للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد أفندي الألفي


الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]

سيدى الدكتور مرجليوث:
إليك ما وعدتك في جواب عن تذكرتك من الملاحظة على بعض ما جاء في
انتقادك لكتاب بلاغات النساء الذي شرحته وطبعته.
(١) جاء في انتقادك أن الكتاب لم يذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر
وأنه قد يكون هو كتاب المستظرفات.
وأفيدك: أنَّ بلاغات النساء هو الجزء الحادي عشر من كتاب المنظوم
والمنثور لابن أبي طاهر، أسماه باسم خاص به هو اسم بلاغات النساء.. إلخ،
وقد اخترت نشره بهذا الاسم؛ لأنه خير عنوان لمشتملاته، وأدعى لإلفات النظر
إليه، فإن غرضي من نشره هو مساعدة الحركة العاملة عندنا لترقية المرأة، وترى
عقب المقدمة التي وضعناها للكتاب إشارة إلى ذلك فلتراجع هذا، وإن كتاب
المنظوم والمنثور ذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر (راجع معجم الأدباء) .
(٢) ثم جاء في الانتقاد: أنَّ إخراج أبي بكر لفاطمة من ميراث أبيها، كان
يقينا بتحريض عائشة التى لم تسامح عليًّا قط؛ فيما كان له من اليد في
حديث الإفك! !
أقول: إن أنباء الحوادث لا تثبت إلا من طريق النقل، وهذه كتب التاريخ
كلها خلو من ذكر ما حسبته يقينًا، ولم يشر إليه في واحد منها لا تصريحًا ولا
تلميماً، فتفردك بقول في حادثة مضى عليه ١٣ قرنًا موضع نظر!
إن الفكر لا يلجأ إلى الاستنتاج العقلي لمعرفة السبب في حادثة تاريخية، إلا
إذا خلت روايتها من ذكره على وجه صريح معقول، وليس ذلك في حادثتنا فإن أبا
بكر لم يخرج فاطمة من الميراث إلا أخذًا بقول أبيها صاحب الشريعة الإسلامية:
(لا نورث ما تركناه فهو صدقة) وقد اقتنعت فاطمة وَآلُهَا وأشراف الأمة حينئذ
بصحة هذا القول، وأقروا العمل به وقبلوه.
إن مثلك لا يند عنه معرفة قوة سلطة الدين على منتحلين في إِبَّان نشأته، كما
كان ذلك في عهد تلك الحادثة حينئذ، والعرب على فطرتهم البدوية وسذاجتهم
الطبيعية، فلا يمكن أن يلتئم مع ذلك أن يجنح أبو بكر إلى هضم إنسان حقه
بتحريض محرض، وأنْ يقره على ذلك الباطل أعيان الأمة، وأن يخفي كل ذلك
على رواة التاريخ فيغفلوه.
إن العيان يكذب أنَّ الموجدة الشخصية تكون سببًا في أن يمنع الإنسان غيره
من حقه، فإن كثيرًا من المتعاملين، يجني بعضهم على بعض، ومع ذلك فقل أن
يكون ذلك سببًا للجسارة على أن يهضم إنسان حق آخر خصوصًا، إذا كان صريحًا
كما في مسألة الميراث في تلك الظروف.
إن عليًّا لم تكن له يد في حديث الإفك، وإنما صدر عنه رأي في تخفيف وقعه
على محمد، وإليك ما نسبته عائشة نفسها إلى علي في هذا الشأن، وقد نقلته عن
كتاب البخاري أصح كتب الرواة الإسلاميين بالإجماع، قالت:
(ثم أصبحت فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد
يستشيرهما في فراقي؛ فأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء
سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعاها رسول الله فقال لها: يا بريرة، هل
رأيت فيها شيئًا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيت منها أمرًا
أغمصه عليها قط
وقد طُوي حديث الإفك بأسبابه ونتائجه؛ لما تحققت براءة عائشة حتى إن أبا
بكر أعاد صدقته على مسطح أحد القائلين فيه، وكان قطعها عنه أثناءه.
إن عائشة لم يكن لها في حياة أبي بكر وعمر إلى أواخر زمن عثمان دخل في
شئون الأمة العامة، وبعيد أن يحصل منها تحريض في مسألة الميراث يخفى خبره
على رواة الأخبار، حتى لا يذكره منهم ذاكر؛ ويجوز باطله على أعيان الأمة في
ذلك الحين، لا يجهر بالحق منهم جاهر.
