للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العرب والترك [*]
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[١]
(١)
التغاير بين الإخوة الأشقاء، والتنافس بين الجيران والخلطاء، هما من
الأخلاق المعهودة بين الناس في جميع الشعوب والأجناس، وكثيرًا ما يفضي التغاير
إلى التنافر، والتنافس إلى التحاسد، فإذا اقترن ذلك بالتقاطع والتدابر، ولم يفض
كل من المتنافسين بما في نفسه إلى الآخر، اشتعلت بينهما نار العداوة والبغضاء،
وإن كان الخير لكل منهما في الموادة والوفاء، وإن ما يقع من الشقاق بين البشر
بسوء الفهم، أكثر مما يقع بسوء النية والقصد.
تلك قوانين الأخلاق وسنن الاجتماع التي تسير عليها الأفراد والأقوام،
فالعرب والترك هما الصنوان في شجرة الملة الحنيفية، والأخوان الشقيقان في
الجامعة العثمانية، والركنان الركينان لبناء الخلافة الإسلامية، فالرابطة بينهما
جديرة بأن تبقى دائمًا كما وصفها كمال بك نامق زعيم النهضة الأدبية في الترك
بقوله: (إن كان يطمع أحد في حلها فهو الشيطان، وإن كان يقدر عليه أحد فهو
الله) .
هذا ما كان، وهذا ما يجب أن يكون إلى ما شاء الله. ولكن وجد شيطانان لا
شيطان واحد يطمعان في حل الرابطة المتينة بين العنصرين اللذين امتزجا كامتزاج
الأكسجين والإدروجين في تكون الماء، أو الأكسجين والنيتروجين في تكون الهواء
زانك الشيطانان هما شيطان السياسة الأوربية وشيطان الجهل في كثير من أفراد
العنصرين، ولكل واحد من هذين الشيطانين شر من شيطان الجن الذي ذكره كمال
بك رحمه الله، وسأبين ذلك تبيينًا.
إن هذا العاجز كاتب هذا المقال ربما كان من أعلم الناس بقوادم هذه المسألة
وخوافيها وهزلها وجدها؛ لأنني جئت مصر منذ اثنتي عشرة سنة، فكنت أشتغل
فيها بالدعوة إلى الإصلاح الإسلامي جهرًا، من حيث أشتغل بالسياسة العثمانية سرًّا،
وإن مصر في هذا العصر لهي مرآة الشرق والغرب، بما فيها من الحرية المطلقة،
والشعوب المختلفة، والجرائد الحرة، والاجتماعات المباحة، فالمقيم فيها يسهل
عليه أن يعرف من أحوال البلاد العثمانية وسياسة الدول فيها ما لا يعرفه أهل
الآستانة ولا غيرهم من المقيمين في الولايات، حتى في هذا العصر عصر الدستور،
فماذا نقول في عصر الاستبداد القريب: عصر الحجر على المطبوعات والختم
على الأفواه، والمنع من الاجتماع والرعب من ذكر بعض الأسماء والألقاب،
والعقاب الشديد على فلتات اللسان، وزلات الأقلام! ! ؟ ؟
إنني ما تركت مصر وجئت الآستانة في هذا الوقت؛ لأمتع النفس باستنشاق
هوائها وعذوبة مائها ومناظر بوسفورها، وإنما جئت باحثًا ومختبرًا أو ساعيًا في
الإصلاح، فأنا أعرض ما عندي من المعرفة والاختبار والرأي على أولي الأمر
وأهل الحل والعقد، بعضه بالمشافهة والمسارة، وبعضه بالكتابة في الجرائد، فإن
صادف آذانًا واعية، وأعينًا بصيرة متأملة، فذلك ما أرجوه، وإن صدق ما قيل لي
بمصر من أن أولي الأمر، وكذا أصحاب الصحف في الآستانة لا يبالون بقول أحد
ولا برأيه، وما أظن أن الأمر كما قيل، فحسبي أنني أديت الواجب عليّ، وعملت
بالنصيحة الواجبة لأئمة المسلمين وعامتهم كما ثبت في الحديث الشريف الذي رواه
البخاري ومسلم في صحيحيهما.
قضيت أكثر من أسبوع في هذه العاصمة لا أقابل أحدًا من أولي الأمر ولا من
أصحاب الجرائد، وإنما كان همي فيها محصورًا في اكتشاف الآراء، واستخراج
مخبآت النفوس، ومكنونات الصدور، في الأمور العامة، ومسألة سوء التفاهم بين
الترك والعرب خاصة، فرأيتني بعد أن وقفت على كثير من المسائل والآراء، وما
فيها من الأغراض والأهواء، لم أزدد علمًا بأصل المسألة، وإنما أضفت إلى ما
عندي جزئيات جديدة من الحوادث والوقائع تؤيد الأمر الكلي، ولا تنقض منه شيئًا.
فالأمر الذي يجب التصريح به بالإجمال، قبل بيان الأسباب والنتائج
بالتفصيل، والذي يجب أن يعلم وأن يعمل به، هو أنه يوجد شيء من سوء التفاهم
بين العنصرين تخشى عاقبته إن لم يتدارك في الحال، وأَنَّ كبراء الدولة وقادة
الأفكار في العاصمة ليسوا على بينة منه، وأستشهد على ذلك شهيدين قريبين:
أحدهما: فتنة الشام في هذا العام، وثانيهما: ما نشر في جريدة (أقدام) من خبر
اتحاد أمراء جزيرة العرب لأجل تكوين دولة عربية!
