للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاتحاد الشامل والتعليم الشامل
أيهما يتوقف على الآخر

س٢٦ من الشيخ كرامه يلدرم صاحب جريدة الإصلاح بسنغافوره.
ما قول مولانا المرشد أدام الله فضله:
فيما قاله السيد محمد بن هاشم من أنه لا علم شاملاً لأفراد الأمة إلا باتحادها
وتعاونها في جمع المال لبذله في سبيل تحصيله.
وفيما قاله السيد حسن بن شهاب من أنه لا اتحاد شاملاً لأفراد أمة ما لم يتعلموا
فيجب نبذ الدعوة إلى الاتحاد والاقتصاد على الدعوة إلى التعليم فقط.
وقد تداول الكتابة هذان الرجلان في هذا الموضوع كما ترون بأعداد الإصلاح
المرسلة إليكم فنلفت نظركم العالي إليها وعلى الخصوص العدد ٤٣ من الإصلاح
وهو الذي كتب بعد الاطلاع على ما في الصفحة ٨١٧ من المجلد١٢ من المنار
فنرجوكم نشر ما هو الصواب أدام الله بقاءكم.
... ... ... ... ... ... محبكم صاحب الإصلاح في سنغافوره

ج - وصلت إلينا أعداد الإصلاح ونحن في القسطنطينية وأتفق أن العدد ٤٣ لم
يكن فيها بل وُضع بدله عدد آخر ولا شك أن ذلك كان خطأ فلم نطلع على شيء مما
كَتب المتناظران وأظن جدالهما كان في الآراء النظرية.
والذي أراه أن الدعوة إلى العلم لا تعارض الدعوة إلى الاتحاد والدعوة إلى
الاتحاد لا تعارض الدعوة إلى العلم بل يمكن الجمع بينهما، ثم إن الاتحاد العام
الشامل لجميع أفراد الأمة غاية لا تكاد تدرك، إلا أن يسمى تمني دفع الشر
المطلق أو البديهي والضروري كالوباء وجلب الخير المطلق كالصحة والغنى
اتحادا، وإنما يراد بالاتحاد الذي يبحث عليه السياسيون أن تكون الأمة متعاونة
على المصلحة العامة بأن يكون الجمهور الأكبر منها متفقًا على تلك المصلحة
مساعدًا عليه بدون مقاومة تحبط العمل أو تعرقله وتثبط عنه، وهذا الاتحاد لا
يتوقف على شمول التعليم الذي يراد به عند الإطلاق في كل أمة ما يُلَقَّن في مدارسها
عادة، ولكن التعليم إذا انتشر وكثر على طريقة واحدة مع التربية على طريقة واحدة
يكون أقوى أسباب الاتحاد، ولنورد بعض الأمثلة التي يتضح بها المراد.
التعليم المنتشر الآن في البلاد العثمانية هو المانع الأعظم للعثمانيين من الاتحاد
لاختلاف طرقه ولو كان عامًّا شاملا لكان اليأس من اتحادهم أشد وأقوى لاختلاف
طرقه ومقاصد الناشرين له، وإن التعليم في فرنسا عام يكاد يشمل الأفراد كلهم وهم
غير متفقين على الحكومة الجمهورية بل يؤيدها السواد الأعظم.
إن أهل الولايات المتحدة هم أعرق الأمم في الاتحاد ولم يكن التعليم شاملاً
لجميع أفرادهم عندما قاموا بدعوة الاتحاد وأيدوها بالسيف والنار في الحرب الأهلية
المشهورة، وإن قبائل المرته في الهند من أشد الناس اتحادًا والتعليم ليس غالبًا فيهم،
إن دولة الروسية قد احتلت بلاد الفرس ولا شك أن السواد الأعظم منهم كارهون
لهذا الاحتلال ويودون لو أمكنهم مقاومته وأكثرهم غير متعلمين، وربما كان
المتعلمون من البابية راضين بهذا الاحتلال ومؤيدين له لظنهم أن دعوتهم تكون في
ظل الدولة الروسية أشد حرية وأكثر انتشارا وقد يقال إن هؤلاء قد خرجوا من الأمة
بخروجهم من الإسلام، إن الاتحاد الجرماني لم يحصل إلا بعد انتشار التعليم الذي
أعد أمراءهم وعقلاءهم له إذ علموا أن به عزتهم ومنعتهم وارتقاءهم ولكن التعليم لم
يكن شاملاً لأفرادهم.