إن الميراث لم يكن راجعًا إلى علي، حتى تندفع عائشة بدافع موجدتها منه،
فتحرض أباها عليه فيه، بل الميراث ميراث فاطمة والعباس عم النبي وأزواج
الرسول ومنهن عائشة.
جاء في تاريخ الطبري رواية عن عائشة نفسها:
أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر:
أما إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركناه فهو صدقة، إنما يأكل آل
محمد من هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته.
لو لم تقتنع فاطمة والعباس بحجة أبي بكر، أو لو أحسا بأن الدافع إليه حقد
يضم جوانحه عليه، لأبت لهما أنفتهما العربية وهما هما صفوة بني هاشم،
وعزتهما الإسلامية وهما هما آل الرسول وبجانبهما علي وشيعته؛ أن يستخذيا
للباطل، ولأثارا على أبي بكر غارة شعواء لا قبل له بها.
قد كان علي ينفس على أبي بكر منصب الخلافة، ولكن منعه دينه أن
يتعرض لخليفة سلك مسلك الحق، ولو وجد علي في عمل أبي بكر منفذًا يدخل
عليه منه لما ونى، وقد أراده أبو سفيان رأس بني أمية (راجع الطبري) على
مناوأة أبي بكر، فاستعصم علي لعدم المسوغ، وأي مسوغ كان أدعى من أن يجبر
أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله والعباس عم رسول الله ميراثهما بتحريض
عائشة؟
إن أبا بكر في حسن سياسته وقوة إيمانه أجل قدرًا، وأرجح رأيًا، من أن
يندفع بالباطل لمنع آل الرسول حقهم الصريح، وسيرته تترفع بقارئها عن أن يظن
به ذلك؛ خصوصًا أن أبا بكر لما ولي الخلافة تخلف عن بيعته من تخلف، وارتد
عن الإسلام من ارتد، فكان إزاء نارين فارتأى بحكمته مداراة المتخلفين، حتى
سكتوا عنه وراجعوه، وعزم بحزمه حرب المرتدين حتى انصاعوا إليه، فكيف مع
هذه الظروف يجسر على منع رؤوس بني هاشم وآل الرسول حقهم بالباطل؟ وبعيد
جدًّا أن يغلبوا على حقهم الصريح بغالب الباطل والغرض، مع قدرتهم على
المقاومة لو أرادوا، وبعيد جدًّا أنْ يقر العرب أجمع أبا بكر على باطل ارتكبه بدافع
التحريض، وهم الذين أنكروا على عثمان توليته بعض مناصب الدولة لأحداث
قومه حتى قتلوه.
لو أن حادثة الميراث غير معلومة السبب، وكان لابد من تلمس العلة فيها،
لكان خير رأي يتفق مع طبيعة ذلك العصر وظروف هؤلاء الناس ? أن يقال: إن
أبا بكر أراد بتقرير أن النبي لا يورث؛ توهين اعتماد علي في أحقيته بالخلافة
على قرابته من النبى؛ لأنه إذا كان النبي لا ترثه قرابته في عقار وهو ملك
خصوصي، فبالحري، أو بالأولى أن لا تتخذ قرابته وصلة للأحقية في أمر
عمومي.
(٣) أما إسناد خطبة فاطمة فإن ملاحظتك عليه صحيحة، والصواب أن
زيدًا الذى سأله ابن أبي طاهر ليس هو زيد بن علي المتوفى سنة ١٢٢، بل هو
زيد حفيده كان معاصرًا لابن أبي طاهر المتوفى سنة (٢٨٠) . وقد روى ابن أبي
طاهر عنه غير هذه الخطبة كما ورد في صفحة ١٦٢ من الكتاب ذاته؛ إذ قال:
حدثني زيد بن علي بن حسين بن زيد العلوي , فزيد العلوي هذا هو المتوفى سنة
١٢٢، وهو من أجداد زيد المعاصر لابن أبي طاهر.
وعليه فيكون قد سقط من إسناد خطبة فاطمة ثلاثة رجال خطأ من الناسخ
للنسخة الخطية التى طبعت عنها هذا الكتاب.
هذه ملاحظاتي أقدمها مع الثناء الجميل لك، وإعجابي الزائد بفضلك، وأود
أن تنشرها في المجلة التى نشرت فيها تقريظ الكتاب، حتى يطلع عليها قارئو
التقريظ، فلا يفوتهم ما جاء فيها من التصحيحات والملاحظات، أرجو أن ترسل
لي نسخة من العدد الذى تنشر فيه، وعلى كل حال أحب أن تتفضل بإفادتي عن
رأيك فيها، فإن الحقيقة بنت البحث، وهى ضالتنا المنشودة جميعًا.