أما الأول الذي استدل به على أن حكومة العاصمة ليست على بينة من أحوال
الولايات العربية، فهو أن بعض الوشاة في دمشق الشام، بلغوا هذه الحكومة بتقرير
من تقاريرهم التي اعتادوها في زمن الحكومة الحميدية بأن أفرادًا معينين يكونون
دولة عربية وخلافة جديدة! ! فبادرت الحكومة الدستورية إلى التحقيق واستنطاق
المتهمين بهذه الجناية جهرًا، وكانت الحكومة الحميدية تفعل ذلك في شأنهم وشأن
أمثالهم سرًّا، وهم أفضل علماء الشام وأخلص المخلصين من أحرارها للحكومة
الدستورية.
هم الذين كانوا مضطهدين في الدور الماضي، فلما جاء الدستور ظنوا أن زمن
اضطهادهم قد مضى، وجاء الزمن الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم، ويعرف
فيه للمخلصين إخلاصهم، وكانوا هم السابقين إلى مقاومة الرجعيين؛ إما ببذل
نصائحهم وعلومهم كالشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي، وإما
ببذل أموالهم ونفوذهم كعبد الرحمن بك اليوسف. والسبب في وقوع هذا الغلط عدم
الوقوف على حقيقة الأحوال؛ ودليل ذلك أن ناظر الداخلية لم يلبث أن أصدر أمرًا
حين علم بالحقيقة من مدة قريبة؛ بترك التحقيق عن المتهمين بالباطل، وجعل
المسألة كأن لم تكن شيئًا مذكورًا. ولكن تلك الإهانة التي أصابت أولئك المخلصين؛
بسبب ما ذكرنا من عذر الحكومة قد تنسب إلى سوء القصد أو تضعف الثقة
بالحكومة الدستورية - لو لم تتداركها - وسنبحث في طريق معرفة الحكومة والجرائد
في العاصمة لأحوال الولايات في نبذة أخرى من هذا المقال.
وأما الأمر الثاني: وهو ما أستدل به على عدم معرفة الجرائد وقرائها هنا
بأحوال البلاد العربية، فهو تصديق ما نشرته جريدة (إقدام) مترجمًا عن جريدة
(الاتحاد العثماني) : من اتحاد أمراء العرب وشيوخهم في الجزيرة، واهتمام
الناس هنا بذلك، وهذا ما حملني على زيارة هذه الجريدة ومكاشفة مديرها الفاضل
بحقيقة الأمر في ذلك الخبر، والاتفاق معه على كتابة مقال في بيان ما عندي من
الصواب في هذه المسألة، وفي المسألة الكبرى التي تعد هذه فرعًا من فروعها؛
وهي مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك، وما يجب من طرق تلافيه بعد معرفة
أسبابه، وقد شكرت للرصيف الكريم قبوله مني ما أكتب وترجمته ونشره في
جريدته.
لمسألة اتفاق أمراء الجزيرة أصل عرفته من أوثق المصادر وأصحها؛ وهو
أن شيخ لحج (ويلقب هناك بسلطان لحج) قد كتب كتابًا إلى بعض أمراء العرب
وشيوخهم، كإمام الزيدية في اليمن، والشريف أمير مكة في الحجاز وغيرهما،
وأرسله مع رسل من قبله يحملون بعض الهدايا، وهي تتضمن الدعوة إلى المذاكرة
في الاتفاق على حفظ جزيرة العرب من العبث باستقلالها ولو من قبل الدولة العلية!
ولكن لم يجبه أحد إلى دعوته، ولا حصل اتفاق بين أولئك الأمراء، ولا اتفاق
على الاتحاد، ولا ذلك من المتيسر، ولا شيخ لحج ممن يسمع له أولئك الأمراء
قولاً، أو يحترمون له رأيًا، أو يعتقدون فيه إخلاصًا، بل هم يسيئون الظن فيه؛
لما بينه وبين إنكلترا من الولاء، وما يأخذ منها من العطاء.
علمت بهذه المسألة من عدة أشهر، ولم أنشرها في (المنار) ولا في غيره
من الصحف؛ لاعتقادي أنها لا ضرر فيها، وإنما الضرر في نشرها وخوض
العامة بذكرها، لما سأبينه بعد. ولكن لما كان علم الدولة بها واجبًا ولا سيما أن
كانت بدسيسة أجنبية، بادرت إلى إخبار بعض من يثق بي من كبراء الدولة بها في
كتاب أرسلته إليه من مصر، على أنه بلغني أن أمير مكة المكرمة أخبر حكومة
العاصمة بها أيضًا.
بعد ذلك سمع بعض التجار في عدن وغيرها بالخبر، ولكن على غير وجهه،
فتناقلوه حتى وصل إلى طرابلس الشام، فتلقفه مكاتب جريدة (المؤيد) المصرية
هناك، وكبره وأضاف إليه ما جرت عادة مكاتبي الجرائد بالتوسع في مثله وأرسله
إلى المؤيد، وبعد أن نشره المؤيد بزمن غير طويل، نشرته جريدة (الاتحاد
العثماني) فوصل إلى الآستانة العلية في هذه الأيام، وكان له من سوء التأثير ما
كان، ونحمد الله.