هذه أمثلة واقعية بها الأمر وأظن أن المتناظرين لو تأملا فيها أو في مثلها ولم
يجعلا كلامهما نظريًا فقط لاتفقا من أول وهلة ولاسيما إذا كانا قد حررا موضع
النزاع كما نبهناهما إلى ذلك في جوابنا الأول الوجيز، ثم إنني أذكر بعض الأمثلة
لتصوير اتحاد يمكن أن يحصل في أمة قبل تعميم التعليم فيها، وتعليم عام يمكن أن
يحصل بدون اتحاد سابق عليه من الجزم بأن الاتحاد على شيء بالقصد لا يمكن إلا
بعد علم المتحدين بأن مصلحتهم في ذلك الشيء كما أشرت إلى ذلك في جوابي الأول
وهذا ليس موضعًا للنزاع.
يمكن أن يؤلف أغنياء الحضرميين في جاوه وسنغافورة جمعية خيرية لجمع
المال وإنشاء المدارس في بلادهم لتعليم الفقراء مجانًا والأغنياء بالأجرة التي يستعان
بها على توسيع دائرة التعليم الذي يثمر الاتحاد ويمكن أن يتم لهم ذلك وأن ينجحوا
فيه نجاحًا يُفضي إلى تعميم التعليم هنالك من غير أن يتحد أهل البلاد كلهم عليه،
ولكن لا بد من اتحاد الذين يجمعون المال وينشئون المدارس على ذلك وهو لا يكون
إلا إذا علموا أن هذا التعليم الذي يريدونه هو الذي يُحيي بلادهم ويسعدها في دينها
ودنياها، فإذا اختلفوا في ذلك، كأن قام بعض العقلاء العارفين بأحوال الأمم وسنن
الله تعالى في ترقيها وتدليها يحثونهم على الجمع في تعليم قومهم بين علوم لغتنا
وديننا وبين العلوم الدنيوية التي لا نرتقي في ديننا ودنيانا بدونها كالرياضيات
والكونيات التي منها علم الزراعة والمعادن ومباديء الصناعة التي يمكننا بعد تعلمها
أن نحيي أرض بلادنا ونستخرج معادنها، وكعلوم التجارة والاقتصاد والتأريخ
وتقويم البلدان فقام في وجه هؤلاء المصلحين مثل الشيخ عثمان بن عقيل عدو
الإصلاح المبين فقال: (لا حاجة لكم أيها الحضرميون أو أيها المسلمون بشيء من
العلم الرائج عند الكفار) وإن ملكت به دولة صغيرة كهولندة وهي في أقصى الشمال؛
مملكة إسلامية عظيمة في الجنوب استعبدت فيها أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم
وإنما يجب عليكم أن تتعلموا ما أعلمه أنا فقط من علم الدين والعربية وإن كانت
عربية مملوءة بالأغلاط النحوية واللغوية في المفردات والأساليب ولا يميز بين
الصحيح والموضوع من الأحاديث!! ، فإذا اختلف أغنياء الحضرميين في جاوه فتبع
بعضهم عثمان بن عقيل اغترارا برسائله التي تحارب هولندة بمثلها المسلمين حربًا
معنوية وتصدهم عن الترقي وتبع آخرون دعاة الإصلاح فربما لا يتم لهؤلاء نشر
التعليم النافع لعدم استطاعتهم القيام به مع عدم الاتحاد والتعاون بينهم وبين الآخرين.
