للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من سنغافوره

س ٧، ٨، ٩ من س. س. ي. في سنغافوره.
سيدنا الرشيد المرشد صاحب المنار الأغر أفدنا أدامك الله نفعًا للأنام.
١- ما حكم مجلة طوالع الملوك، وما حكم الإعلان عنها، وإلفات الناس
إلى تُرّهاتها، وهل ذلك من خدمة الدين والوطن، ولماذا سَكَتَ عنها وعن ما يقال فيها
علماء مصر؟ ألقولهم بنفعها أم لعدم اكتراثهم بما يتعلق بالدين والمصالح العامة
أم لجهلهم بحالها؟
٢- بينوا لنا حال الشيخ ابن حجر الهيتمي ومنزلته في العلوم ومنزلة كتبه
فإني رأيتها كثيرة التعقيد وعباراتها سيئة التركيب وكثير منها يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال أن يجمع ما حوته من المعاني في أقصر منها وأسلس
وأوضح، ويظهر لي أنه شديد التعصب للصوفية يتعسف في تأويل طامّات بعضهم
ثم هو يذم ويسب شيخ الإسلام ابن تيمية وينبزه بتكفير المسلمين ولعل مَن كفّره ابن
حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) أضعاف مَن كفّره ابن تيمية ويظهر لي
أيضًا أنه سامحه الله يتعصب ضد أهل البيت مع تظاهره بحبهم ويتأول لأعدائهم بما
هو بديهي البطلان أو قريب منه حتى خِلْت أنه مقلد محض وآل حضرموت يقدسونه.
٣- إن سيدي له إلمام ومعرفة بأحوال الصوفية فما هي حقيقة التجزي
الذي يزعمونه، وهل له شاهد أو دليل عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم،
وهل عرفه الصدر الأول أم لا؟ .
حكم مجلة طوالع الملوك
والترغيب فيها بالإعلان
(المنار)
جاءتنا هذه الأسئلة في العام الماضي فلم ننشرها بل قدمنا عليها بعض ما
عندنا من الأسئلة الكثيرة عملاً بتقديم الأهم على المهم، وقد أعاد السائل علينا أسئلته
من عهد قريب وألح في طلب الجواب فنقول: أما مجلة طوالع الملوك فإننا لم نقرأها
لنرى ما فيها فلا ترسل المنار إلى صاحبها ولا هو يرسلها إلينا، ومن البديهي أننا لا
نشتريها، ولكننا سمعنا بعض من اطلع عليها من أهل الفضل يقولون: إنها مجلة
عرافة وكهانة وتنجيم وروحانيات وطلسمات، ورأينا في بعض الجرائد وصفًا لها
بنحو من ذلك في باب الإعلان ولا عجب فإن الجرائد لا تتنزه عن التكسب بإعلان
المنكرات وترويجها، كترغيب الناس في الخمور ورقص النساء المتهتكات وبعض
ضروب القمار؛ فإذا صح ما سمعناه من وصف هذه المجلة فحكم قراءتها كحكم
قراءة الكتب المشتملة على مثل ما تشتمل عليه وهو يختلف باختلاف قصد القارئ
فإنْ كان يقرأها ليأخذ بأقوالها ويعمل بما فيها مما يحظره الشرع فقراءته إياها
محظورة حظرًا شديد، وقد بينا من قبل بعض ما قاله العلماء في هذا الباب، وممن
شدد فيه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية، ويقرب أن يكون تصديق ما فيها
من الأخبار عما وقع أو سيقع كتصديق العرافين والكهان في حديث مسلم (مَن أتى
عرافًا فسأله وهو يصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم،
وإن كان يقرأها ليعرف ما فيها ويُحذّر الناس مما فيه من مخالفة الشرع فهو مثاب
على قراءتها، ولا يخفى حكم سائر المقاصد.
وسكوت علماء مصر عنها يحتمل أن يكون سببه عدم الاطلاع عليها؛ لأنه
قلما يوجد فيهم مَن له عناية بالوقوف على أمثال هذه المطبوعات، ولكن هذا
الاحتمال بعيد، والغالب أن يكون قد اطلع عليها بعضهم دون بعض، فيوشك أن
يكون منهم من اطلع على جزء أو أجزاء لم يستنكر منها شيئًا، وأن يكون المستنكر
لبعض ما فيها قد نهى عن قراءتها أو عن نشرها بالقول دون الكتابة في الجرائد، وأن
يكون منهم من لم ينه صاحبها عن نشرها ولا الناس عن قراءتها مع اعتقاده بطلان
ما فيها وتحريم نشره وتصديقه؛ لأن المنكرات قد كثرت وأَلِفَ العلماء وغيرهم ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا قليلاً منهم، ولاسيما الإنكار بالكتابة أو النشر
في الجرائد، ولكن هذا الذنب لا يصح إسناده إلى علماء مصر كافة لما ذكرناه من
الاحتمال والغالب في المسألة.