إن كانت الحكومة هنا أعرف بحقيقة هذا الأمر من الجرائد؛ إذ لولا ذلك
لخشي أن تحشر الزحوف، وتنفق الألوف، وتسير الأسطول، لدرء هذا الخطر
الموهوم، فإن اتفاق أولئك الأمراء، لا يتلافى بمثل ما يتلافى به اتفاق الشيخ عبد
الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، وهما شيخان ضعيفان، يقيمان في مركز
فيلق من فيالق الدولة العلية! !
أكتفي بهذه النبذة اليوم، وسأكشف الغطاء في النبذة الثانية عن أسباب سوء
التفاهم، وأجعل هذا وذاك مقدمة لما أدعو إليه من الوحدة والاتفاق.
***
(٢)
قلت: إن العرب والترك يجب أن يكونا متحدين، كالعنصرين المكونين للماء
أو الهواء، بحيث يكون الناظرون إليهما كالناظرين إلى الماء، يرون شيئًا واحدًا لا
شيئيين، والشاعرون بمقاومتهما كالشاعرين بمقاومة الهواء، وهو قوة واحدة لا
قوتان منفصلتان، وقلت: إن شيطاني السياسة الأجنبية والجهالة الداخلية، يطمعان
في حل رابطتهما القوية، وتحليل وحدتهما الدينية الاجتماعية بمحلل العصبية
الجنسية، وإننا نبين ذلك بشيء من التفصيل.
سياسة أوربا في الأجناس
وضعت في أوروبا قاعدة من قواعد السياسة من عهد نابليون وهي: وجوب
استقلال كل جنس بنفسه، فهذه القاعدة يعمل بها رجال السياسة الاستعمارية حيث
توافق مصلحتهم فقط، ويوجد من رجال الاجتماع من يقول بوجوب اطرادها
لمصلحة البشر، وإن كان استقلال بعض الأجناس ينافي مصلحة جنس آخر سائد
عليه أو متعذر به.
لهذه القاعدة فروع كثيرة تتعلق بالدولة العلية لا خير لها في شيء منها؛ لأنها
مؤلفة من أجناس كثيرة، لا قوة للدولة إلا باتحادها كلها أو جلها بالإخلاص، فإن
شذ منها جنس صغير هو فيها كالكربون في الهواء، لم يكن ذلك ضارًّا لها ضررًا
يضعف كيانها، فإن خلو الهواء من الكربون لا يبطل كونه هواء، وإن كان لا يخلو
في الغالب منه.
وإنني لا أبحث هنا في هذه الفروع، وإنما أقول: إنه لا يغبن أحد من الأجناس
العثمانية في سياسة الجنسية كما يغبن الترك العثمانيون؛ لأن من مقتضاها أن
يحصر استقلالهم في بلاد الأناضول التي هم فيها أكثر عددًا، ولا تسمح لهم
أوربا بالاتحاد بأهل تركستان ولا هم يقدرون على ذلك بالقوة، فاتهام بعض
العرب وغيرهم لساسة الترك بأنهم يريدون استخدام قوة الدولة؛ لتمييز جنسهم
على سائر الأجناس العثمانية، هو اتهام لهم بالجهل بمصلحة الدولة وبمنفعة جنسهم،
فوق الجهل بما يحظره عليهم دينهم من عصبية الجنسية.
سياسة أوربا الجنسية في البلاد العربية
قلت: إن القائلين بهذه السياسة في أوربا فريقان: رجال الاستعمار الذين
يستخدمونها لمصلحتهم بقدر مصلحتهم، ورجال الاجتماع الذين يسعون لها سعيها
على الإطلاق؛ عملاً بما يعتقدون من خير البشر.
فالأولون يبثون في البلاد العربية العثمانية فكرة الاستقلال العربي مخادعة
للعرب؛ ليساعدوهم على الانفصال من جسم الدولة العَلِيَّة، وماذا تريد أوربا بعد
ذلك؟ تريد أن تضع هذه البلاد العربية تحت حمايتها أو تضمها إلى مستعمراتها،
وتقطع عليها طريق الاستقلال باسم الاستقلال! ! وإن لأوروبا من الدسائس
والوساوس في إطماع البلاد العربية العثمانية بالاستقلال، ما لا تسمح لنا الحالة
السياسية في الآستانة الآن بشرحه، وإنما أشرنا إليه؛ لنذكر أهل الحل والعقد
ورجال الصحافة في هذه العاصمة بأن سوء الإدارة في عصر الاستبداد، كان
هو المساعد لترويج تلك الدسائس، وإن حسن الإدارة وحده لا يكفي في هذا
العصر لقطع عرق الدسائس وخيبة مساعي أصحابها، بل يجب أن يقترن بالمساواة
وتأييد الوحدة العثمانية بالعمل من الحكومة وبأقوال الجرائد، وفي مقدمتها جرائد
العاصمة، فإن كلمة واحدة من جريدة تركية أو من كاتب تركي تشعر بتفضيل
الترك على غيرهم، تحبط عمل ألف واحد من العرب في الدعوة إلى الاتفاق
والاتحاد.
