للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي

س ٦- مِن صاحب الإمضاء الرمزي في سورا كاراتا (جاوه) .
حضرة سيدي الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا المحترم حفظه الله تعالى
آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أقدم إلى سعادتكم سؤالاً خطر
ببالي وليس يجيبني غيركم عنه وهو هذا:
ما قولكم - رضي الله عنكم - في الأئمة الأربعة ومقلديهم من عصرهم إلى
هذا الزمان هل ما دوَّنوا في كتبهم وتبعهم عليه أتباعهم؛ هل أخذوه عن الكتاب والسنة
أم من تلقاء أنفسهم؟ وهل مقلدوهم في الأحكام الشرعية على هدي أو في ضلال؟
وهل الأئمة المتأخرون مثل ابن حجر المكي ومَن هم في طبقته دوَّنوا كتب الفقه
على ما جاء به الكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ فإن كانوا وضعوها على خلاف
السنة والكتاب فالمطلوب من فضلكم بيان ما يخالف الكتاب والسنة؟ لأجل أن نجتنبه
ونعمل بما يوافق الكتاب والسنة ونعلم بخطئهم لأن كتبهم معتبرة في الأحكام الشرعية
ويحكمون بما قرروه فيها في المحاكم الإسلامية.
أفيدوني بالجواب الشافي لأني رجل عامّيّ أخذتني الحَيْرة لما وقفت على
السؤال الذي ورد إليكم من بتاوى، وجوابكم عنه في الجزء الثامن من المجلد ١٢ سنة
١٣٢٧ صفحة ٦١٤ من المنار فلهذا رفعت إليكم هذا السؤال أرجو من فضلكم
الجواب الشافي، ولكم من الله الأجر والثواب ولا تقدموا عذرًا في ذلك، وهذا سؤال
آخر ملحق بما تقدم.
ما قولكم في العامي المقلد، هل يجوز له الاجتهاد المطلق ويترك مذهب إمامه
أم لا؟ وكيف يبلغ رتبة الاجتهاد مَن لا يعرف قواعد مذهب إمامه أفيدوني مأجورين؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ب. ر س

ج - كان الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى على هدًى من ربهم يتبعون ما فهموه
من كتاب الله عز وجل وهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلف
الأمة الصالحون من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وما لم
يجدوا فيه نقلا يُتَّبَع قاسوه على نظيره مما ورد من آية أو حديث فهم مجتهدون
مأجورون على ما أصابوا فيه مرتين وعلى ما أخطأوا فيه مرة واحدة كما ورد في
الحديث، ومن حذا مِن أتباعهم حَذْوَهم هذا وجرى على طريقتهم في اتباع الكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة، كمحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة والمزني
من أصحاب الشافعي (مثلاً) فهم مثلهم على هدًى من ربهم.
وأما المتأخرون كابن حجر المكي فهم ليسوا من الأئمة الذين ينظرون في
الكتاب والسنة ابتداءً ويقدمون ما يفهمون منهما على قول كل أحد ورأيه وإنما هم
ينظرون في كتب السابقين من أهل المذهب الذي انتموا إليه ويأخذون مؤلفاتهم منها
إما بتلخيص واختصار، وإما ببسط وإيضاح كل بحسب فهمه وقدرته على الكتابة
وما يذكرونه فيها من الأدلة منقول من تلك الكتب أيضًا فالواحد منهم لا يتحرى في
المسألة كل ما ورد في الكتاب والسنة وهدي السلف فيأخذ بالراجح، بل منهم من
يظهر له الدليل على خلاف مذهبه فلا يكتبه في كتابه، بل ربما تمَحَّل في الرد على
من أخذ بذلك الدليل الراجح من أهل المذاهب الآخر انتصارًا لمذهبه، بل يفعل هذا
مَن هم في طبقة أعلى مَن طبقة ابن حجر كالنووي فإنه في كتبه الفقهية يستدل على
صحة المسائل التي يعلم أنها مرجوحة من مسائل المذهب؛ إذ وزنت بميزان الكتاب
والسنة، وقد يصرَّح هو نفسه بذلك في غير كتب الفقه كما يقول النووي - رحمه
الله تعالى - في شرحه لصحيح مسلم أحيانًا، الأصح من حيث الدليل كذا ومن حيث
المذهب كذا، وقد يقول في بعض مسائل المذهب: إنه لا يقوم عليها دليل، ومن
ذلك - إن لم أكن واهمًا فيما أتذكره وأنا بعيد عن الكتب - مسألة الغسل من
نجاسة الخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب، وقد نقل الغزالي عن بعض الفقهاء
الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق أنهم كانوا يفتون على مذهب الأئمة
الذين اشتهروا بالانتماء إليهم ويعملون بخلاف ما أفتوا به، ويعتذرون عن ذلك بأن
السائل إنما سألهم عن الحكم في مذهب الإمام فأجابوه عما سأله من باب الأمانة في
النقل، وأنه لو سألهم عن مذهبهم لأفتوه به.
