للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قضايا مسلَّمة
في طعن عوام الشرقيين في الأوروبيين

من القضايا المسلمة عند جماهير الشرقيين أن الأوروبيين ما بلغوا شأو
الشرقيين في الطب ولا قاربوا، وأن الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة
وفي التطبب تضعف بنيتهم وتضوى أجسادهم وتفشو فيهم الأمراض والأدواء. وأن
عقولهم ضعيفة لا تدرك العلوم العويصة ولا تصل إلى المسائل الدقيقة، وما امتازوا
على الشرقيين بشيء من العلم إلا بالصناعات العملية، ويعبرون عن هذا الاعتقاد
بقولهم: (الإفرنج عقولهم في أيديهم، وبعضهم يقول: في أعينهم) وأن الفضائل
بعيدة عنهم بمراحل، فهم أصحاب خفة وطيش، سريعو الحركة يعدون في المشي
عدوًا، قليلو الأدب، يجلسون مادين أرجلهم مهما كان جلساؤهم عظامًا، بخلاء أشحاء
لا يرحمون فقيرًا، ولا يحضون على طعام المسكين، يستأذن أحدهم زائره في القيام
إلى المائدة ولا يدعوه إلى مشاركته في تناول الطعام الذي حضر، سواء كان الزائر
صديقًا أو حبيبًا أم قريبًا أم غريبًا، شهواتهم غالبة على أمرهم، وأرواحهم في
وحشة من جسومهم، ولا يكتفون بالاستدلال على ذلك بكثرة شربهم للخمور،
وتهتكهم في الفجور، بل يعدون من أدلته شدة تكريمهم وتعظيمهم للنساء، بحيث
يشرك الرجل قرينته معه في جميع الشؤون، ويشاورها في كل أمر، ويرافقها إلى
الملاعب والمنتزهات العامة والخاصة، ويسافر بها إلى البلاد القاصية لمحض التنزه
بل ارتقوا في تعظيم أمرهن إلى تصديرهن في المجالس وتقبيل الملوك أيديهن، بل
إلى تقليدهن الأعمال والوظائف في الحكومة.
ما كل مسلَّم بصحيح، فالأوروبيون أربوا على الشرقيين في الطب، وأما
ضعف أبدان الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة، فليس السبب فيه الطب
ومداواة الصحة على طريقتهم، وإنما سببه الترف والانغماس في الشهوات والإفراط
في اللذات التي يتولد منها ما ذكر من الأمراض. ومن لاحظ الإحصاءات الصحية
في بلادهم ينجلي له كيف قلَّت بتقدم الطب الوفيات، وخف فتك الأمراض والأدواء.
وأما قولهم: إن عقولهم ضعيفة إلخ. فهذا يقوله من لا يعرف ما عندهم من
العلوم، ومن يعتقد أن العلوم الصحيحة هي التخيلات والسفسطات الفكرية التي لا
ترشد إلى عمل ولا تنطبق على حقيقة واقعة، وأما كلامهم في أخلاقهم وآدابهم فمنها
الصحيح والفاسد، وأكثر رذائل القوم مبنية على فساد الاعتقاد، فهم لا يأتون ما
ننتقده عليهم إلا وهم يرون حسنه في الغالب.
وأما إفراطهم في تعظيم النساء، فيقابله تفريطنا في ذلك، وليس ذلك التعظيم
لمجرد الشهوة، بل فيه مصلحة عظيمة للأمة، ولكنهم أفرطوا كما قلنا، وإن لنا
كلامًا آخر في هذه المسائل نرجئه للفرص.