قد اشتهر أمر المناظرة الطويلة التي دارت بين هذا العاجز، وبين صاحب
جريدة (وطن) التي تصدر في مدينة لاهور بالهند، في الانقلاب العثماني الذي
سميته ميمونًا، وسماه مناظري مشؤومًا. وقد كان مما قاله في رده الأخير: على
أنني لم أعترف لعبد الحميد بحسنه واحدة، وقد كانت جرائد الشرق والغرب طافحة
بتعداد حسناته الكثيرة، فأجبته في ردي الأخير عليه، الذي نشرته في جزء المنار
الذي صدر في آخر رمضان الماضي: إننى أعترف لعبد الحميد بحسنتين: سكة
الحديد الحجازية وعدم التعصب للجنسية إذ لم يكن يقال في زمنه ترك وعرب.
وأزيد الآن على ما قلته هناك: إنه لو كانت تلك الإدارة السوءى مقرونة بالتعصب
الجنسى للترك لانفصلت البلاد العربية من جسم الدولة ألبتة.
هذا: وإن في أوربا من أهل السياسة من يساعد على فصل بلاد العرب من
جسم الدولة العلية؛ لأجل إضعاف الدولة لا لطمع في شيء من تلك البلاد، وإننى
قد دعيت منذ أعوام إلى الدخول في جمعية أو رياسة جمعية بأوربا تدعو إلى
استقلال البلاد العربية، وقيل لي: إن جمعية كذا.. . وجمعية كذا.. من الجمعيات
التي تريد إضعاف الترك في مقدونية وفي الأناضول، وحملهم على تفريق القوة
العسكرية، تساعد هذه الجمعية العربية بالمال الكثير إذا دخل فيها بعض المشهورين
من المسلمين، ولما رفضت هذه الدعوة قيل لي: اسمح لنا بكتابة شيء في ذلك
بقلمك أو اسمح لنا أن نستخدم اسمك، فلم أقبل بل كان ذلك مما قوى عزيمتي على
القيام مع بعض أصدقائي العثمانيين بمصر بجمعية الشورى العثمانية؛ التي ألفناها
من جميع العناصر العثمانية؛ للمطالبة بالدستور والإصلاح.
وأما رجال الاجتماع من الأوربيين الذين يميلون إلى تكوين دولة عربية
فكثيرون، ومنهم المخلصون الذين لا يقصدون مساعدة الطامعين في البلاد العربية،
ولا إضعاف الشعب التركي، وقد يستغرب كثير من القارئين لهذا المقال الجزم
بوجود هذا الصنف من الناس في أوربا، ألا فليعلم المستغربون أننا نقول هذا عن
علم لا عن ظن، وأنَّ الإنسان مازال مصدر الغرائب.
ومما وقفت عليه من ذلك أن بعض هؤلاء المخلصين في حب العرب، قد
عرف الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده رحمه الله) ووثق باقتداره، فرغب إليه
أن يضع له نظامًا لاستقلال جزيرة العرب وتكوين دولة عربية فيها؛ ليسعى في
تنفيذ ذلك. وقال له: إنه يوجد مال كثير يبذل في سبيل المشروع، وإنه هو
ينفق من صندوقه مبلغ كذا من ألوف الجنيهات. فأقنعه الأستاذ الإمام بأن
فصل العرب من الترك، يضيع الفريقين ويضر الإسلام نفسه. فقال له ذلك
الأوربي الفاضل: إذا كان الأمر كذلك، فأنا أعاهدك على ترك السعي له.
إن ما يظهره العلماء المستشرقون من آثار العرب في العلم والمدنية والدين،
وما يطبعونه في كتبهم التي كانت نسجت عليها عناكب النسيان، هو مما يقوي ميل
أولئك الاجتماعيين إلى مساعدة الاستقلال العربي، إذا سعت العرب إليه وطالبت به
فأحب أن يعرف ذلك رجال السياسة والصحافة من الترك، وأن يعلموا علم اليقين
أنه لم يوجد إلى هذا اليوم سعي إلى هذه التفرقة الضارة، ولا ميل من أهل البلاد
العربية، وأنَّ العارفين منهم بهذه المنافذ يسعون في سدها، وأنَّ الذين أظهروا
الدعوة إليها في أوربا، إنما هم أفراد من أصحاب المطامع الذين كانوا يبتغون
المال والمناصب من عبد الحميد، والتهويش على الدستور ورجاله في أول العهد
بإعلانه، وأنَّ عزت العابد لا يقدر الآن على شيء، وأنَّ كل ما يجب الآن
محصور في إزالة سوء التفاهم بين العنصرين، وهو ما سنبينه بعد.
***
(٣)
إذا جنحت الترك للاعتصام والامتزاج بالعرب بما سأذكره من الوسائل، فإن
العرب تكون أجنح لذلك؛ لأن الترك هم العنصر الأكبر في الدولة والسياسة،
والقاعدة الطبيعية في الجاذبية أن الأكبر يجذب الأصغر؛ ولأنهم أشد استمساكًا
بالجنسية، فيخشى أن يكونوا هم الذين يكوّنون عصبية العرب الجنسية.
