، كما قبل المحدثون من
أهل السنة رواية العدول من المعتزلة والخوارج والشيعة. ثم إنه ليس هنا فريقان
مختصمان نتعصب نحن لأحدهما على الآخر، وإنما يظهر التعصب من صديقنا؛
لأنه يفضل الحكومة الحميدية الاستبدادية التي سقطت على الحكومة الدستورية التي
قامت، ويطري عبد الحميد ويذم خلفه وأعوانه، فهذا هو التحيز إلى فئة. وقد
اتهمته (يني غزته) وغيرها من الجرائد التركية؛ بأنه كان يرجو من عبد الحميد
فوق ما ناله من وسام أو نوط وأنه وجد منه كتابه إلى المابين يطلب فيها أن يدعى
إلى احتفال سكة حديد الحجار ويعطى نفقة سفره إلى الحجاز، وهي مطامع في
المال والجاه.
أما نحن فإننا رأينا ظلم عبد الحميد في أنفسنا وبلادنا وأمتنا ودولتنا: رأينا
المالية منهوبة، والأرض موظوبة، والأملاك مغصوبة، والمعارف مغضوبة،
والكتب ممنوعة، والقضاء آلة سياسية، والإدارة مدبرة الاستبداد، والعسكرية قد
سرى إليها الوهن والفساد، والأجانب ينتقصون الأرض من أطرافها، ويسري
نفوذهم فيها، فجاهدنا على قدر عجزنا وضعفنا، وجاهد غيرنا من الأحرار كل
على قدره، حتى إذا أذن الله بسقوط تلك الحكومة الحميدية المفسدة، حمدناه
وأظهرنا سرورنا بنصره، وشكرنا العاملين على الانقلاب مع شكره؛ عملاً بحديث
(لا يشكر الله من لا يشكر الناس) , ولكننا لم نقدس الحكومة الجديدة، ولم
نتعصب لها في عمل من الأعمال، بل نرشدها وننتقدها على خطاها ومنه ما
يرى خبره في هذا الجزء عن فتن الشام، وعلى تقصيرها ومنه أنها لم تعد
إلينا شيئًا من حقوقنا التي سلبها الاستبداد منا. فلا نقول: إننا بلغنا بها أعلى
عليين، وإنما نقول: إنها محل الرجاء، وكنا مما قبلها يائسين. فهل من العدل
أن يقول صديقنا: إن كلامنا لا يعتد به؛ لأننا متحيزون متعصبون، وإن كلامه
هو الذي يعتد به؛ لأنه يشهد لنفسه أنه أوسع علمًا وأشد إخلاصًا؟
قلت من قبل: إنني أحسن الظن فيه. وأقول الآن: إن ظني فيه لم يتغير،
وإن أصر على مدح عبد الحميد بعد البيان، كما يحكم عليه الوجدان، ولا أعد ما
ذكرته الجرائد التركية قادحًا في إخلاصه. ولكن أوقن بأنه لا يعرف من حال
الحكومة الحميدية عشر معشار ما أعرف أنا وأمثالي؛ إذ ليس عنده إلا سمعيات
قليلة، يصدق بعضها ويكذب بعضًا بحسب فكره ووجدانه. وأما معلوماتنا فتدخل
من أبواب اليقينيات الستة وهي كثيرة جدًّا , وإذا كانت الغيرة على الدولة
والإخلاص لها تتعذر الموازنة بينهما في أنفسهما، فدلائلهما فينا أقوى من دلائلهما
عنده؛ لأننا تحملنا الإيذاء والبلاء في أنفسنا وأهلينا وأموالنا، وآثرنا ذلك على
الأموال والرتب والأوسمة. فهل عنده شيء من مثل هذه الدلائل على حب الدولة
والإخلاص لها، وهما مما لا ننكرهما عليه؟
(١٠) احتج مناظرنا على كلمته الشنيعة في مولانا وخليفتنا السلطان محمد
الخامس - أيده الله بروح منه - بقول جمعية الاتحاد وشوكت باشا أنه لم يترك
حوله أحد من أنصار العهد القديم، لا من رجال المعية ولا من الخدم والحشم! !
إنني على كثرة ما أنكرت على صاحبي من أقواله وآرائه وحججه في
موضوع مناظرتنا، لم أر أغرب من قوله هذا، وما كان يخطر في بالي أن يقوله
مثله؛ وهو من أهل العلم والسياسة. إن مولانا السلطان محمدًا لم تكن له حاشية
عظيمة من أهل السياسة الذين يعتمد عليهم، فيقال: إن إبعاد شوكت باشا أو غيره
إياهم عنه واستبدال غيرهم بهم، جعله غير قادر على التصرف، حتى يصح أن
تقال فيه تلك الكلمة المنكرة، وإنما كان حوله جواسيس لعبد الحميد ليسوا من أهل
السياسة، بل من أهل الفساد والسعاية، ولم يكن يثق بأحد منهم، وهو الآن يرى
جميع الوكلاء وأركان الدولة ومن شاء من غيرهم ويكاشفهم بما يريد، وكذلك كان
جميع السلاطين قبل عبد الحميد لا عمل لهم إلا بواسطة حكومتهم، ولم تكن
حاشيتهم إلا حاشية خدمة. ولكن عبد الحميد أسس حكومة المابين؛ ليحارب بها
الدولة والأمة، وقد فعل وظفر زمنًا ثم كان عاقبة أمره خسرًا.