ابن حجر الهيتمي وكتبه
وأما ابن حجر الهيتمي فحاله في العلم قد بيناها في الفتوى السادسة من هذا
الجزء، فهو مقلد لفقهاء الشافعية في مرتبة الذين يرجحون بعض أقوالهم على بعض،
وكتبه من أحسن كتب متأخريهم ولكنها لا تبلغ كتب النووي في انسجامها وسلامة
عبارتها، ولا كتب الماوردي في أسلوبها وبلاغتها، ولا كتب الغزالي في بسطها
وفصاحتها، ومع هذا نرى السائل قد بالغ في هضمها إذِ ادعى أنه يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال جمع ما حوته من المعاني في كتب أخصر منها وأسلس وأوضح،
وقد بينا رأينا فيما شُنّع به على شيخ الإسلام ابن تيمية في (ص٦٢٢م١٢)
فليراجعه السائل، نعم إنه يتعصب للصوفية لأنه تربى من صغره على الخضوع
والتسليم للمنتسبين إلى التصوف المعروفين بالصلاح والتأويل لهم فيما يخالفون فيه
الفقه الذي هو عنده فوق كل علم لقوله في فتاويه: (إن أقوال الفقهاء إذا تعارضت
مع أقوال المفسرين أو المحدثين فالمرجح الذي يجب العمل به هو ما يقوله الفقهاء) ،
ولكن لا يظهر لي ما ظهر للسائل من تعصبه على آل البيت وإن تأوَّل لأعدائهم
كما قال، ولكنه مقلد كما خال، ومن شأن الذين يضعون الكتب في المسائل الجزئية
أن يتمحلوا ويتعسفوا ويأتوا بالضعيف واللغو الذي لا يفيد المراد ولا يؤيد المقصود،
فهذا أحد سببين في تهافت ابن حجر في كتابه (تطهير اللسان والجنان) الذي يشير
إليه السائل، والسبب الثاني هو الانتصار لقوم على قوم، ومن كان كذلك لا يظهر له
الحق في المسائل كما هو لأنه لا ينظر إليها من كل جانب، بل يوجه كل قواه
المدركة إلى البحث عما يوافق غرضه من تأييد رأي وتفيند آخر فيُكبّر الأول
ويصغر الثاني إنْ هو أدركه، وتقديس أهل حضرموت له سببه أنهم مقلدون لعلماء
الشافعية وقد جعلوا كتبه عمدتهم في المذهب كما اشتهرت كتب الشمس الرملي من
أهل طبقته في مصر.
التجزي عند الصوفية واصطلاحاتهم
لا نكتب في المنار شيئًا من حقيقة التجزي إلا إذا علمنا أنّ في الناس من
يفهمونه فهمًا ضارًّا في الدين وترجى هدايتهم بالمنار، ولكننا نقول: إنه ليس من
الأمور الدينية، وإنما هو من قبيل الاصطلاحات الفنية، وهكذا نقول في أكثر
اصطلاحات الصوفية كالفرق والجمع والسكر والصحو. فالقوم قد استعاروا لأنفسهم
ألفاظًا من اللغة أخرجوها عما وضعت لأجله وعبَّروا بها عن أذواقهم ومعارفهم كما
فعل غيرهم من أهل الفنون اللغوية والشرعية والعقلية والطبيعية فلا يشترط في
إباحة ذلك لهم أن يكون كل ما يقولون به قد نطق به الشرع من قبل، وغاية ما ينكر
عليهم في ذلك أمران: أحدهما: أن يجعلوا بعض عُرْفهم واصطلاحهم من الدين
والشرع بغير دليل شرعي، وثانيهما: أن يكون في ذلك ما ثبت بالدليل أنه مخالف
للكتاب والسنة الثابتة بلا نزاع وذلك أنه فلاسفة يدينون بالإسلام، مع الاجتهاد
والاستقلال، إذ الصوفي الحقيقي لا يكون مقلدًا إلا في بداية سلوكه فإنه حينئذ يقلد
أستاذه ومربيه دون غيره.