فإن قيل: إن العرب هم أكبر العنصرين؛ بكثرة عددهم، وسعة أرضهم
وموارد ثروتهم، فهم الذين يجب أن يجذبوا الترك إليهم، فالجواب: إن هذا كان
يكون صحيحًا، لو كان التنازع والتجاذب بين عامة العنصرين، ونحمد الله أنه لم
يكن كذلك؛ لأن هذه العصبية إذا سرت في نفوس العامة فتنبهوا لها، وتوجهوا إلى
العمل بموجبها، فإنه يتعسر أو يتعذر نزعها من قلوبهم، واستخراجها من أدمغتهم
وإنما التنازع والتجاذب محصوران في طائفة من المتعلمين؛ وهم رجال المناصب
في الدولة وطلابها، والمشتغلون بالسياسة كأصحاب الجرائد وكتابها، ومجموع
الفريقين في الترك أكثر منهم في العرب، وهو معنى قولنا: إن الترك أكبر
العنصرين في الدولة والسياسة، وإن انحصار التجاذب بين أعقل المتعلمين في
الفريقين، هو الذي يطمع طلاب الوفاق ومحبي الإصلاح في إزالة سوء التفاهم،
الذي يغري كل فريق ببث سموم التفريق في عامة الناطقين بلغته.
وأما كون الترك أشد استمساكًا بعصبية الجنس من العرب، فسببه أن دولتهم
قامت بهذه العصبية لا بالدين الذي يجمع بين الأجناس الكثيرة ويساوي بينهم؛
كدولة العرب أو دولهم. ولا نطيل في بيان هذا؛ لأنه لا يقوي ما نرمي إليه من
التأليف والتوحيد بل ربما يعارضه، وحسبهم أن دولتهم سميت باسم جنسهم (تركيا)
وكان مما زادهم استمساكًا بعصبيتهم الجنسية كثرة الأجناس المزاحمة لهم في
عاصمة الملك، وما يتصل بها من البلاد.
نعم.. إنهم على قيامهم بعصبية الجنس، لم يكرهوا الأجناس التي استولوا
على بلادها على التجنس بجنسيتهم، ولا على الدخول في دينهم.
أما الأول: فلأن دولتهم لم تكن دولة علم وحكمة، وإنما كانت دولة بأس
وقوة. وقد مرت عليها القرون، ولم تجعل للغة التركية نحوًا ولا صرفًا ولا
معاجم، ولا غير ذلك من كتب التعليم.
وأما الثاني: فلأن الإسلام نفسه هو الذي لم يسمح لهم بذلك، وقد أراده
بعض سلاطينهم، واستفتى فيه مفتيه (شيخ الإسلام) فلم يفته، فامتنع لأنه كان
مسلمًا ودولته إسلامية لا شبهة في ذلك.
ما كنت لألم بهذا الاستطراد، لولا ما خشيته من الاعتراض على بعض
المقدمات الذي يترتب عليه عدم التسليم بالنتيجة. وإذا سلمنا أن الاستمساك الجنسية
فيهم أشد، وأنهم أقوى على جذب غيرهم إليهم وأقدر، فلا مندوحة لنا عن التسليم
بأن الخوف من التفرق، والرجاء في الاعتصام، هما منهم وفيهم أشد وأقوى أيضًا.
وإني لأرجح الرجاء على الخوف؛ لحسن ظني بكبراء القوم وزعمائهم الذي
لا ينقضه وقوع بعض الأغلاط منهم، التي تولد منها ما تولد من سوء الفهم، الذي
يسهل تداركه مع حسن القصد، وقد رأيت بوادر الارتياح إلى التدارك من فخامة
الصدر الأعظم، فمن دونه من رجالهم الذين اتفق لي الحديث معهم، بل رأيت
الكثيرين من فضلائهم قد أقبلوا بعد نشر النبذة الأولى من هذا المقال في جريدة
(إقدام) ؛ للسلام عليّ والتعرف بي والشكر لي، والاعتراف بحسن ما دعوت
إليه من وجوب الاتحاد والاعتصام.
وكذلك فعل الكثيرون من وجهاء العرب المقيمين في هذه العاصمة. أفليس
هذا دليلاً على صدق ما جزمنا به من كون المسألة التي نبحث فيها مسألة سوء فهم،
يسهل تداركها قبل اتساع دائرتها؟ بل.. ومتى وضحت الأسباب زال الارتياب.
تاريخ التغاير بين العرب والترك
إن الطبيب لا يحسن معالجة المريض، ويكون جديرًا بالنجاح فيها إلا إذا كان
عارفًا بتاريخه الصحي، وبما طرأ عليه من الأمراض من قبل، بل يجب أن يكون
مع ذلك على علم بالحال الصحية في آبائه وعشيرته؛ ليعرف استعداد مزاجه، وما
عسى أن يكون قد سرى إليه بالوراثة.
وكذلك يجب أن يعرف الطبيب الاجتماعي تاريخ الأمم والشعوب التي
يتصدى لإرشادها، ومعالجة أمراضها الاجتماعية وأخلاقها، وعاداتها الطارئة
والموروثة. وهذا ما يدعونا إلى الإشارة إلى ما لابد من التذكير به من تاريخ
التغاير بين هذين العنصرين اللذين يجب أن يتحدا دائمًا؛ كاتحاد عنصري الهواء
أو الماء.
