للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تبصرة وذكرى لقوم يعقلون
في بيان أن سعادة الأمة في التهذيب

تلك آيات من الحكمة، تتلى على مجتمع هذه الأمة، تنبه فكر الناسي، وتبعث
همة الآسي، وشذرات من معدن العلم السماوي، تُهْدَى إلى معمل الفكر الإنساني،
ليصوغ منها عقودًا، ويضرب منها نقودًا، تتحلى بها أجياد العقائل العواطل،
وتعامل بها أكف المُثْرِي والعائل، لعلهم يفلحون.
إذا تأملت في تاريخ هذا الإنسان رأيت أبناءه قد وقع منهم الاختلاف في كل
شيء {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: ١١٨-١١٩) اختلفوا
في العقائد والمذاهب، والعادات والمشارب، وجرى هذا الخلاف منهم في مدركات
الحس، كما سرى في مدارك العقل، ألا ترى أن بعضهم لا يستطيب أكل اللحوم
ذوقًا، كما أن بعضهم يستقبحها عقلاً، أما سمعت أن منهم مَن أنكر مظاهر الوجود
وحقائق الأشياء زعمًا أنها خيالات وأوهام تتراءى للحواس ولا تحقُّق لها في نفسها.
ومن رام حصر مواد الاختلاف والافتراق بين الأمم والشعوب. وبين الآحاد
والأشخاص فقد رام عبثًا وحاول شططًا، وفيما أشرنا إليه من النموذج بلاغ لقوم
يفقهون.
إن أصالة الخلاف والمنابذة وتمكُّنهما من نفوس أفراد هذا النوع قد جعلته من
الخواص اللازمة أو الفصول المقومة لذاته والمقسمة لجنسه، بحيث يصح أن يعرف
الإنسان بأنه (حيوان مخالف) ، أفلا يجدر بنا أن نعجب بعد هذا إذا رأينا جميع
الناس أو أمة منهم قد اتفقوا على شيء، وأجمعوا على شأن؟ ألا يجب علينا أن
نغتنم ذلك الشيء فنتخذه ذريعة لجمع كلمتهم واتفاق وجهتهم، الذي لا قوام لحياتهم
على الوجه الذي ينبغي إلا به؟ بلى ولكن أَنَّى لنا الظفر بهذه الرغيبة المفقودة،
والاهتداء لهاته الضالة المنشودة، وكيف لنا أن نطمع بما يكاد يخرج به الإنسان عن
كونه الخاص به فلا يكون إنسانًا؟ ولعل قائلاً يقول: إنا لا نرتاب في أن الاختلاف
المطلق لا ينفك عن البشر، لكن ذلك لا ينافي الاتفاق على بعض الشؤون، فهل
تعلم لنا شيئًا لا تخالف فيه ولا تنازع، وهو مما يقصد بالعمل ويتوصل إليه بالسعي،
لنجعله معقدًا للارتباط، إذا أخذنا في الدعوة إلى الاجتماع على أصول العلم
الصحيح؟
والجواب: نعم، إن هؤلاء الناس مهما تباينوا في الوسائل واختلفوا في
المقاصد فهم متفقون على شيء واحد يصح أن يكون علة غائية لكل حركة وسكون
يصدران منهم، ألا وهو: التخلص من البؤس والشقاء والظفر بهناء العيش ونعمة
البال عاجلاً أو آجلاً، وإن شئت قلت: هو دفع المؤلم واجتلاب الملائم إما لنفس
العامل فقط، وإما له ولمن يشاركه في المنزل أو الوطنية أو الجنسية. وما نشاهده
من سعي الكثير منهم إلى ما يبلسهم للهلكة، ويتجافى بهم عن مضاجع الراحة والهناء
فإنما هو لإِخطاء النهج وضلال الطريق القصد.