ويمكن أيضًا أن تتألف جمعية من الحضرميين العارفين بأحوال بلادهم وبسنن
الاجتماع وأخلاق الأمم وشئونها فتضع قانونًا لجمع كلمة السادة الشرفاء والأمراء
على المصالح والمنافع التي تحفظ نفوذهم تُنفع بلادهم وتسعى في إقناعهم بتنفيذه
بينهم فيكون ذلك اتحادا على ترقية البلاد، يمكن أن يكون وسيلة لتعميم التعليم، فإن
قيل إن العمل بهذا القانون متعذر أو متعسر لأن أولئك الشرفاء والزعماء لا يقتنعون
بما يراد إقناعهم به لعدم العلم الاجتماعي الذي يفقه صاحبه طرق حفظ المصالح
العامة ودرء المفاسد العامة فلا بد من هذا العلم قبل الدعوة إلى الاتحاد، نقول: وإن
العلم الاجتماعي الذي يثمر الاتحاد لا تجاب الدعوة إليه ما دام أهل النفوذ الروحي
كعثمان بن عقيل يقولون: إنه ضار مخالف للدين، ويصدقه أكثر الناس لأنهم
جاهلون.
لعل كل واحد من المتناظرين حصر فكره في صعوبة أحد هذين الطرفين دون
الآخر في إصلاح حال أهل بلاده (حضرموت) فكيف إذا فكر كل منهما في إصلاح
البلاد العربية العثمانية بالفعل والتي نود أن تكون عثمانية كبلادهما، وأراد أن يسعى
في توحيد التعليم وتعميمه في حضرموت واليمن والحجاز ونجد وسورية والعراق
أو أن يدعو إليه أو إلى الاتحاد عليه وعلى تعزيز الدولة ورفعة شأنها به، ألا يتمثل
أمام كل منهما من الصعوبات والعقبات ما يُرى معه إصلاح حضرموت وحدها أمرًا
ميسورًا؟ إذ ليس فيها من اختلاف المذاهب الذي هو بلاء المسلمين الأكبر مثل ما
في سائر البلاد العربية كما أنه ليس فيها من الاستعداد الحربي مثل ما يوجد في
اليمن ونجد والعراق ولا من اختلاف التربية والتعليم مثل ما يوجد في سورية
والعراق على ما فيهما من الأديان والمذاهب.
ثم كيف بهما إذا فكرا في أمر التعليم والاتحاد في البلاد العثمانية كافة على ما
فيها من اختلاف الأجناس والعناصر، إلى اختلاف الأديان والسياسات والمذاهب أو
إذا فكروا في اتحاد المسلمين كافةً من وقوع أكثرهم تحت سلطة الأجانب؟
أيقول أحدهما لا يمكن نشر التعليم فيمن ذكر إلا بعد الاتحاد العام الشامل، أو
لا يمكن هذا الاتحاد إلا بعد العلم العام الشامل، فيلزم من مجموع قولهما الدور
الحقيقي وأن كلا من الأمرين متعذر لا ينال، والدعوة إليه من لغو الكلام؟
الصواب ما قلناه في أول الجواب من عدم التعارض بين الدعوتين فيجب
الجمع بينهما والسعي إليهما وكل خطوة في العلم تكون عونًا على الاتحاد وكل خطوة
إلى الاتحاد تكون عونًا على العلم، فكل منهما يمد الآخر ويستمد منه، وقد تكون
الدعوة إلى الاتحاد أقوى تأثيرًا وأقرب نفعًا في الأمم التي سلبت استقلالها كله أو
بعضه والأمم التي يهددها الأجانب بهذا السلب بالقول أو الفعل، فإذا قلت للفارسيين
وقد تغلغلت الجيوش الروسية في بلادهم عليكم بالدعوة إلى العلم فقط وبعد أن يصير
عاما شاملا لأفرادكم تتحدون على مدافعة الاحتلال الأجنبي لا يكون كلامك مؤثرًا ولا
مفيدًا لأنهم يقولون إذا لم نتحد مذ الآن على المدافعة والمقاومة لا يتم لنا التعليم، لأن
الأجانب يمنعوننا منه كما يمنعون إخوانا في بلادهم فيجب أن نسعى إلى الأمرين
جميعًا ويكون سعينا إلى الاتحاد في المرتبة الأولى.
هذا ما عَنَّ لنا أن نوضح به هذه المسألة ولعل ما حققناه يكون هو الحكم
الفصل بين المتناظرين وإن لم نطلع على كلامهما فتكون نتيجة اختلافهما الاتفاق،
وعاقبة افتراقهما التلاق.