للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بدوي النقاش


إيضاح وانتقاد

العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير.
(١٣- السلام عليكم ورحمة الله) وبعد: فقد اطلعت على جوابكم بالمنار
(صحيفة ٥٣٧ ج ٧ م١٢) ، وإني أشكركم على كل حال، وأرجو أن تفسحوا
للضعيف مجالاً في صدر حلمكم؛ فإن الكمال لله وحده وإنَّ خوفي من التطويل مع
رقة جسم المنار هو الذي جعلني أقصر عن زيادة الإيضاح في أول الأمر، بل
كثرة اشتغالي بمصالح الحكومة تجعلني أختلس القليل من وقت راحتي لأكتب ما
أرى، ذمتي تطالبني ببيانه إجمالاً مع اعترافي بالعجز؛ وإن كان فيما أكتب شيئًا
من العسلطة، فما زلت أقول: (رب زدني علمًا) حتى تتمكنوا من فهم قصدي
الحسن، وإني باسم الله الأكبر أبتدئ في بيان المقصود فأقول:
(١٤- القسمة في الآخرة) ذكرتم في صحيفة ٥٤٤ ج ٧ م ١٢ أن الناس
ينقسمون في الآخرة إلى قسمين: شقي وسعيد، وأنهم فيها فريقان: {فَرِيقٌ فِي
الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: ٧) فهذا لا أخالفكم فيه في شيء.
(١٥- مساواة الناس في بدء الخلقة) قلتم في صحيفة ٥٤٤ (وإنه بدأهم
على هذا ويعيدهم عليه) ففهمت من ذلك أن الله تعالى بدأ خلق الناس قسمين: شقيًّا
وسعيدًا، وأنه تعالى أخرجهم في هذه الحياة على هذه القسمة، وأنه سيعيدهم في
الآخرة على نفس هذه القسمة بلا تغيير ولا تبديل، حيث أيدتم ذلك بقولكم: (إنه
كما قسمهم إلى شقي وسعيد في الدنيا والآخرة قسم بينهم) ... إلخ وهذا ما أخالفكم
فيه، ولا أوافقكم عليه من بعض الوجوه؛ للأسباب الآتية:
أولاً - خلق الله الناس في بدء خلقتهم متساويين (?) لغرض واحد، فلا شقيًّا
بينهم ولا سعيدًا، ثم أخرجهم في الحياة الدنيا لعبادته كالآية {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) فحصر الغرض من الخلقة في العبادة
وحدها يدل على تساوي أصل الناس في بدء النشأة.
ثانيًا - قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: ٢١٣) وهذا يدل
صريحًا على أن الناس كانوا كواحد في بدء الخلقة، لا تمييز بين إنسان وآخر، ولا
وجود لشقي بينهم ولا لسعيد.
ثالثًا - قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: ١٧٢) فهذه الآية تدل
على أن ذرية بني آدم بلا استثناء وهم في ظهور آبائهم، كانوا مطبوعين على تأليه
الخالق وتوحيده بلا شرك، فيدخل في ذلك بالطبع ذرية اليهودي والمجوسي،
والبوذي والبرهمي، والمسيحي والمسلم، والمادي والدهري، والكافر والمؤمن،
مما يثبت توحيد الناس ومساواتهم في بدء الخلقة، وقد ولدوا من بطون أمهاتهم
بالبداهة على هذه الطهارة، فكيف تقولون: إنه بدأهم قسمين ويعيدهم عليهما!
رابعًا - قال النبى عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)
والولادة على الفطرة كما لا يخفى عليكم؛ هي الولادة على الأصل الطاهر الخالي من
نزعات الشرك وخلافه، فلا يوجد إذًا في بدء الخلقة تقسيم.
(١٦- سير الناس على نظام ذي (?) وجهين) لعلكم تتساءلون بعد ذلك
وتقولون: إذا سلمنا بأن الناس متساوون في بدء الخلقة، لا شقيًا ولا سعيدًا، فكيف
ينقسمون في الآخرة إليهما.. وكيف يتفق علم الله الأزلي الثابت على ذلك في
الحياتين؟
فأقول لكم: إن الله تعالى أخرج الناس إلى الحياة الدنيا على الفطرة طاهرين،
وجعل لهم بإرادته نظامًا يسيرون عليه بعد أن منحهم الاستقلال الذاتي والحرية،
غير أن هذا النظام ذو وجهين متضادين كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: ١٠) أي: الطريقين المتضادين: طريق الخير وطريق الشر في آن واحد،
ولما كانت الطبيعة الإنسانية متركبة بكيفية تلائم الطريقين المذكورين، غير أنها لا
يمكنها أن تسير إلا في طريق واحد فقط منهما ولو بالتناوب مرة هنا ومرة هناك
تبعًا لحرية الإنسان واستقلاله كالآية {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإِنسان: ٣) فكان ذلك داعيًا لانقسامهم أنفسهم مع أن الله تعالى لم يقسمهم من
قبل ذلك.. فتجد واحدًا يسير في طريق الخير دفعة واحدة، وآخر في طريق الشر
دفعة واحدة، وثالث (?) ينتقل بين طريق الخير والشر، مع العلم أنهم جميعًا في
إمكانهم أن يسيروا من طريق واحد دون أن يروا الثاني ولا يعلمون به، فتقسيمهم في
الأصل غير موجود بالمرة، ولكن النظام الموضوع أمام حريتهم هو المقسوم فقط،
وفرق بين قسمة النظام وقسمة النفوس التي تسير بحريتها على أي شكل كان، مما
في هذا النظام المعلوم لله من قبل خلق الناس أجمعين.
(١٧- علم الله الأزلي وسير الناس في الطريق) ربما تقولون مما ذكرته آنفًا:
إنه مادام الناس غير منقسمين من قبل سيرهم في أحد الطريقين. وإنهم يمكنهم جميعًا
أن يسيروا في طريق واحد من غير أن يروا الثاني.
إن علم الله تعالى الأزلي فيما يختص بسيرهم هذا غير ثابت من جهة
الواقع منهم ونفس الأمر، وإنَّه تعالى لا يعلم مَن مِن هؤلاء الناس سيكون في
الطريق الأيمن، أو من منهم سيكون في الطريق الأيسر، وجوابي على ذلك:
أنَّ كل ما يحدث مهما كان من عمل الإنسان الحر، كان معلومًا لله أزلاً قبل وقوعه
فعلاً بصفة عامة، لا تخصيص فيها لزيد من الناس، وأنَّه تعالى خلق الناس؛
ليسيروا في أحد طريقين متضادين أو في كل منهما على التناوب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) مع كونه يراقبهم بنفسه كل المراقبة {أَفَمَنْ
هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: ٣٣) فالمراقبة هي أساس العلم
بالتخصيص بأحد الطريقين أو المختار منهما في أي وقت بواسطة أي إنسان بتمام حريته.
