للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

تكلمنا في العدد الماضي على أهم أركان الإصلاح الإسلامي وهو: التوحيد في
العقائد والتعاليم الأدبية والأحكام القضائية والمدنية واللغة، وقلنا: إن هذا الإصلاح
يتوقف على تأليف جمعية إسلامية على الوجه الذي ذكرناه، وإنما التوقف بالنسبة
لكمال الإصلاح وسرعة إنجازه وتعميمه، حتى في الأحكام وفي جميع الشعوب
الإسلامية، كما هو ظاهر، لا بالنسبة لأصل الإصلاح، وإن كان بطيء السير
وغير شامل لجميع الفروع، وقد وعدنا بأن نذكر بعد التواحيد الثلاثة أهم ما يناط
بالجمعية وشُعبها من الأعمال (وهي ثلاثة) وأهم نتائجها، وإنجازًا للموعد نقول:
العمل الأول: تلافي البدع والتعاليم الفاسدة قبل انتشارها:
لو تنبه الخلفاء لهذا العمل من القرون الأولى - وهو أهم وظائف الخلافة - لما
انتشرت التعاليم الباطلة التي زعزعت العقائد وأفسدت الآداب، ولبست المسلمين
شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، ولا تزال هذه التعاليم تنجم كقرون المعز،
فتزيد الأمة تفريقًا، فإن المذاهب التي حدثت في هذا القرن من فروع الباطنية قد
انتشرت بسرعة غريبة استلفتت أنظار الأمم المتيقظة، وإن عمي عنها الذين لا
يبصرون، وصم عنها الذين هم عن السمع معزولون، لاعتقادهم أن التربية والتعليم
لا يفيدان، وأنه لا يؤثر في الأمة إلا الملوك والحكام. وأن تعاليم أخرى باطلة تنشر
بين المسلمين آنًا بعد آن، منها ما يزعزع العقائد، ومنها ما يفسد الآداب ويجرئ
على استباحة المحظورات، وتتلقاها العامة - وأكثر الناس عامة لا علم لهم بالدين -
بالقبول، ويكون لها أقبح الأثر في أعمالهم وأخلاقهم.
أذكر منها الآن شيئًا واحد، أطلعني عليه من عهد قريب بعض الإخوان
المتنبهين، وهو دعاء طبعه (عبد اللطيف القباج) المقيم في مصر ووزعه مجانًا
ليعم نشره، وسماه: (دعاء سيدي عبد الله بن سلطان) صدَّره واضعه بحديث
مكذوب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ملخصه: أن رجلاً من الصحابة اسمه
(محمد بن سلطان) كان يفعل القبيح ويشرب الخمور ويداوم على الفسوق والفجور،
وكان لا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر إلا
أنه كان يقرأ استغفارًا في أول شهر رجب، فلما حضرته الوفاة نزل جبريل على
النبي يبلغه أمر الله بحضور وفاته وتجهيزه، ففعل ووجد الملائكة والحور العين قد
اجتمعوا صفوفًا، لا يحصي عددهم إلا الله يحضرون جنازته ... ولما وقف النبي
عليه السلام على سبب ذلك من زوجته وأنه الاستغفار الذي ذُكر آنفًا أمر عليًّا كرم
الله وجهه بكتابته وقال: (مَن قرأ هذا الاستغفار أو جعله في داره أو متاعه أو حمله
معه في سفره، جعل الله له ثواب ثمانين ألف ملك وثواب ثمانين ألف صديق
وثمانين ألف شهيد وثمانين ألف كذا وكذا ... ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة
واحدة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليس عليه حساب ولا عقاب، وبني
له ألف قصر في الجنة في كل قصر ثمانون ألف حجرة في كل حجرة ثمانون ألف
سرير على كل سرير حورية من الحور العين وشجرة تظلها وفيها ثمانين ألف ورقة
كل ورقة مثل الدنيا. ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة، فإن الله تعالى
يعطيه ثواب أهل مكة والمدينة وبيت المقدس، وإن مات أمر الله سبعين ألف ملك
يشيعون جنازته، واذا قام من قبره يوم القيامة يضيء وجهه مثل القمر فيقول
الخلائق: هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، فيقول جبريل: لا ورب الكعبة لا نبي
ولا ما لك، بل هو عبد من بني آدم أكرمه الله بقراءة هذا الاستغفار، ثم يأتي الجنة
فيدخلها بغير حساب ولا عقاب) ثم يذكر له فوائد دنيوية، ويختم الكلام بقوله:
(ومَن شك في ذلك فقد كفر) يعني من شك في هذا الحديث الموضوع لهدم الدين
وإبطاله بالمرة وإباحة جميع المحرمات فهو كافر، وبعبارة أخرى: من شك في
الكفر الحقيقي، وهو ما ذكرناه من فوائد الاستغفار فهو كافر في عرفه واصطلاحه،
(نعوذ بالله) .