يظهر هذا في سيرة المحكوم والحاكم، والجاهل والعالم، والتاجر والصانع،
والحارس والزارع، والمنفق والممسك، والحليم والسفيه، والشجاع والجبان،
والعفيف والشره، كل يسعى لما يرى أن فيه راحته ونعيمه. لكن ربما خفي على
البعض في نحو الجاني والمنتحر، ويظن أن الجاني على غيره بما يعود على ذاته
بالضرر أو التلف، والمتعمد إزهاق روحه بيده لا يقصدان بعملهما ما ذكر، والحق
أن عملهما هذا ليس إلا تخلصًا من بلاء؟ أو توصلاً إلى نعماء؟ بحسب ما وصل
إليه الاجتهاد. فالإنسان حريص كل الحرص على تحصيل العيشة الراضية والحياة
الطيبة، وكل سعي أفراده إنما هو في هذه السبيل. وكما يطرد هذا في سعي طالبي
الحياة الدنيا يطرد أيضًا في سعي مريدي الآخرة، فالصائم والقائم، والزاهد والعابد،
إنما يقصدون السعادة الأبدية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا
دَانِيَةٌ} (الحاقة: ٢١-٢٣) ، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: ٧٢) .
فقد تبين أن الناس متفقون مبدأ وغاية (في الجملة) ، وإنما وقع الاختلاف
بينهم في الأفكار والأعمال (غالبًا) من الخطأ في تصور الغاية بتصور ما ليس
بسعادة سعادة الذي يتبعه الخطأ في اختيار المبدأ الذي يستند اليه العمل - كأن يتصور
أن سعادته في تحصيل الثروة بأية وسيلة ومن أي طريق، ويختار المبدأ لاكتساب
المال السرقة وأمثالها. وقد يكون تصور الغاية صحيحًا ويقع الخطأ في اختيار المبدأ
فيختل العمل المترتب عليه: كأن يتصور أن السعادة في كسب المال من الطرق
الشريفة في الوجوه المشروعة، ويرى أن المبدأ لذلك صناعة الكيمياء (الكاذبة)
بتحويل المعادن إلى ذهب، كما يجوز أن يعرقل العمل مع صحة المبدأ والغاية لعدم
السلوك إليه من طريقه والدخول عليه من بابه: كأن يختار التجارة مبدأً للكسب
ويتهجم على العمل بغير علم بأساليبها ولا اختبار أو لعدم توفر دواعي النجاح من
الخارج، أي من الأمور التي لا تنالها يد الكاسب - كأن يختار التجارة أو الزراعة،
ويأتي بجميع أسبابها مستوفياً شروطها فتنزل بالزرع جائحة أو تذهب بالتجارة
الأنواء ويحطم السفين اعتلاج الأمواج.
فعلينا أن نبحث في الطريق الموصل إلى صحة الغاية ومبادئها وانتظام أمر
العمل، بحيث ينطبق على المبدأ ويؤدي إلى الغاية من غير خطأ ولا ضلال،
وبالنتيجة في انتظام أمر المعاش والمعاد بما تصل إليه يد الإمكان، ويدخل في
اختيار الإنسان. وهو أشرف الأبحاث وأفضلها، لا ينطق لسان ولا يجري يراع
بأفضل من الكلام فيه. ولا غرو فإن البحث فيما يوصل الإنسان إلى الراحة والهناء
في الدنيا والمثوبة الحسنة في العقبى لَهُوَ أَجَلّ ما يتحدث فيه المتحدثون، ويتنافس
فيه المتنافسون، فألقِ إليه السمع وأنت شهيد.
أنت تعلم أن قوام الدنيا والدين بالعمل. والعمل لا يكون إلا عن علم، فالأحرى
أن نقول بالعلم والعمل (وكلكم حارث - كاسب وعامل - وكلكم همَّام) ، يهم بالأمر
فيعمله - لكن الهم مختلف والكسب مختلف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ
الآخِرَةَ} (آل عمران: ١٥٢) ، ثم كل من القسمين طبقات، فمنهم السائد
والمسود والقوي والضعيف والغني والفقير إلى غير ذلك من الطبقات المتقابلة. ولا
سبيل إلى المساواة بين الناس بجعلهم في رتبة واحدة، كما ينزع إليه بعض الملاحدة
في هذا العصر؛ لأن مُبْدِع العالَم (تعالى) فضَّل بعضهم على بعض في الرزق
وغيره، كما اقتضته حكمته في طبيعة الكون، وجرت به سُنته {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) ، وإنما السبيل الذي نقصده والطريق الذي توخينا
البحث عنه: هو الذي إذا سلكه العالم الإنساني على اختلاف الطبقات وتنوع
المراتب، فاز بالعيشة الراضية والحياة الطيبة ألا وهو: تهذيب الأخلاق، وكماله لا
يكون إلا بالاستناد إلى الدين المبين.
التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات
سعادة الحياة وحياة السعادة، شهد بذلك التاريخ الصحيح وصدقه العقل السليم. لا
راحة لفرد من الأشخاص في نفسه إلا بتهذيب أخلاقه في نفسه، ولا في منزله إلا
بتهذيب أهل المنزل، وعلى هذا النحو أهل المدينة والمملكة العظيمة. فكما أن
التهذيب الشخصي هو مدار انتظام معيشة الشخص الواحد، كذلك التهذيب العمومي
هو مدار انتظام معيشة الأمة كلها إذ ليس المهذب إلا من يقوم بحقوق نفسه وحقوق
غيره على صراط العدل المستقيم.
وإذا كان انتظام أمر الحياة معلولاً لتهذيب الأخلاق، فبالضرورة يكون
وجوده بوجود علته وعدمه لعدمها، إذ لا معنى لكونه معلولاً إلا هذا، ومن هنا نفهم
السر في اختلال معيشة الأفراد وانتظامها وانفصام عرى الاتحاد بين الجماعات
والتئامها وصعود بعض الأمم أعلى درج الارتقاء، وهبوط بعضها إلى أسفل درك الانحطاط ووقوف البعض بين بين، تتنازعه عوامل العلتين، حتى يأتي أمر الله
واعتَبِرْ ذلك في سير الإنسان من يوم علم تاريخه إلى الآن تلقه صحيحًا
مطرداً.
ربما خفي على البعض الارتباط بين الأخلاق والأعمال، فلم يسلم بأن
حسنها لحسنها، وقبحها لقبحها، مع تسليمه بأن سعادة الدارين إنما هي بالأعمال،
وهذا الخفاء لا يكون إلا عن الجهل بمعنى لفظ الأخلاق وما هو المراد منه، فإذا فهم
ما هو المعنى منه انجلى له ذلك الارتباط كالشمس ليس دونها سحاب.
الأخلاق جمع خُلُق (بالضم) ، وهو صفة النفس، كما أن الخَلْق (بالفتح)
صفة الجسد، وقد عرفه علماء التهذيب بأنه: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها
الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى روية ولا تفكر. وبيان ذلك أن مما يناجي الإنسان
به وجدانه، ويوحي إليه إحساسه أنه لا يصدر عنه عمل اختياري، فعلاً كان أو
تركًا، إلا عن داعية من النفس، وإن جميع جوارحه مسخرة لخدمة سلطان الروح،
وإن إرادة هذا السلطان التي لا ترد مهما جاءت بالجزم إنما ينفذها إلى الجوارح بريد
الفكر والخيال. وإذا دقق النظر رأى أن جميع إرادات السلطنة الروحية تصدر عن
داعيتين:
الأولى: انفعال وتأثر - كالجوع يدعو إلى الأكل - ومحلها الطبع.
والثانية: إدراك وتصور - كتصور خطر المرض يدعو إلى تناول الدواء -
ومستندها العقل.
وهاتان الداعيتان آلتان لتحريك الأعضاء للعمل والآلة لا تتحرك بنفسها، واليد
المحركة لهاتين الآلتين: خلق حسن أو خلق سيئ، إذ لا تخلو الداعية للعمل من
مصاحبة أحد أمرين:
إما الجور بتفريط أو إفراط؛ كالأكل زيادة عن الشبع شرهًا وجشعًا أو ترك
الشبع وما يناسب المزاج من الطعام حرصًا وبخلاً، وكالامتناع عن شرب الدواء
عند الاحتياج استبشاعًا لطعمه، أو تناوله مع الاستغناء عنه وسوسة ووهمًا.
وإما العدل، بإمضاء ما فيه المصلحة مع التجافي عن طرفي الإفراط والتفريط
والجور والعدل جنسان لأنواع الأخلاق الفاضلة والذميمة، فإذا أصيب ملك
الروح برزيئة الجور فأمر بما لا ينبغي ونهى عما ينبغي، ورعية الجوارح لا
مندوحة لها عن طاعته، لا تلبث مملكة البدن أن يسرع إليها الفساد ويحل بها
الدمار. وهذا واضح في مملكة البدن، كما هو واضح في المملكة الظاهرية، بل
هو في مملكة البدن أشد وضوحًا وظهورًا. وأما إذا تحلى بفضيلة العدل فيستقيم -
ولا ريب - نظام المملكة، وتبلغ من الانتظام غاية الكمال.