ومن هذه المراقبة يعلم الله تعالى في أول وهلة ما خصص كل فرد لنفسه من
أحدهما مع كونهما وكل ما فيهما من أنواع الأعمال المختلفة معلومين لله تعالى
من الأزل كما مر. وكل هذا بالبداهة لا يزيد علم الله تعالى شيئًا ولا ينقصه
ما في شيئا وغاية الأمر أن الله تعالى خلق الناس في الأصل طاهرين وأخرجهم
في هذه الحياة الدنيا لغرض هو: ليعلم منهم من يسير في الطريق الأيمن بحريته
ومن منهم يسير في الطريق الأيسر؛ ولذا كانت المراقبة لازمة كالآية {إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: ١) ويؤيد ذلك ما يأتي.
أولاً - ما ذكره الله تعالى في الكتاب العزيز من أمر الفتنة أو الامتحان؛
لاختبار كل من يؤمن به تعالى حتى يعلم منه؛ إما الثبات نهائيًا على الإيمان أو
الزعزعة عنه عند الامتحان أو الفتنة المذكورة، كالآية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا
أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: ٢-٣) فالله تعالى يصرح في القرآن بنفسه بأنه
تعالى لا يعلم الصادق من الكاذب في الإيمان إلا بعد أن يفتنه ويجربه ويمتحنه؛
ليعلم منه قوة الخيار للإيمان والثبات عليه، أو التزعزع عنه بمطلق حريته الممنوحة
له منه. أما قولكم: إن ذلك علم انكشاف، فهو مردود؛ لأنه لا يوجد لله علم
مكشوف؛ لأن المعدوم والموجود في علم الله سواء.
ثانيًا - قال تعالى عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن
يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ: ٢١) أى:
إنَّه تعالى لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطة ما؛ ليحور (?) إرادته الحرة
الخصوصية من الإيمان إلى الكفر، بل هي وسوسة ضعيفة {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ
ضَعِيفاً} (النساء: ٧٦) أمرها بسيط، ولا تأثير منها، وممكن لكل إنسان
بحريته أن يتجنبها بما خلق الله تعالى فيه من عقل، وجعل له من إلهام.
والله تعالى لم يمنع الشيطان عن تلك الوسوسة للإنسان؛ إلا ليجعلها في من
الفتنة أو اللازم المقرر في نظام الله؛ ليعلم منها من يؤمن بالآخرة ممن هو
في شك منها. وأَنَّ هذا العلم لا يكون إلا بالمراقبة المذكورة؛ إذ بغير ذلك لا يكون
معنى للمراقبة التي مدلولها التأمل لانتظار وقوع فعل من شخص معلوم في
أحد (?) جهتين متضادتين.
ثالثًا - قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٤٣) فهو تعالى
يصرح هنا أنه لا يعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه منهم، قبل الفتنة
بالانقلاب عن القبلة ببيت المقدس إلى الكعبة إلا بعد حصولها.
وهنا لا يتوهم القارئ أن الله تعالى كان يجهل شيئًا أو يعزب شيء عن علمه.
كلا بل هو بكل شيء عليم؛ لأن الله تعالى كان يعلم أن ما خلقهم عليه من
نفس كاملة وعقل، يمكنهم بهما أن يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمطلق
حريتهم التي منحها لهم بلا أي مانع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى بحسب
الوضع الذي شكل به الخلقة الإنسانية كان يعلم عنهم في آن واحد أنهم يمكنهم
جميعًا أن لا يتبعوه صلى الله عليه وسلم بمطلق حريتهم، وفي الوقت نفسه كان يعلم
بالنتيجة التي سيجازيهم بها وتصيبهم في الحياة الدنيا والآخرة إن لم يتبعوه، ويعلم من
قبل أيضًا بالنتيجة التي سيجازيهم بها في الحياتين؛ إن لم يتبعوه. غير أن هذا العلم
المطلوب ليس انكشاف الفعل الواقع المطابق وحده للعلم السابق دون غيره؛ كما
يقول المنار. كلا.كلا بل هو علم تنقل إرادة كل منهم إلى أي جهة يرغب السير
بحريته في أحد الطريقين المتضادين المعلومين لله من قبل، وهما مفتوحان معًا في
كل وقت أمام كل إنسان، حتى يمده الله بعد ذلك بجزاء ما أراد , وهذا العلم بالطبع
لا يكون إلا بالمراقبة، كالآية {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: ٣٣) .
رابعا: أن خلق الله متساويين (؟) في بدء الخلقة وخروجهم إلى الدنيا للتنافس
في عبادة الخالق بحريتهم؛ هو كل الحق الذي كان الغرض منه وجود
العالم، كالآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (ص: ٢٧) ،
وكالآية: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقِّ} (الروم: ٨) .. فهل يعرف المنار ما هو هذا الحق؟ هذا الحق هو منح
المخلوقات ومنها الإنسان (الحرية) الكاملة في عبادة الله؛ وللسير في أحد
الطريقين المتضادين متحملاً نتائج أحدهما أو كل منهما بالتناوب على عاتقه بما
وهبه الله من عقل وشعور وإلهام مع تمام الاستقلال في الإرادة {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (الأنعام: ١٦٤) .
فإذا كان الناس مقسومين كما قلتم من الأصل وفي الدنيا، وإنَّهم سيعودون
على هذا التقسيم نفسه في الآخرة.. فإن الحياة الدنيا والخلق في الأصل والمبدأ
يصيران بذلك عملاً من الله باطلاً كل البطلان، لا علة ولا حكمة منه أصلاً.. بل
يكون أشبه بتسخير القادر للعاجز، ورحمة أناس وتعذيب آخرين بالاستبداد والقوة
دون غيرهما، مع أن الكل (إنسان) ومن نفس واحدة يشعر الواحد ويحس كما
يشعر الآخر، وهذا لم يعمله ولن يعمله الرحمن الرحيم.
ولا يشير إليه في كتابه الكريم، وإنما يشير إلى أن الكل مكرمون {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ} (الإسراء: ٧٠) ، ومخاطبون بالآية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) فلا قسمة في أصل الخلقة ولا تقسيم إلا في الآخرة، فإنها ستكون
طبقًا لما اكتسبناه بحريتنا من أحد النجدين المتضادين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: ١٠) لا طبقًا للمقسوم المحتوم {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (غافر: ١٧) .
خامسًا - قال تعالى في بعض الآيات: {وَلَمَّا ِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: ١٤٠) فهذا العلم بالإيمان يدل على وقوعه في المستقبل دون
الماضي. فهو لا يؤيد على الله الجهل، أو أنه علم انكشاف للواقع دون غيره،
كلا بل يدل على تنفيذ ما أراد الخالق أن يكون من نظام وضعه للإنسان بصفته
مخلوقًا سيفعل الخير أو الشر في آن واحد. والمطلوب علمه هو تقييد ما يختاره
الإنسان على نفسه من كل المعلوم لله أزلاً من كلا الطريقين.