كان للعرب مدنيات قديمة، قد امتدت من بلادهم إلى بلاد الكلدان والفرس من
جهة الشرق، وإلى مصر من جهة الغرب فتاريخ دولة الرعاة العربية في مصر
معروف، ويقول بعض المؤرخين: إنه كان لهم في تلك البلاد دولة أقدم منها،
وشريعة حمورابي - وهي أقدم الشرائع المعروفة من التاريخ - شريعة
عربية، فحمورابي العربي كان يدعى ملك السلام، كما في العهد العتيق والعهد
الجديد من أسفار أهل الكتاب، وكان معاصرًا لإبراهيم الخليل عليه وعلى آله الصلاة
والسلام، إلا أن تلك المدنيات قد زالت كما زال غيرها من المدنيات القديمة؛
ولم يظهر شيء من آثارها إلا في هذا العصر الذي عنى فيه الأوربيون باستخراج
الآثار القديمة من بطن الأرض، وسيجاريهم العثمانيون في ذلك، وهم أحق بمعرفة
تاريخ البلاد التي ورثوها، ويوجب عليهم الدستور في هذا العصر عمارتها، كما
أوجب الاستبداد على سلفهم إهمالها إن لم نقل تخريبها.
ثم أتى على العرب حين من الدهر، لم يكونوا فيه شيئًا مذكورًا في عالم
المدنية، حتى انبلج فيهم فجر الإسلام بمكة المكرمة، وطلعت شمسه بالمدينة
المنورة، ثم امتد نوره إلى سائر الآفاق، واتسعت فتوحاته في الشرق والغرب،
وأحيا العلوم التي كانت قد ماتت، وجدد المدنية التي كانت قد عفت وطمست،
ولكن كان من تعاليمه محو العصبية الجنسية، ولذلك كانت الدواوين التي دونها
الخليفة الثاني للحكومة في بلاد الشام باللغة الرومية إلى عهد عبد الملك بن مروان ,
وكان وزراء أعظم الخلفاء العباسيين من الفرس، وحاشية آخرين منهم وحرسهم
وجندهم الخاص الممتاز من الترك. ثم حدثت في بلاد الخليفة العباسي سلاطين
الطوائف، فكان منهم الفارسي والتركي والكردي، ولم يخطر في بال العرب أن
هؤلاء غرباء عنهم، وأنه يجب تأليف عصبية عربية لنزع الملك منهم، ذلك بأن
الإسلام نزع عصبية الجنس من قلوبهم بقول الله لهم في سورة الحجرات {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) فعلمهم أن الشعوب التي تختلف باختلاف الجنسية،
والقبائل المتفرقة باختلاف النسب، يجب أَنْ تتعارف فتأتلف، لا أن تتناكر فتختلف،
وبذلك أوصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، وصرح بأنه لا
فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، ولذلك كانت
العرب ولا تزال تفضل مثل ملكشاه السلجوقي وصلاح الدين الأيوبي الكردي
على أكثر ملوك بني أمية؛ ولذا سهل على ملوك آل عثمان الاستيلاء على البلاد
العربية، ولم يخطر على بال الأمة العربية أنه قد استولى عليها قوم ليسوا من
جنسها؛ إذ ليس لها - ومعظمها على الإسلام - جنسية في غير دينها، ألم تر إلى
الشعب المصري العربي كيف يئن من نفوذ الإنكليز وهم ليسوا بمالكين، ويحن إلى
الترك، وإن كانوا إلى آخر عهد عبد الحميد من الظالمين، ومن الأمور التي لا
ينكرها مصري ولا تركي أن الإنكليز قد أصلحوا من بعض الوجوه في مصر وإن
الترك لم يصلحوا فيها شيئًا، ولا تزيد على ذلك؛ لئلا نخرج إلى ما ليس من
غرضنا، أو إلى ما يوشك أن يضعف صوتنا فيه.
يقول بعض المتفرنجين منا: إن عدم تعصب العرب لجنسهم كان ضارًّا بهم؛
لأنه أزال ملكهم، وإن الترك لو عملوا بهذه السياسة الإسلامية، لكان شأنهم في ذلك
كشأنهم. ونقول: إن هذا القول باطل، وليس هذا المقام مما يتسع لبيان بطلانه
بالحجة والبرهان، وإنما الغرض مما تقدم بيان أن العرب لا يكرهون سلطة الترك
تعصبًا لجنسهم، وإنما ينكرون منهم بعض الأخلاق والأعمال، كما ينكر بعض
أفرادهم وبعض جماعاتهم على بعض.
هذا ما عليه مجموع الأمة العربية لا جميع أفرادها، فإنني لا أنكر أنه قد
سرى إلى كثير من المتعلمين الميل إلى التعصب الجنسي والاستقلال العربي،
وهو المقصود من بحثي هذا.
إن الدولة التركية لم يكن لها في عصور قوتها نفوذ ولا سلطة ولا دواوين،
ولا محاكم في داخلية البلاد العربية، ولا مدارس تركية، فهي لم تمتزج بالعرب،
ولم تلتحم معهم بلحمة العدل والعلم واللغة، فيكون الترك والعرب أمة واحدة، ولم
تَسُسْهُم بالقوة والجبروت والظلم العام، فتفسد بأسهم وتجعلهم أمة ذليلة، بل كانت إلى
ما قبل (التنظيمات الخيرية) التي وضعت في عهد السلطان عبد المجيد (رحمه
الله تعالى) تكتفي بإرسال بعض عمالها إلى بعض البلاد الكبيرة؛ لأجل أخذ ما
فرض على كل جهة من المال للدولة، ولكن البلاد المصرية قد ذاقت من الظلم في
عهد المماليك ما صارت تعد به عصر محمد علي باشا وعصر أحفاده عصر نور
وإصلاح، على ما كان فيه من ظلم وجور، ومع هذا كله، لم تتوجه نفوس
المصريين إلى طلب الاستقلال التام عن الترك إلا في عهد الثورة العرابية، ثم لما
كانت عاقبة الثورة هي احتلال الأجانب للقطر المصري، حدث للمصريين من
التعلق بالدولة العلية ما هو معروف، وقد أشرنا إليه آنفًا.
