للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إحياء سنة أو سنن
وإماتة بدع
لقد كانت حياة الفاضلة مُنجبة الفضلاء والدة أصحاب العزة سعد بك وأحمد
فتحي بك زغلول خيرًا؛ لما كانت تأتيه من أعمال البر والإحسان، وكان في مماتها
خير لما أمات من البدع وأحيا من السنن.
مَن كان يخطر على باله أن العادات السيئة التي أضرت بالدين والدنيا تحكم
على العلماء وأهل الهداية والإرشاد، فلا يحاولون التفصي من عقلها والانطلاق من
قيودها، ثم تكسر مقاطرها (جمع مقطرة: خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل
المحبوسين وقد فسرت قبلاً) بأيدي علماء القانون وقضاة المحاكم الأهلية النظامية
الذين يتوهم المعتزلون عن العالم في خلواتهم ومساجدهم أنهم لا يبالون بخدمة الدين
والانتصار لأصوله الشريفة والتدقيق في أحكامه والعمل على إحياء سننه وآدابه
الكافلة لسعادة الأمم.
يقضي الميت في بيوت رجال الدين، فتنشر الشعور، وتدق الصدور، وتلطم
الخدود، وتشق الجيوب، وتسودّ الوجوه والملابس، وتقلب أوضاع المساكن،
وتصيح الصائحات، وتعدِّد النائحات، وتسير الجنازة والنار توقد أمامها، ودخان
البخور يتصاعد من المجامر الفضية (إذا كان الميت غنيًّا) أو غير الفضية، ويعلو
الضجيج من فرق أهل الطريق، فمنهم من يقرأ الأوراد، ومنهم من ينشد
الأشعار، كالبردة والمنبهجة، فتختلط أصواتهم بأصوات النساء الصارخات إلخ
ما هو مشاهد لجماهير القراء، ثم تعقد محافل المآتم ويكون فيها من الإسراف
والتبذير والعادات السيئة المستثقلة التي ينكرها الشرع وينبذها العقل ويتبرم منها كل
ذي علم وفضل ودين وأدب ولكنهم يقولون: العادات محكمة لا مرد لقضائها.
ربما تراءى لكثير من الفضلاء أن يتفلتوا من أسر هذه العادات، ولكن يصدهم
عن ذلك خوف اللائمة من المقيدين بتلك السلاسل ورميهم بالبخل والفرار من النفقات.
ولكن للحق رجالاً لا تأخذهم فيه لومة لائم، يؤيد الله تعالى بهم الفضائل ويحيي
السنن الدوارس.
مرضت الفاضلة التي ذكرناها في صدر هذه النبذة في بلدها خارج القاهرة،
فلما اشتدت عليها وطأة المرض وأحست بدنو الأجل طلبت الانتقال إلى العاصمة
لتموت فيها هربًا من العادات الجاهلية التي يجري الناس عليها في المآتم، ولا
مناص منها في الأرياف، وكأنها واثقة بحسن تربية نجليها وقوة عزيمتهما في
مقاومة العادات القبيحة مع مظهرهما العظيم، وكذلك كان. فقد أبطلا في تجهيزها
وجنازتها بدعة النواح وما يلتحق به مما أشرنا إليه آنفًا، وبدعة حمل النار والتبخير
أمام الجنازة التي سرت إلى المسلمين من أهل الملل الأخرى، وبدعة رفع الأصوات
في الأوراد والأشعار التي مر ذكرها، وبدعة الاحتفالات ليالي الجمع إلى أربعين
يومًا وأعلنا أنهما يقبلان التعزية ثلاث ليال فقط؛ اتباعًا للسنة الشريفة.
وقدرا ما ينفق عادة في الاحتفالات المعتاد أمثالها من الذوات أصحاب المظاهر،
وقررا إعطاءه للجمعية الخيرية الإسلامية لتوزعه على الفقراء، فسنا بذلك سنة
حسنة تسهل السبيل على من يريد ترك الاحتفالات التي يسمونها (المياتم) ويخشى
اللائمة والرمي بالبخل. ومعلوم أن جنازة هذه الفاضلة قد حضرها خواص المصريين
من جميع الطبقات: العلماء والأمراء والحكام والتجار، كما فصلت ذلك الجرائد
اليومية، فعسى أن يجري الجميع بعد هذا على إماتة البدعة وإحياء السنة وإصلاح
العادات الفاسدة المضرة بالدين والمال، فقد رأوا أن ما كان يحذر من الذم والقدح على
ترك هذه العادات قد استبدل به الثناء والمدح، فما من عاقل إلا وهو يلهج الآن بالثناء
على سعد بك وفتحي بك الفاضلين، وأجدر بشيوخ العلم والطريق أن يكونوا من
السابقين إلى ما ذكر على الوجه الأكمل، والله ولي المتقين.