فإذا فعل إنسان خيرًا من بدء حياته إلى مماته، ووقع ذلك فعلاً فقد كان هذا
الواقع معلومًا لله أزلاً بصفته معلومًا لا بصفته واقعًا لا محالة. ولكن بجانبه أيضًا
أن الله يعلم للشخص نفسه أن سيفعل الشر على نوع ما من بدء حياته إلى مماته
بصفته معلومًا لا بصفته واقعًا؛ غير أن هذا الإنسان اختار بحريته الأول وترك
بحريته الثاني، فصار هذا الأخير من المعلوم لله غيبًا، لا يظهره للشخص ولا
لأحد في العالم {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن: ٢٦) .
وبهذا وبغيره يثبت لكم أن الله تعالى لم يخصص من الأزل أناسًا للإيمان،
معلومين من قبل وجودهم وسينكشفون بالواقع. كلا بل كل موجود في الحياة أمامه
طريقان متضادان تحت حريته، يراقبه الله تعالى حتى يعلم منه في أي جهة عزم
بنفسه الثبات عليها، فكان تعلق العلم الإلهي عن كل إنسان دائمًا هو من جهتين
متضادتين في آن واحد، لا من جهة الواقع وحده كما قلتم، ولما كان الإنسان لا
يمكنه الجمع بينهما في وقت واحد، فعلم الله تعالى المطلوب؛ هو تخصيص أحدهما
للإنسان بإرادته وحريته الذاتية.. إذ أنَّ هذا هو الغرض الوحيد من الخلقة. ... ...
(١٨- تعلق العلم الإلهي - علم الله بالواقع وبضده في وقت واحد) قلتم في
صحيفة (٥٤١ ج ٧ م ١٢) : إنه متى وقع الشيء علمنا أن علم الله تعالى كان
متعلقًا بوقوعه؛ لأن علمه تعالى يكون دائمًا مطابقًا للواقع وإلا كان جهلاً..
وذلك محال) .
أما أنا فأقول لكم: إن علم الله تعالى يتعلق بوقوع الأشياء قبل حصولها في
أحوال مخصوصة يريدها الله تعالى بحق، كالآية: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن
نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل: ٤٠) ومثال ذلك وجود العالم قبل أن يوجد.. ولكن
بالنسبة للنظام الذي خلق الإنسان عليه، وأراد أن يسير بمقتضاه في هذه الحياة
بصفة عامة، فلا تعلق لوقوع الأفعال الإنسانية من قبل وقوعها؛ غير أنها معلومة
بشكلها التي وقعت عليه، إن وقعت مثل ضدها تمامًا بالنسبة لمن وقعت منهم
بالذات، وإن كان الضد الذي لم يقع صار في حيز العدم، ولكنه مازال معلومًا لله
تعالى في الغيب الذي لا ندركه ولا يريد الله أن ندركه؛ لأن هذا التعلق الذي
تقصدونه معناه: تحديد ما وقع فعلاً، مهما كان من أي عمل إنساني أنه كان في
العلم الإلهي واقعًا لا محالة قبل وقوعه دون غيره.. وهذا هو الخطأ المحض، بل
هذا هو الخلاف الذي بيني وبينكم في الغالب، ومنه أيدتم عدم فهمكم لكثير مما
ذكرت آنفًا (وسأشرح فيما بعد أن هذه النقطة نفسها هي التي فرقت الأمة الإسلامية
أحزابًا، وكانت أصلاً لسقوط الأمة الإسلامية في أيامها المتأخرة المظلمة) إذ
الحقيقة هي:
أولاً - أنَّ الواقع كان معلومًا لله تعالى مثل كثير من أنواعه وأضداده؛ بالنسبة
لمن وقع منه الشيء نفسه في وقت واحد، وغاية ما في الأمر أن الواقع تخصص
لفاعل الشيء من ضمن أنواع كثيرة كانت مفتوحة أمام حريته لتنفيذ واحد منها في
وقت واحد، وأنَّ هذا التخصيص هو الذي كان يراقبه الخالق ليعلمه (راجع ١٧
علم الله الأزلي وسير الناس في الطريقين) ؛ لأنه تعالى أراد أن يكون هكذا النظام
الإنساني في العالم، كما قال تعالى {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: ١٤٠) فإذا كان علم الله تعالى معلقًا من
الأزل بمن يؤمن؛ أنه سيؤمن في وقت كذا قبل وقوعه، ومن يكفر أنه سيكفر في
وقت كذا، فما الداعي لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران:
١٤٠) ؟ وأيضًا - لماذا يتخذ منا شهداء أي شاهدين على من كفر به بحريته
للمحاكمة في الآخرة؟ اللهم إلا لأن الناس كلهم في نظر الله سواء. وأنه تعالى فتح
أمام كل إنسان طريقين متضادين، فلا يعلم الله تعالى أنه آمن إلا في حال إيمانه،
ولا يعلم الله تعالى أنه كفر إلا في حال كفره. وأَنَّ حكم الواقع عند الله في العلم هو
كحكم المعدوم سواء بلا فرق وإن كان ذلك يعجز عنه عقل الإنسان {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} (الشورى: ١١) .
ثانيًا - عثرت في الكتبخانة الخديوية على رسالة في التوحيد بخط نسخ للإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه (مجموعة نمرة ١٢٧ ن ع ٢٣٧٢) يقول فيها ما يأتي:
لم يجبر الله تعالى أحدًا على الكفر، ولا على الإيمان، ولا خلقهم مؤمنًا ولا كافرًا،
ولكن خلقهم أشخاصًا، والإيمان والكفر فعل العباد، يعلم الله تعالى من يكفر في حال
كفره كافرًا , فإذا آمن بعد ذلك علمه مؤمنًا في حال إيمانه، وأحبه من غير أن يتغير
علمه وصفته، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على
الحقيقة اهـ) .
فافتكر أن مدلول ذلك وإن كان مجملاً، ولم أطلع على تفصيل له في كتاب
آخر، فهو يطابق في الغالب لتلك المبادئ التي أذكرها الآن وأؤيدها.
ثالثًا - ما يدلكم على أن علم الله تعالى بالنسبة للعمل الإنسان ? لا يتعلق بالواقع
وحده، بل يعلم به وبضده في آن واحد بلا فرق - مخاطبة الله تعالى للكافرين يوم
القيامة؛ أو ذكر أحوالهم التي سيقولونها بأنفسهم بعد أن يبصروا كل شيء على
حقيقته كالآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} (الأنعام: ٢٧) فهذا يدلك على أن الحال الذي كانوا
فيه في الدنيا وقد كفروا بالله، كان ممكنًا لهم أن يؤمنوا فيه بدل الكفر بلا أي مانع،
حتى يكون الكفر بعيدًا عنهم في العدم، كما صار الإيمان الذي يتمنوا (?) أن لو
ردوا إلى الحياة لاعتنقوه (?) .