ما الذي أثار هذه الأوصاف في ذهن واضع هذه الفرية، وما الذي أغواه حتى
وضع هذه الأضلولة؟ أثارها في خاطره موضوعات أخرى من قبيلها، تلقَّى بعضها
من الدفاتر وبعضها من خطباء المنابر، وأقربها إلى فتنته ما يسمونه: (دعاء
عكاشة) وهو مطبوع تتداوله الأيدي وتقرأه الألسن ويتخذه الناس عوذة (حجابا)
للحفظ من الشياطين ومن الأمراض، وهو أكذوبة موضوعة كذبها على النبي عليه
السلام بعض الدجالين المضلين، كواضع هذا الاستغفار.
وأخف من ذلك في الإضلال والإغواء، ومثله في الكذب على سيد الأنبياء:
ما نسمعه من خطباء الجهل والفتنة من الغلو في مدح الشهور، وبيان فضائلها،
ومنها أحاديث كثيرة في صوم رجب، ومنها الحديث المشهور عند الخطباء في
فضل رمضان، وهو: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من
النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) ويروى بغير هذه الألفاظ وهو
موضوع لا أصل له.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا كيلا يغتر به الجهلاء أن جريدة طرابلس التي
تدَّعي خدمة الدين قد أوَّلت هذا الحديث بما حسب صاحبها أنه يقربه من الأفهام (وما
هدم الأديان إلا تأويل الأباطيل) لأنه مع كذب روايته بعيد عن العقل، وفي
تأويله غش للعامة بتصديقه والاغترار بوعده الذي يستلزم عتق جميع أفراد الأمة من
النار، وعدم مؤاخذة أحد منهم بذنب فيما يتبادر إلى الأذهان، ونعوذ بالله من
الخذلان (وسنوفي هذه المسائل حقها من البحث في مواضعها إن أمهل الزمان ووفق
الرحمن) .
تراقب الجمعية بواسطة أفراد شُعبها جميع المطبوعات، كما تراقب دعاة الفتنة
وكلما وقفت على شيء من البدع والأباطيل تنبه عليه في جرائدها، وتوعز إلى
الخطباء والمدرسين بالتنبيه عليه والتحذير منه، وبذلك يقف تسياره ويمتنع انتشاره.
العمل الثاني: إصلاح الخطابة
الخطابة: ركن من أركان العبادة في الديانة الإسلامية. ومن وقف على ما لها
من الأثر الحميد في الأمم المتمدنة، وما لها من الشأن في جمع كلمتهم وتأليف قلوبهم.
وتنشيطهم إلى العمل في إسعاد أمتهم ووطنهم فقه سر جعلها من أركان العبادة
المشروط فيها الاجتماع. وقد مات روح الخطابة في المسلمين، وصار هذا الركن
رسمًا ماثلاً، بل يكاد يكون دارسًا، بل صارت الخطابة وظيفة يقصد بها التعيش،
فتناط بالجهال وتنال بالوراثة، مع أنها وظيفة الإمام الأعظم أو نائبه، وإنما كانت
كذلك لأن من شأن هؤلاء أن يكونوا عارفين بمصالح الأمة واقفين على سائر
شؤونها، وأصحاب الكلمة المسموعة والسلطة النافذة فيها. ولا سعة في هذا المقام
لتوفية هذا الموضوع حقه فنؤجله لفرصة أخرى ونكتفي بالإشارة إلى عمل الجمعية
فيه، وهو أمران:
أولهما: تأليف خطب في مصالح الأمة، تطبع وتوزع على الخطباء الذين لا
يحسنون الخطابة بأنفسهم، وهم الأكثرون، ويأمر الخليفة بأن يخطب بها دون
سواها إلى أن يوجد خطباء حقيقيون، والأولى أن تجدد هذه الخطب كل عام.
والثاني: تعيين الطريق لتحصيل ملكة الخطابة، ليسلكه كل مرشح لها،
فيكون خطيبًا مصقعًا طبعًا لا تكلفًا، ولا يوجه الإمام هذا المنصب على أحد إلا بعد
اختياره من شعبة الجمعية التي في بلاده بأن تقترح عليه أن يخطب في مواضيع
مختلفة على البداهة، والشهادة له بالإجادة.
العمل الثالث: الدعوة إلى الدين
نعني بالدعوة إلى الإسلام ما يشمل الدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى
فضائله وآدابه وأعماله التي تؤدي إلى سعادة الدارين، ويدخل في هذا النهي عن
المنكرات والفواحش. وأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم
دعائم الديانة الإسلامية، وسنفرد لها مقالات خاصة إن شاء الله تعالى.
من قرأ التاريخ الحديث علم أن المسلمين الضاربين في أحشاء إفريقية ويعدون
بعشرات الملايين ما تناولوا الدين الإسلامي بدعوة من العلماء والخطباء، ولا
اعتنقوه بإلزام من الملوك والأمراء، وإنما دخل بلادهم بعض التجار والمحترفين من
نحو مزين وحجام، فرأوا منهم ثيابًا وأبدانًا نظيفة، ونفوسًا عفيفة، وسجايا شريفة،
واعتقادات معقولة، وفعالاً جميلة، فقلدوهم مختارين، ودخلوا في دينهم طائعين.