تلك الكتب التقليدية لا يقال إنها وضعت على أصل الكتاب والسنة كما يقال في
مثل (كتاب الأم) للإمام الشافعي - رضي الله عنه - لأنها وإن كان الغرض منها
بيان أحكام مذهبه لم تؤخذ من الكتاب والسنة مباشرة، ولم يلتزم مؤلفوها ذلك لأنهم
يعتقدون في أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً للأخذ من الكتاب والسنة، ولا يقال إنها وضعت
على خلاف الكتاب والسنة لأنه لم يقصد بها ذلك الخلاف، ومطالبتنا ببيان ما فيها من
مخالفة الكتاب والسنة لأجل أن يجتنب من الإعنات فإن مَن يريد ترك تقليد تلك
الكتب واتباع الكتاب والسنة مباشرة لا يحتاج إلى قراءتها على طولها وصعوبتها
وبيان ما يوافق الكتاب والسنة منها وما لا يوافقه، بل الأَوْلى والأسهل له أن يقرأ
الكتاب والسنة ابتداءً ويعمل بهما، فإن كان لا يفهمهما بنفسه ويقول أريد أن أستعين
على فهمهما بكلام العلماء، يقال له: اقرأ التفسير وشرح الحديث ولا سيما تفاسير
السلف كابن جرير ومثل شرح الشوكاني لأحاديث الأحكام، وكتاب (الهدي النبوي)
لابن القيم واستعن بها على ذلك فإن اختلف المفسرون والشارحون فاعمل بما يظهر
لك أنه الحق من كلام المختلفين، ومَن لا يريد ترك تقليدها فلا يسمع لك فيها قولا
وإن أقمت له عليه ألف دليل.
وأما العامي المقلد فلا يجوز له أن يتصدى للاجتهاد المطلق ما دام عاميًا ليس له
من العلم ما يؤهله لذلك، بل عليه أن يستفتي في المسائل التي يجهل حكمها أهل
العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمتى رووا له في المسألة
نصًّا صحيحًا وجب عليه العمل به، فإن لم يفهم النص استعان بهم على فهمه، وإن
العوام الذين يسألون في الوقائع التي تعرض لهم عن قول مثل ابن حجر فيها لا
يفهمون أقوالهم بل يعتمدون على المفتي في إفهامهم إياها، فإذا كانوا محتاجين
للمفتي في كل حال فلماذا يستعينون به على فهم قول مقلد قد تبع في كتبه أمثاله ولا
يستعينون به على فهم كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحديثه؟
الجواب عن هذا السؤال سهل على المقلدين مشهور بينهم يقولون: إنه لا يوجد في
هذه العصور من يقْدِرُ على فهم الكتاب والسنة بنفسه وإنما قدر على ذلك في القرون
الأولى أفراد معدودون وفهم كلام هؤلاء أفراد دونهم وهكذا كان أهل كل عصر
يفهمون كلام من قبلهم مباشرة فيجب على المتأخر أن يأخذ بكلام مثل الباجوري الذي
أخذ من مثل الرملي وابن حجر اللذين أخذا من مثل الشيخ زكريا الذي أخذ عن مثل
النووي الذي أخذ عن مثل الغزالي إلى أن يصلوا إلى الشافعي، ويجيبهم أهل السنة
بأن كلام الله ورسوله أفصح الكلام فهو أسهله فهمًا، وأن الأئمة المجتهدين حرموا
الأخذ بكلامهم من غير معرفة مأخذه من الكتاب والسنة، وبغير ذلك مما بيناه في
محاورات المصلح والمقلد وفي مواضع أخرى من المنار وهي تبلغ مئات من
الصفحات فلا يمكن تلخيصها في هذا الجواب، والله الهادي والموفق للصواب.