ولا يخفى أن ذكر الله تعالى لمثل هذه الأمثال لم يكن عبثًا، بل لغرض أن نعلم
أن علمه تعالى لم يكن معلقًا بالكفر الذي كفروه فعلاً، ويعذبون لأجله في الآخرة؛
لأن معنى التعليق يدل على إرادته الذاتية في لزوم الكفر منهم، ولو باختيارهم
الذي تفرضونه مع وجود هذا التعلق، مع أن الله تعالى يتبرأ من ذلك {وَلاَ يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} (الزمر: ٧) وإنما كان يعلم عنهم الإيمان كما يعلم عنهم الكفر
في آن واحد بكيفيتهما المتضادة، ثم استمر الله تعالى في مراقبته لهم، حتى علم
منهم أنهم اختاروا الكفر بحريتهم بدل الإيمان نهائيًا، فجازاهم بالنار حقًا، والرد
إلى الحياة الدنيا من الآخرة مستحيل؛ لأن هذه الحياة الدنيا حق أيضًا، وأَنَّ ما
فعلوه فيها صار حقًّا، حتى طبعوا أنفسهم عليه بحريتهم لا من أصل خلقتهم الأولى،
كما أن النار في الآخرة هي الجزاء الوحيد {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:
٤٦) .
رابعًا - ما هو أظهر من الآية السالفة، قوله تعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (الأعراف: ٥٣) فإن العمل الذي
عملوه من الكفر والفساد صار واقعًا في الدنيا، حتى عذبهم الله عنه في الآخرة،
وإن هذا الواقع نفسه علموا عنه في الآخرة {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: ٢٢) أنهم كانوا قادرين على عمل غيره أو ضده في الوقت الذي
عملوه فيه، حتى كان يمكنهم أن يجعلوا الذي عملوه في العدم والضد مفعولاً. وكل
ذلك يؤخذ منه أن علم الله تعالى لم يكن معلقًا بما فعلوه وحده، بل كان يعلمه تعالى
كما يعلم بضده عنهم في آن واحد، وبمراقبة الله تعالى لهم علم ما اختاروه بتمام
حريتهم من الكفر، فكان لهم الجزاء حقًّا بتعذيبهم في النار {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: ١١٨) .
ولو أردنا أن نحصر كل الآيات القرآنية التي تدل على ما ذكرناه لأخذنا وقتًا
طويلاً؛ غير أني أذكر من أشهر هذه الآيات قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر: ٢) ، ومنها: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ} (المنافقون: ١٠) ، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:] يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [، ومنها قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ} (المؤمنون: ٩٩-١٠٠) ، ومنها أيضًا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (الفجر: ٢٤) ، ومن ذلك أيضًا: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} (إبراهيم: ٤٤) ... إلخ إلخ.
(١٩ - مثالان عن علم الله الأزلي وعمل الإنسان) أخشى أن تقولوا:
إن ما ذكرته معسلطًا (?) يصعب فهمه، فاحتياطًا لزيادة الإيضاح أذكر
لكم مثالين:
الأول: افرض يا صاحب المنار، أنك أصبحت غنيًّا ومالكًا لمحل (ستين)
الشهير الموجود بالموسكي بمصر، وهذا المحل كان فيه من أنواع البضاعة ما يبلغ
عدده المليون من الأصناف، ثم وضعت هذه البضاعة في دواليب بترتيب منظم،
وكل صنف عليه نمرته مكتوبة. فالبضاعة المكتوب عليها نمر فردية من ١ و٣و٥
إلخ إلى المليون، مكتوب عليها أيضًا أنها بضاعة جيدة. والمكتوب عليها نمر
زوجية من ٤٢ و٦٤ إلخ بضاعة رديئة.
ثم أحضرت أربعة رجال من رجال إدارة المنار، وقلت لأولهم: إن لك في
هذا المحل عشر نمر من ١ إلى ١٠، وإلى الثاني من ١١ إلى ٢٠، وإلى الثالث
من ٢١ إلى ٣٠، وإلى الرابع من ٣١ إلى ٤٠، ثم دخل الأربعة رجال في
المحل متمتعين بحريتهم، وأخذ كل منهم نمره المقررة له منكم من قبل , فهكذا
تقولون أنتم عن علم الله الأزلي بإزاء عمل الإنسان في الدنيا حال وقوعه , فإنكم
قبل أن يأخذ الأول نمره من ١ إلى ١٠ كنتم تعلمون بذلك، ولما أخذها صار الواقع
منه مطابقًا لما كنتم تعلمون من قبل، وحاشا أن يكون فعل الله مشابها لذلك.
الثاني: قلب هذا المثال بشكل آخر مع ثبوت النمر التي تعلمها من أولها إلى
آخرها، وثبوت الرجال أنفسهم , وافرض أنك أعلنت هؤلاء الأربعة بأن لكل منهم
عشر نمر في كل النمر الموجودة بالمحل، من غير أن تخصص لهم نمرًا محددة
كما فعلت في المثال الأول، بل اشترطت أن لكل منهم أن يقلب في المليون نمرة
الموجودة، ويأخذ عشرًا منها كلها , فهل يمكنك بعد أن أدخلتهم في هذا المحل على
هذا الشرط أن تخبرني إن كنت تعلم ما هي العشر نمر التي سيأخذها الأول، أو
الثاني، أو الثالث، أو الرابع، قبل أن يضع يده بالفعل على واحدة منها. الجواب:
لا تعلم ذلك إلا بعد أن يضع كل منهم يده على كل منها؟ . ولكن هل ذلك
غيَّر شيئًا في النمر المعلومة لك كلها، أو غير الرجال، أو أنقص شيئًا من
معلوماتك بخصوصهما ?
الجواب: كلا , فهكذا أقول عن الخالق سبحانه: إنه أخرجنا في هذه الحياة
على مثل هذا الغرض، وفتح للجميع طريقين متضادين فيهما من أنواع الأفعال ما
يعجز عنه الحصر، والكل يعرفها، ويميزها العقل الإنساني، وكان هذا سر قوله
تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: ٣١) ثم خاطب الجميع بقوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) فلا عين شقيًّا ولا قيد
سعيدًا، وهو تعالى لذلك لا يعلم المؤمن إلا في حال إيمانه، ولا الكافر إلا في حال
كفره، والكل أمام ألوهيته في الأصل (إنسان) وهنا لا يقال: إن الله تعالى جهل
شيئًا؛ لأن العلم المطلوب لله هو تخصيص المعلوم أزلاً لمن يختاره؛ عوضًا عن
تعميمه الذي كان عليه قبل هذا الاختيار، وكان ذلك بناء عن إرادة الله الذاتية في
وضع الإنسان على هذا النظام من الأزل، وكل ذلك بالبداهة للمتأمل المدقق لا يزيد
علم الله شيئًا ولم ينقصه، مادام الله تعالى قائمًا بالمراقبة، ولذا كان الله من الأزل
إلى الأبد بكل شيء عليم (?) .