بعد (التنظيمات الخيرية) تغلغل عمال الحكومة من الترك في البلاد العربية
فلم يكن الناس يستنكرون سلطتهم، أو يستثقلون وطأتهم، ولا كانوا يرون أنفسهم
أذلاء لخضوعهم لحاكم أجنبي عنهم، بل كان السواد الأعظم وهم المسلمون يعدون
التركي منهم؛ لأنه مسلم، وهم قلما يفكرون في مسألة الجنسية.
وأما غير المسلمين فلم يكن عندهم فرق بين التركي المسلم والعربي المسلم
فهم كالمسلمين، كانوا لا يفكرون في غير الرابطة الدينية، ثم صار المتعلمون
منهم على الطريقة الأوربية يدعون إلى الرابطة الوطنية، على أن أكثر أهل
بلادنا لا يفهمون من معنى الوطن إلا موضع الإقامة، حتى إن كل بلد عندهم
وطن، وهذا هو المتبادر من المعنى اللغوي، ثم إن النصارى سبقوا في كثير من
البلاد العربية إلى التقرب إلى حكام الترك بتعلم التركية، حتى صار كتاب الدواوين
كلهم أو جلهم منهم في أوائل العهد بالتنظيمات، ثم قل عددهم فيها بعد ذلك.
نعم.. إن جهل أهالي البلاد للغة التركية، وجهل الحكام من الترك للغة
العربية، كانا ولا يزالان من أسباب الجفاء وعدم الأنس، واشتهر الترك على رقة
حاشيتهم وعلو أدبهم بالكبر والغلظة، على أن كثيرًا منهم كان يتكبر؛ لظنه أن
التكبر يكون أدعى إلى المهابة والإجلال، ولكن لم يكن يشعر بهذا إلا بعض أفراد
الأمة وهم رجال الحكومة من أهل البلاد، فلم يكن له تأثير في الأمة يوجب سريان
الكراهة للجنس، وإنما كان يعرف بين الناس وصف الحاكم من حيث هو حاكم،
فيقال: هذا الوالي أو هذا المتصرف عادل؛ لا يأكل (الرشوة) ، وهذا الوالي أو
المتصرف يأكل ويشرب ... وكثيرًا ما كان الناس قبل هذه الأيام يمدحون الترك
كلهم؛ لوجود حاكم عادل منهم، وقلما كانوا يذمونهم كلهم لظلم الحاكم منهم، على
أن الظالمين كانوا بطبيعة الاستبداد أكثر من العادلين.
وقد عرف بين الناس في الولايات العربية شيء آخر لابد من ذكره، وإن كان
مرًا؛ لأننا نبحث في هذه المسألة بحث الطبيب الآسي، وفي المثل العربى
(من أكتم داءه قتله) ذلك الشيء هو أن الترك يبغضون العرب. ويتناقل الناس
في كثير من البلاد العربية كلامًا، سمعوه من بعض حكام الترك صريحًا في هذا،
ولا أحب أن أطيل في بيانه، ولولا أنه مشهور لما ذكرته ليعرف إخواننا الترك من
ولاة الأمور وأصحاب الصحف، فيكونوا معنا على بصيرة فيما نطلبه من خير
الأمة بالاعتصام والوحدة.
يمكن أن يقال: إن ما سمع من تصريح بعض الترك ببغض العرب هو من
الجزئيات التي لا تبلغ أن تكون استقراء ناقصًا، فالحكم بها على الجنس كله حكم
باطل ولا سيما إذا عرف لها سبب يوجد في صنف من أفراد الجنس دون غيرهم.
وقد علمت بعد البحث والتحري أن هذا الصنف الذي قد بدت البغضاء للعرب من
أفواه كثير من أفراده هو صنف المتفرنجين والضعفاء في الدين، من الذين يثقل
عليهم مزاحمة العرب لهم في خدمة الحكومة، وفي التوسل إليها بالتعلم في المدارس
الرسمية، فإن بعض المتخرجين في هذه المدارس من أبناء العرب، وبعض
التلاميذ الذين لا يزالون فيها، يذكرون من تعصب بعض المعلمين عليهم ما لا محل
لشرحه هنا. ومن المشهور عن كثير من الترك الصالحين وغير المتزاحمين معهم
على أعمال الحكومة؛ أنهم يحبون العرب حبًّا دينيًّا، حتى إن منهم من يتبرك
بالعربي؛ لأنه عربي، فالحقيقة الممحصة هي أنه ليس بين الجنسين عداوة ولا
بغضاء.
فنقول: إن الاتحاد بينهما متعذر أو متعسر، وإنما هو التغاير والتنافس في
طلب المناصب والوظائف وفي صفوف المدارس قد وصل مع الغلو إلى التحاسد،
كما أشرنا إلى ذلك في فاتحة النبذة الأولى، ومثل هذا التنافس والتحاسد يقع بين
المتزاحمين من أبناء الجنس الواحد، فتلافيه سهل، إن شاء الله.