من فهم ما قلناه من أن جميع الأعمال إنما تصدر بإرادة الروح عن داعيتين،
وأن الروح في ذلك لا تخلو عن العدل أو الجور، وعلم مع ذلك أن العدل هو غاية
تهذيب الأخلاق، بل هو المحور الذي تدور عليه سيارات الفضائل، وأن الجور
ضده، فهم وجه الارتباط بين الأخلاق والأعمال، وأذعن لتفاوتها بحسبها ضعة
وخسة ورفعة وشممًا، وإذا لاحظ بعد هذا ما قلناه أولاً من أن الحصول على رغائب
الدنيا والآخرة موقوف على العمل لا على الأماني والتشهي، انكشف له مقدار تأثير
الأخلاق في المجتمع الإنساني صلاحًا وفسادًا.
كيف لا يكون الخلق المهذب أفضل الفضائل وغاية الكمال، وهو ثمرة الأديان
السماوية والشرائع الإلهية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم
مكارم الأخلاق) ، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا. نعم، أكثر آيات القرآن
الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق (كالعدل، والقسط في الأمور كلها،
والبر والإحسان لجميع الناس، والصبر، والحلم، والحياء، والرفق، والرحمة،
والوفاء، والصدق، والتواضع، والعفو، والأمانة، وأمثالها) ، وينهَى ويحذر من
سفسافها (كالجور، والجزع، والغلظة، والبخل، والجبن، والكبر، والرياء،
والكذب، والنفاق، والخيانة، والوقاحة، والسفه وأشباهها) ، وفي حكاية أحوال
المهذبين مع الثناء عليهم للاقتداء بهم، وحكاية أحوال فاسدي الأخلاق في معرض
الذم والتقريع للاعتبار والتنفير، كما في قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم.
وحسبك مع هذا قول عائشة (رضي الله عنها) في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ} (القلم: ٤) : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلقه القرآن.
وقد ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ما لا يكاد يحصى، فدونك حاصل بعضها.
وهو (إن أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) . و (إن الخلق الحسن خير ما منح الله تعالى به العبد) . و (إن أحب الناس إلى النبي وأقربهم منه مجلساً أحاسنهم
أخلاقًا) . و (إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة) (انظروا وتأملوا) ، و (إنه
يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد) . و (إن العبد ينال بحسن خلقه
الدرجات العلى مع ضعفه في العبادة) . و (إن سوء الخلق يقذفه في أسفل درك
جهنم) . و (إنه يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) . و (إن الله تعالى قوَّى الإيمان
بحسن الخلق، وقوَّى الكفر بسوء الخلق) . وأبلغ من ذلك ما روي أن سائلاً جاء
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من بين يديه وسأله: ما هو الدين؟ فقال: (حسن
الخلق) ، ثم جاءه عن شماله، ثم من وراء ظهره وسأله هذا السؤال، وأجابه بهذا
الجواب. ويقرب منه ما روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - أنه قال:
لكل بنيان أساس وأساس الإسلام: حسن الخلق.
فإذا تبين أن خلق الإنسان هو دعامة سعادته وعمادها، وعليه مدار صلاح
أموره الدينية والدنيوية وفسادها، فيجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يوجه قواه
العقلية والمالية للحصول على هذه المنقبة الكبرى والسعادة العظمى، وعلى العلماء
أن ينبهوا الأغنياء، ويعقدوا معهم الجمعيات للقيام بهذا العمل الجليل، ولا عذر في
التهاون والوَنَى تلقاء هذا المقصد الشريف، إلا لمن تخبطه شيطان الجهل، فأمسى
لا يميز الكمال من النقص، ولا يزيّل بين السعادة والشقاء، وكفاه عذره ذنبًا. وأما
من كان صحيح الفكر، وتلا أو تلي عليه ما ذكرناه، ثم لم يعره أذنًا صاغية، ولا
نفساً واعية، رغبة في جمع الحطام، والتلذذ بالشراب والطعام، واشتغالاً بمفاخرة
الأقران، وقهر الأخصام، فلتهنأ له الحياة الحيوانية في {ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لاَ
ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} (المرسلات: ٣٠-٣١) . والسلام على الإنسانية
وذويها، والفضيلة ومحبيها، في كل زمان ومكان.