(٢٠ - أدوار الخلقة الإنسانية أمام العلم الإلهي) ينقسم الإنسان إلى ثلاثة
أدوار أمام العلم الإلهي: الدور الأول ويُبْتَدَأ من بدء الكون إلى وقت الولادة. وفيه
جميع الناس سواء، فلا شقي ولا سعيد.
الدور الثانى: الحياة الدنيا وفيها كل إنسان بين السعادة والشقاء، فلا شقي ولا
سعيدًا إلا عند الوفاة.
والدور الثالث: الآخرة وفيها الناس فريقان: فريق في الجنة، وفريق في
السعير) .
فإذا فرضنا أن الآخرة تجسمت أمامنا، ونظرنا بالعين أشخاص كل فريق،
ووجدنا الشخص (ج) من فريق الجنة، والشخص (س) من فريق السعير.
فأقول: إن كلا منهما صار كذلك؛ طبقًا لما سير نفسه فيه بحريته في الحياة الدنيا،
وليس لكونه كان مكتوبًا من الأزل شقيًّا أو سعيدًا، فلا يوجد في علم الله الأزلي أن
(ج) هذا، سيكون بالذات والواقع سعيدًا ليس إلا، ولا أن (س) هذا سيكون
شقيًّا ليس إلا، وأَنَّ العلم الأزلي هو أن كلا من (ج) و (س) شخص طاهر
مكرم، لا شقاء له ولا سعادة إلا بعد أن يولد في الحياة الدنيا، سيسير فيها بحريته
على نظام ذو (?) وجهين متضادين فيهما السعادة والشقاء، يراقبه الله تعالى عند
اختيار واحد منهما، فيعلم له تعالى وقتها من فعل (ج) أنه سيكون في الآخرة
سعيدًا، ومن فعل (س) بحريته أنه سيكون في الآخرة شقيًّا، وأنَّ الطريق الذي
سار فيه (ج) في الدنيا وبه صار سعيدًا في الآخرة، كان مفتوحًا في الوقت نفسه
أمام (س) أيضًا، وأنه كان يمكنه أن يسير مع (ج) فيه جنبًا إلى جنب، وأن
يجتمعا في الآخرة في الجنة.
وبالعكس فإن الطريق الذي سار فيه (س) في الدنيا بحريته وبه صار في
الآخرة في السعير، كان مفتوحًا أيضًا في الوقت نفسه أمام (ج) في الدنيا، وإن
الأخير كان يمكنه السير فيه مثل (س) وأن يكون معه جنبًا إلى جنب حتى يجتمعا
(؟) معًا في السعير، وكل ذلك لا يغير شيئًا من علم الإله الأزلي.
(٢١ - الله أول ملك دستوري في العالم) . قال تعالى في الكتاب العزيز:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} (الناس: ١-٣) فصرح تعالى
في هذه الآية؛ أنه ملك الناس وإلههم. وهنا أسأل صاحب المنار، ما هي نوع
الحكومة التي يحكم الله تعالى بها النوع الإنساني بصفته ملكًا عليهم؛ كما صرح في
هذه الآية الكريمة؟ فإذا كانت نوع الحكومة الإلهية مجهولة لصاحب المنار، فإني
أقول له: إنها هي الحكومة التي تعشقها وتتلهف على وجودها الآن جميع الأمم،
ويسفكون لأجلها دماءهم وأموالهم للحصول عليها ألا وهي: (الحكومة الدستورية)
فإن الله تعالى يحكمنا بالدستور الأزلي لا بغيره، وهو جل شأنه مع مطلق قدرته
وأوسع علمه، لم يشأ أن يحكم الناس إلا حكمًا دستوريًّا عادلاً؛ لنتعلم من ذلك.
ومما هو مسطور في القرآن الحكيم عن هذا الحكم ما نجعله أساسًا في أعمالنا
وأحكامنا الدنيوية حتى يقام العدل، وتحيى الأمم على أساس رصين، وكفى الإنسان
شرفًا أن يكون هو الوحيد خليفة الله في الأرض؛ ليعمل في حكمه كعمل الله،
كالآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) .
ولما كان الله تعالى هو الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء علمًا تامًّا، كان هو
وحده الذي أسس هذا الدستور دون غيره، وهو الذي يرتاح لعدالته كل مخلوق في
الأرض والسماء ارتياحًا تامًّا؛ لأنه صدر هذا القانون بالرحمة، وفيه {كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: ١٢) وكان الأساس الثاني لهذا الدستور؛ هو منح
المخلوقات (الحرية) الكاملة بعد وجودها في الدنيا؛ لتعمل بها كل ما في وسعها
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) ، وأنه تعالى لا يمس هذه
الحرية في هذه الحياة مهما فعلت تلك المخلوقات من صالح أو إساءة، إلا أن يمدها
بجزاء ما تفعل بالرغم عنها جزاء عادلاً ليس إلا طبقًا لما في القانون المذكور
الموافق لتقلب الطبيعة الإنسانية، {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الصافات: ٣٩) ، وبمقتضاه صار {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: ٤٦) ولهذا تنزه عن الحكم الاستبدادي المجهول نظامه، وتحلى بالكمال
المطلق والعدل والرحمة؛ لأن كل ما يحدث في الأرض والسماء كتب في هذا
القانون {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن
نَبْرَأَهَا} (الحديد: ٢٢) ، (أي: نخلقها) {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:
٢٢) وبه يصيبنا في الحياة الدنيا والآخرة بجزاء الخير أو الشر طبقًا لأعمالنا وما
يناسبها من بنوده العادلة.
فإن فرضنا مثلا أن المادة ٣٥ من قانون ما في حكومة السودان؛ أن من
يسرق كذا بالطريقة كذا فإنه يجازى بكذا وبكذا. فطبعًا هذه المادة تسري على جميع
الناس الذين يشملهم هذا القانون بلا استثناء، وما على الحكومة إلا أن تراعيهم
وتراقبهم، حتى إذا وقع واحد مرتكبًا ذنبًا، تنطبق عليه هاته المادة تجازى (؟)
بما فيها تمامًا , وهكذا نقول عن النظام الذي كتبه الخالق على الناس بصفته ملكًا
دستوريًّا عادلاً عليهم، فقد كتب قانونًا لمجازاتهم بالخير أو الشر في الحياتين تبعًا
لارتكابهم خطأ أو عملهم خيرًا؛ طبقا لبنوده العامة العادلة، ولذا كان رقيبًا على كل
نفس لتنفيذه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: ١) .