والخلاصة أن تاريخ العلاقة بين الترك والعرب، لم يكن فيه شيء أكثر مما
ذكرنا، ولم يكن ذلك في الماضي مما يخطر على بال زعماء العرب السعي إلى
انفصالهم من الترك، واستقلالهم بأنفسهم، ولا ذكر هذا على لسان أحد إلا في عهد
ولاية زعيم الحرية والإصلاح (مدحت باشا) على سورية، ففي عهده شاع أن في
البلاد حزبًا كبيرًا مؤلفًا من وجهاء المسلمين والنصارى في بيروت والشام، يسعى
إلى جعل القطر السوري مستقلاًّ كالقطر المصري تحت سيادة الدولة العلية، ويكون
الخديوي له مدحت باشا.
وقيل: إن بعض الماسون كانوا يسعون إلى جعل الأمير عبد القادر الجزائري
هو الخديوي لهذا القطر. وقد سمعت من والدي - رحمه الله تعالى - أن مدحت
باشا - على سعيه في إصلاح الدولة - اعتقد أن إصلاح البلاد السورية وجعلها
خيرًا من البلاد المصرية، لا يتأتى إلا باستقلالها الإداري، فكان يمهد السبيل
لذلك، فشعر بالأمر رستم باشا متصرف لبنان فكاشف به الدولة، فكان ذلك هو
السبب في عزل مدحت من ولاية سورية. ولكن أخبرني بعض العارفين بدخائل
السياسة في ذلك الوقت؛ أن السلطان عبد الحميد هو الذي أوجد تلك الإشاعة
في سورية؛ ليتوسل بها إلى إخراج مدحت من سورية لأجل الانتقام منه.
ويقال أيضًا: إن لبعض الأجانب يدًا في توجه نفوس الناس في سورية إلى
هذه الفكرة. وقد حدثني بعض أصحابي الذين كانوا من عمال الحكومة في عهد
مدحت باشا؛ أنه سأله عما يقال في هذه المسألة، فقال له زعيم الأحرار: إن هذه
دسائس من الأجانب، يريدون بها فصل سورية من الدولة؛ ليستولوا عليها.
مثل هذه الدسيسة، لا يستغرب من سياسة يلدز التي كانت مبنية على المكايدة
والمخادعة وإخفاء الحقائق بألوان التمويه والتلبيس، وهي التي لعبت بالثورة
العرابية ذلك اللعب المشئوم، ومكنت للإنكليز في أرض مصر، ثم أرادت أن
ترضي سائر الدول القوية بتمهيد السبيل؛ لتمكنهم في سائر أرجاء الدولة في مقابلة
مصر، فأعطت الألمانيين سكة حديد بغداد، وقررت إعطاء الروسيين مثلها على
شواطئ البحر الأسود، وقد راجت تلك الدسيسة الحميدية على أهالي سورية، فشاع
بينهم أن مدحت باشا وهو المعروف بحب الإصلاح، ما أراد إنشاء دولة عربية إلا
بعد يأسه من قدرة قومه على: سياسة الملك، وإقامة العدل، وتشييد دعائم المدنية،
بما تقتضيه حال العصر، فكان هذا أول فكر في التنفير من السلطة التركية سرى
في بلاد عربية، وقد نظمت فيه القصائد البليغة المؤثرة؛ كالقصيدة السينية الشهيرة
لليازجي، ولكنه فكر لم يتلقه السواد الأعظم بالتسليم.
ثم سكنت هذه الأفكار بعد إخراج مدحت باشا من سورية عدة سنين، حتى إذا
ما اشتدت المظالم الحميدية في السنين الأخيرة، وقويت فتنة اليمن، وفتنة مكدونية
عاد بعض الناس إلى الحديث فيها بمصر وأوربا، فكان المشتغلون بالسياسة من
أبناء العرب على ثلاثة آراء: بعضهم يرى السعي في أوربا لاستقلال البلاد
العربية؛ كأصحاب جريدة النهضة العربية في باريس، ولم يكن لهم تأثير لعدم
انضمام أحد من المسلمين إليهم، ولاتهامهم بأنهم يريدون الاستفادة من السلطان عبد
الحميد بالإيهام الذي كان يروج في سوق سياسته أو وسواسه.
وبعضهم رأى أنه يجب اتحاد المسلمين مع اليهود والنصارى على العمل،
ووضع له قانونًا جعل فيه من الامتياز لليهود ما كان ضامنا به أن يبذلوا للمشروع
الملايين من أموالهم؛ ليعطى بعضها لعبد الحميد ورجاله ثمنًا للبلاد التي يراد
استقلالها، وكان يعتقد أن إرضاء (يلدز) بالمال متيسر أو مضمون، وقد أطلعني
صاحب هذا المشروع أنا وبعض أصدقائي على قانونه، فلم نوافقه على السعي له
مع علمنا بما لليهود من اليد العاملة في كل انقلاب كبير في التاريخ، ويؤيده ما
حصل أخيرًا من الانقلابات....
والرأي الثالث: هو ما عليه جمهور المشتغلين بالسياسة، وهو أنه يجب
الاتحاد الدائم بين العرب والترك، والمحافظة على كيان الدولة العلية بالسعي في
إصلاحها وجعلها دولة دستورية؛ ولأجله أسسنا جمعية الشورى العثمانية من جميع
العناصر، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. فهذا ملخص تاريخ هذه المسألة قبل
الانقلاب الأخير، فماذا جرى بعده؟ ؟
للمقال بقية
((يتبع بمقال تالٍ))