من وقف على هذا وعلى الأسباب الصحيحة لانتشار الدين الإسلامي في كل
قطر وكل عصر من العصور تجلى له أن هذا الدين لو وجد له دعاة كدعاة الأديان
الأخرى لما بقي للوثنية هيكل يقصد، ولا صنم يعبد، ولظل الناس يدخلون فيه
أفواجًا من جميع الملل، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ولكن أهله لم
يكتفوا بعدم الدعوة إليه، بل أوقفوا سيره بأقوالهم وأعمالهم المخالفة لهديه. فإذا وفق
الله المسلمين للاستعداد للدعوة، كما تستعد الدعاة من الملل الأخرى، وطافوا بلاد
الله مبشرين ومنذرين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما أمرهم الكتاب
العزيز - رأيت للإسلام شأنًا عظيمًا وانتشارًا عميمًا.
إن وجود الجمعية التي نتكلم عنها يكون عونًا عظيمًا للوصول إلى هذه الرغيبة
ولكن لا يتوقف عليها إلا في كماله.
أهم نتائج أعمال الجمعية
إذا تحققت الآمال ونجحت هذه الأعمال، فلا ريب أن الحكومات الإسلامية
يتقرب بعضها من بعض، وتظهر فيهم الأخوة الإسلامية، ويتحدون على صد
هجمات أوروبا عنهم، وإيقاف مطامعها عند حدود معينة، ولا يمنع اختلاف
المذاهب من ذلك بعد ما قررناه، ولا يصعب على السلطان الأعظم أن يأذن للشيعة
بإقامة إمام لهم في مكة المكرمة إذا توقف الاتحاد والالتئام على ذلك. ولقد كان
للعثمانيين في ذلك من الإباء المنبعث عن تعصب بعض شيوخ الإسلام وجهله
بسياسة الملة ما رمى هاتين الدولتين الإسلاميتين (العثمانية والإيرانية) بالانفصام
والافتراق، بعد وشك الاعتصام والالتصاق، أما حرص كل ملك وأمير على كمال
الاستقلال في بلاده وامتناعه عن الاعتراف للآخر بالرئاسة الدينية، فهو من عقبات
الإصلاح المطلوب، ولكن الشعور العام بالخطر الذي يتهدد الجميع بالافتراق مع
الأمن من مس الاستقلال الإداري والسياسي يسهل على الجميع إسناد الرياسة الدينية
لأرفعهم مكانة، وأعلاهم منزلة، وأقواهم دولة.
وغاية هذا الاتحاد أن تكون هذه الدول كالدول المتحالفة بالنسبة للأمور
الخارجية وكالولايات المتحدة في الإصلاحات الداخلية، كالتربية والتعليم، ووحدة
الأحكام والآداب واللغة، ولو لم يتم ذلك إلا في زمن طويل، وأن لا يكون لأحد منهم
سيطرة في ملك الآخر أو إمارته، بل تسير كل مملكة وكل إمارة في إدارة بلادها
بإرشاد مجلس الشورى الذي ينتخبون أعضاءه من عقلاء بلادهم.
هذه إشارات مجملة في هذا المقام سنحت للخاطر، ومتى وفق الله للعمل تنحل
بأيدي القائمين به عقد كل إشكال، وصحة القصد تهدي كل ذي ضلال.
لا سلامة للجمعية الكبرى إلا بسلامة البلاد الحجازية وإغنائها عن الأجانب فيما
تتوقف عليه حياة أهلها، وقد قلنا في مقالة سابقة: إن معظم قوت تلك البلاد يجلب
إليها من مواني البحر الأحمر، فإذا تسنى لمثل إنكلترا الاستبداد فيه وحصر موانيه،
فإن أهل الحجاز يموتون جوعًا. فيجب على الدولة العلية على كل حال (وإن
ذكرناه بمناسبة الجمعية التي اقترحناها) العناية الكبرى في عمارة تلك البلاد:
أولاً: بإنشاء طريق حديدي من دمشق الشام إلى مكة والمدينة والطائف.
وثانيا: بتسهيل السبل لإحياء ما فيها من الأراضي الموات الصالحة للزراعة
والانتفاع بالينابيع التي تفور في مكان وتغور في آخر، ولا ينتفع فيها بري الأرض
وغرسها.
هذه هي خدمة الحرمين الشريفين لا توزيع الصدقات على طوائف وقبائل
مخصوصة، فإن قامت بها الخلافة الإسلامية والدولة العلية فإن الإسلام يشكرها على
ذلك بلسان كل آخذ به، وإلا فإن ركنًا من أركان الدين على خطر الوقوع تحت
سلطة الأجانب أو محوه وإعدامه بالمرة (لا قدر الله تعالى) .
ونسأل الله تعالى وهو أكرم مسئول أن يؤيد خليفتنا ومليكنا، ويوفق أمتنا إلى
كل ما فيه خير للملة وسعادة لأبنائها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم
النصير.