(٢٢- الفرق بين فهمي وفهم صاحب المنار في القسمة) صاحب المنار يفهم
من المثال الأخير السالف عن المادة ٣٥ من قانون الحكومة أن الشخص (ج) مثلاً
إذا ارتكب جناية السرقة بكيفية تنطبق عليها، قال: إن الحكومة السودانية عندما
سنت قانونها كتبت فيه هذا الشخص، وإنه سيسرق في وقت كذا. وسيجازى بكذا
قبل أن يحصل منه ذلك، وقبل أن يقبض عليه بسنين عديدة: ولما وقعت منه
السرقة، قال: إن ما حصل فعلاً منه، كان مطابقًا لعلم الحكومة؛ لأن الواقع دائمًا
يكون مطابقًا للعلم؛ وبمثل ذلك القسمة وعلم الله. أما أنا فأقول: يا صاحب المنار،
إن علم الحكومة ليس كما تزعم، إن علم الله تعالى وإن كان يحيط بكل شيء،
ولكن ليس كما تتوهم؛ لأن الحقيقة هي غير ذلك؛ لأن الحكومة كتبت في قانونها ما
يناسب أخلاق كل الناس وأعمالها، من غير أن تخصص عملاً فالشخص معلوم.
وإنها لا تعلم أن هذا السارق بالذات سيسرق في هذا اليوم، ولا تعلم أنه سيأخذ هذا
الجزاء؛ لأن ذلك ليس هو القانون المعلوم عند الحكومة، بل قانون الحكومة عام
على الجميع، وإن أخلاق الناس تتقلب بين الخبيث والطيب بحريتها. وإن القانون
مذكور فيه كيفية السرقة وأنواعها التي يمكن أن تحصل منه كما تحصل من خلافه.
وأمام ذلك الجزاء على كل نوع منها، وليس على الحكومة إلا مراقبة الرعية؛
لتنفيذ ما هو معلوم لها من قبل في بنود هذا القانون، فإذا كان الشخص (ج)
ارتكب جناية السرقة، وكانت تنطبق على المادة ٣٥ تجازى (؟) بمنطوقها أيضًا،
وبالعكس إذا عمل عملاً صالحًا ذكرته الحكومة في القانون أيضًا، وكانت له مكافئة
كافأته بها.
وبديهي للمطلع أن الفرق بين القصدين؛ كالفرق بين السماء والأرض، أو
هو كالفرق بين حكومة الدستور وحكومة الاستبداد. ولكن صاحب المنار يقول في
(صحيفة ٥٤٣) : (لست قادرًا على تصور فهمه للمسألة، ولا فهم وجه الإشكال
التي كانت به أقتل أدواء المسلمين عنده، فأحل له ما أحكم من العقد في خياله) فإذا
كان صاحب المنار للآن لم يفهم وجه الإشكال، فليتصور الآن الفرق بين المقالين
السالفين، وليعلم مما ذكرناه وما سنذكره على هذا الإشكال على وجهه الحق، فإن
الحق والباطل لا يجتمعان {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) .
(٢٣- لا قسمة معينة لشخص معين في الأزل) يقول صاحب المنار صحيفة
٥٤٥: أما علم الله تعالى فهو قديم بقدمه أزلي بأزليته؛ فالقسمة فيه أزلية أيضًا،
وأقول: أما علم الله تعالى بكل ما كان وما سيكون فأمر بديهي مسلم به. ولكن قسمة
الأشخاص من أن هذا الشخص بالذات شقي في العلم الأزلي، وذاك بالذات سعيد
أزلاً، أمر لم يفعله الخالق ويتبرأ منه القرآن.
نعم.. نظام الشقاء الإنساني أو السعادة الإنسانية معلوم لله تعالى أزلاً،
ولكن هذا النظام سينفذ على بني الإنسان الذين أراد لهم الخالق أزلاً أن يكونوا
خلفاءه في الأرض بلا فرق بين إنسان وآخر، فيطبق الله هذا النظام العام على
أعمالهم الحرة المعلومة له من قبل أن يكونوا بصفة عامةً، فبعضهم سيكون بهذا
النظام شقيًّا تبعًا لحريته، والبعض سيكون به سعيدًا بحريته أيضًا؛ طبقًا لبنوده
المكتوبة قبل العالمين {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: ٧٠) فهذه الآية
الكريمة تؤيد أن خير الله تعالى المطلوب إعطاءه لهؤلاء الأسرى متوقف على تغيير
ما في قلوبهم، وأنَّ المعلوم لله تعالى وقت نزول هذه الآية من قلوبهم هو عدم الخير
أو ضعف الإيمان به أو الكفر، فإذا غيروه بحريتهم التي لا يمسها الخالق في هذه
الحياة إلى خير أو إيمان، أصابهم الله تعالى بعد ذلك بخير أحسن مما أخذ منهم وقت
الحرب من مال أو أبناء؛ وأنَّ علم الله تعالى بخير قلوبهم هذا متوقف على إرادتهم
الحرَّة؛ لأنه هكذا أراد الله تعالى أن يكونوا بتمام الاستقلال في إرادتهم؛ ليغيروا ما
في قلوبهم، كالآية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وهذا دليل كاف على أن الله تعالى ينفذ جزاءه أو قسمته طبقًا
لإرادتنا الحرة في اختيار نوع من الأعمال. وليس طبقًا لكونها هي والأفعال كانت
مقسومة في الأزل بالذات، حتى يكون الواقع مطابقًا للعلم دون غيره - كلا - بل
الواقع وضد الواقع في العلم عند الله سواء، ولذا قال تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} (الإسراء: ٨) فإن قول الله تعالى للكافرين {وَإِنْ عُدتُّمْ} (الإسراء: ٨) دليل
على عدم الممانعة لهم من الله في الإعادة لفعل ما كانوا عليه من الفساد والكفر، ثم
قوله تعالى {عُدْنَا} (الإسراء: ٨) أي: عدنا بعد ذلك بالانتقام تبعًا لما ستفعلوه
(؟) إن وقع منكم في نظير كفركم كما انتقم بمثل ذلك قبلاً، فإذا كانت لهم قسمة
من الأزل معلومة، ما كان هذا التعميم البين الذي يدل - كما قلنا - على عدم كتابة
شيء مخصوص، أو منح قسمة مخصوصة لأحد من الناس في الأزل، وبمثل ذلك
قوله تعالى: {وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ} (الأنفال: ١٩) وهذا يشبه بلا تمثيل إلى أن
شخصًا من أفراد الحكومة ارتكب جريمة تتناسب مادة (٩٥) مثلاً من قانون
العقوبات، فكلما يرتكب جناية تناسب هذه المادة عاقبته الحكومة بمضمونها، فإذا
عاد وارتكب نفس الجناية، أعادت معاملته بالمادة نفسها، وهكذا فقول الله تعالى:
{وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ} (الأنفال: ١٩) أي: إن تعودوا لفعلكم الذي به تجازيتم (؟)
بمقتضى القانون الإلهي؛ نعد لمثل هذا الجزاء عليكم (؟) بالثاني؛ فأنتم
أحرار فيما تفعلون. فبذلك وبغيره قلنا: (إن الله تعالى أول ملك دستوري في
العالم) لشحن القرآن الحكيم من أمثال هذه الآيات الواضحة كالآية: {فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكِتَابِ} (الأعراف: ٣٧) أي: إن كل من يكذب على الله من بني الإنسان يناله الجزاء
المناسب؛ لكذبه مما في الكتاب الذي هو قانون الله العادل، وبالطبع يختلف
الجزاء باختلاف درجة الكذب أو التكذيب، وكل ذلك يدل على عدم قسمة النفوس
في العلم الأزلي، بل النظام هو المقسوم والله بكل شيء عليم.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... أحمد بدوي النقاش
... ... ... ... ضابط بالجيش المصري بالسكة الحديد السودانية

(جواب المنار)
الآن قد جاء هذا الكاتب الفلسفي بما لم يَأْتِ به من قبل، ولا يفهم من سؤاله
عن القضاء والقدر، ولا من رسالته في إنكار عقيدة قسمة الخلق إلى سعداء وأشقياء
وهذا الشيء الجديد هو اعتقاده أن الله تعالى لا يعلم ما يكون من أعمال عباده إلا
بعد وقوعها، فلا أدري؛ أكان على هذا الاعتقاد من قبل، وكان هو الذي يريده من
كلامه السابق، فقصرت عبارته عن بيانه، أم حمله الحرص على الإتيان بشيء
جديد في الدين على هذا المركب الصعب. بعد أن سددنا في وجهه باب الاعتراض
على عقيدة القدر وعقيدة القسمة؟
لا أناقشه في كل ما أخطأ به في هذه الرسالة؛ لئلا يتشعب الكلام ويطول،
بل أخص الكلام في مسألة العلم الإلهي، بعد أن أبين له بالإيجاز فقرة لم يفهم
مرادي منها، وبنى على فهمه خلافًا طفق يحتج لرأيه فيه بالآيات وغير الآيات.
تلك الفقرة هي التي تكلم عنها في المسألة ١٥، وهي قولنا: (وإنه بدأهم على هذا
ويعيدهم عليه) ففهم من هذا أنني أعني بهذا أنه تعالى خلق كل فرد من أفراد البشر
إما شقيًّا غير مستعد في فطرته لعمل الخير الذي يكون به سعيدًا، وإما سعيدًا
مطبوعًا على الخير في أصل فطرته لا يستطيع غيره.
هذا رأي يمكن لمن يقول به أن يستدل عليه بالمشاهدة وببعض النصوص،
كما يمكن لمعارضه أن يستدل. ولكنه لم يكن هو الذي عنيته بتلك الفقرة، بل
عنيت بها حال جميع البشر (لا كل فرد منهم) في الحياة الدنيا من أولها إلى
آخرها وحالهم في الحياة الآخرة، وهما الحالان اللتان يعبر عنهما علماؤنا بالمبدأ
والمعاد. وقد قال تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلالَةُ} (الأعراف: ٢٩-٣٠) فهذا ما أعنيه، وهو مشاهد في أمر الدنيا،
وأمر الآخرة مرتب على أمر الدنيا، فلا خلاف بيننا في هذا، ولله الحمد.
إن الضابط أحمد أفندي بدوي النقاش يريد أن يثبت أن الإنسان خلق حرًّا
مختار مستقلاً في أعماله تمام الاستقلال، وأنه مالك لأسباب سعادته وشقائه
ملكًا تامًّا، وأنَّ هذه الحرية والاستقلال والملك لا يعارضها شيء من سنن الفطرة،
وليس للخالق فيها فعل، ولا لإرادته عليها سلطان، ولا لعلمه بها تعلق، إلا أن الله
تعالى يعلم ما عمل الإنسان بعد وقوعه. وهذا مذهب لم يقل به فيما نعلم أحد من
البشر المِلْيِّينَ ولا غير المِلْيِّينَ. بل الذي عليه المحققون من فلاسفة هذا العصر
أقرب إلى مذهب الجبرية من المِلْيِّينَ، كما بينا ذلك من قبل.
إن العلم الإلهي يتعلق بالمعلومات تعلق انكشاف، لا تعلق خلق وإيجاد وإلزام
وإجبار، فهو لا يعارض مذهب صاحبنا الجديد أو فلسفته الغريبة، فما الذي
حمله على إنكار علمه تعالى للغيب، وتمحله لإثبات ذلك بالآيات الناطقة بابتلاء الله
الناس، وتعليله ذلك بقوله: (لنعلم) ، وقوله: (ليعلم) [*] وقد فسرنا أمثال هذه
الآيات بما يطابق الدلائل العقلية على إحاطة علم الله تعالى، والآيات الكثيرة الناطقة
بعلمه للغيب، ومنه أعمال البشر قبل وقوعها، والآيات الكثيرة المبينة لبعض تلك
الأعمال قبل وقوعها.
ورد وصفه تعالى بعالم الغيب والشهادة في (الأنعام والتوبة والرعد والمؤمنون
والم السجدة والحشر والتغابن) ووصف بعلم الغيب فقط في سور أخرى، فبأي
سلطان يتحكم أحمد أفندى بدوي في علمه تعالى للغيب، فيستثني منه أفعال الناس
وهو تعالى يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ
بِمَا شَاءَ} (البقرة: ٢٥٥) أي: يعلم ما يكون أمامهم من مستقبل أمرهم، وما كان
من ماضيهم، فهو محيط بكل شيء من أمرهم، وهم لا يحيطون بشيء من علمه
إلا بما شاء؛ لأنه هو واهب العلم للإنسان، وواهب كل شيء يتمتع به، وقال
أيضًا بعد ذكر خبر القيامة، وهي من علم الغيب: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠) فهل أحاط أحمد بدوي علمًا، فحدد ما يتعلق
به علمه، وما لا يتعلق به؟ ؟
ألم يخبر الله تعالى نبيه ببعض أقوال الناس وأعمالهم قبل وقوعها، كقوله عز
وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} (البقرة: ١٤٢) وقد
صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ
آبَاؤُنَا} (الأنعام: ١٤٨) الآية، وقد صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ لَكَ
المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: ١١) وقد صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ
إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن
تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (الفتح: ١٥) ، وقد صدق الله عز وجل فقالوا ذلك، وكانوا يريدون به ما أخبر
تعالى أنهم يريدونه.
ومن إخباره جل جلاله بأعمال الناس قبل وقوعها في الدنيا، قوله وسع كل
شيء علمه، بعد الآية الأخيرة التي ذكرناها آنفًا من سورة الفتح: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (الفتح:
١٦) وقد كان ذلك؛ وقوله تعالى مبشرًا في هذه السورة بفتح مكة، وكان النبي
(صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في منامه {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} (الفتح: ٢٧) الآية، وكان ذلك كما قال عز وجل، وقوله: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ
* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ
* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ١-٦) وقد
صدق خبر الله تعالى ووعده في الموضعين، فغلب الروم في بضع سنين، وفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله إياهم على المشركين، كما هو مبين في محله.
ويدخل في هذا الباب ما بشر الله به زكريا بيحيى، وما بشر به مريم وذكره
من وصف ولدها وأعماله قبل ولادته، ومن إخباره تعالى شأنه بأعمال الناس
وأقوالهم في الآخرة، قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الجِنِّ
وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: ٣٨) إلى الآية ٥٠ منها،
وليتدبر أحمد أفندي البدوي قوله تعالى بعد ذلك:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} (الأعراف: ٥٢) ومن قبيل آيات
سورة الأعراف في تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم؛ آيات سورة
الصافات كقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (الصافات: ٢٧) ...
إلخ، وهي في تخاصم أهل النار، وقوله في حوار أهل الجنة بينهم ثم اطلاعهم على
أهل النار ومخاطبتهم إياهم {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ
إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ} (الصافات: ٥٠-٥٢) .. إلخ
الآيات، وفي سورة (ص) شيء من تخاصم أهل النار، وفي سورة الحديد نبأ
عما يكون من التحاور في الآخرة بين المنافقين والمؤمنين.
أفنسيت أيها المنكر لعلم الله تعالى بأعمال الناس قبل وقوعها هذه الآيات كلها،
أم تجد لها تفسيرًا برأيك تحرفها به عن مواضعها، كما حرفت غيرها بسوء الفهم لا
بسوء القصد كما هو الظن فيك، ولولاه لما نشرنا رسالتك، ولما طمعنا في
هدايتك، فراجع نفسك، واستغفر ربك، ولا تغتر بعد برأيك، واعلم أن هذه الزلة
التي زللت، لا تتفق مع الإيمان الصحيح الذي يعتد به المسلمون، ومن فضل الله
عليك أن كنت على هذا الشذوذ الفاحش مؤمنًا بالقرآن، متأولاً له، وهذا هو محل
الرجاء فيك، والطمع في رجوعك إلى الحق، إذا كنت غير مغرور بنفسك.
وهناك نوع آخر من إخباره تعالى عن مستقبل بعض الناس، منه الإخبار
بعدم إيمان أناس مخصوصين، كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على إيمانهم
والحجة فيه مزدوجة، فهو حجة على علمه تعالى بغيب الناس، وحجة على أن من
الناس من يختم الله على قلبه، فيفقد الاستعداد للإيمان والحق والخير , ومن ذلك
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة: ٦-٧) إلخ وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف: ٥٧) .
ولو شئنا لانتقلنا من هنا إلى موضوع تكثر فيه الآيات الناقضة لمذهبه في
الاستقلال التام والحرية المطلقة التامة للبشر في أفعالهم؛ كإسناد أعمالهم إليه تعالى
وتقييد مشيئتهم بمشيئته، فمنها: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ
بِغَيْرِ الحَقّ} (الأعراف: ١٤٦) ، {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ القَاعِدِينَ} (التوبة: ٤٦) ، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة:
٢٦) ، {فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) ، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (الجاثية: ٢٣) ، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف:
١٨٢-١٨٣) ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: ٣٠) ، {قُلْ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: ٧٨) ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (البقرة: ٢٥٣)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: ٤٨) ?، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الهُدَى} (الأنعام: ٣٥) ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ} (يونس: ٩٩) ، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) ، {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا
كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: ١٣) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ
مَا شَاءَ اللَّهُ} (يونس: ٤٩) ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظاًّ فِي الآخِرَةِ} (آل عمران: ١٧٦) ، {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة: ٤١) ، {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ} (الأنعام: ١٢٥) ، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} (يونس: ١٠٧) ، {لَيْسَ
عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: ٢٧٢) ، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (البقرة: ٢٥٨) ، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (المائدة:١٠٨) .
وأمثال ذلك كثير، وما كنا نحب أن نشير إليه في موضع لا يتسع لإبطال ما
فهمه الجبرية منه، على أننا قد بينا ذلك في التفسير وفي مواضع أخرى، لا يمكن
لأحمد أفندي بدوي أن يستغني عما ذهبنا إليه في تفسيرها، وهو أن مشيئة الله
تعالى وإرادته جارية على سنن حكيمة هو الذي وضعها لنظام العالم، ومنها أن
للإنسان علمًا بما يفعل، وإرادة ترجح بعض الأعمال الممكنة المستطاعة له على
بعض، واستقلالاً ما في عمله الاختياري أي: الذي يعمله.
وجملة القول أن الفرق بين اعتقادي وهو اعتقاد جميع المسلمين، وبين اعتقاد
أحمد أفندي بدوي؛ أننا نحن نؤمن بأن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم ما
يعمله عباده قبل أن يعملوه وبعد أن يعملوه، لا يتقيد علمه بالزمان، وأنه يعلم ما
سوف يجازي به جميع الناس في الآخرة، كما يعلم جميع ما يصيبهم من البلاء في
الدنيا قبل وقوعه وبعده بلا فرق، وأَنَّ الجزاء على الأعمال إنما يكون بحسب
تأثيرها في الأرواح وتزكيتها للنفوس أو تدسيتها لها، كل ذلك مما يحيط به علمه
وتنفذ فيه مشيئته بحسب علمه، وأَنَّ هذا كله لا ينافي ما منحه الله للناس من اختيار
واستقلال، بل هو مرتب عليه والمنحة وآثارها من فضله بمحض إرادته.
وأما أحمد أفندي بدوي فهو يعتقد أن الإنسان خارج في أفعاله عن محيط علم
الله تعالى ومشيئته، مستقل تمام الاستقلال، ليس لله عليه سلطان في أفعاله،
وأنه سبحانه وتعالى عما وصفه به؛ كحكومة السودان في أمر الجزاء وضع
قوانين، وهو لا يعلم من يعمل بها ومن لا يعمل، ولكنهم بعد أن يعملوا يطلع على
عملهم فيجازيهم عليه! ! ! هذا ما يريد أن يصلح به هذا الجندي دين المسلمين،
هذا هو التحقيق الذي فاق به الأولين والآخرين، وما هو إلا ضلال مبين، فعسى أن
يرجع عنه ولو بعد حين. ...