للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ملك حفني ناصف


المرأة المصرية والمرأة الغربية [*]

المولودة، دور الطفولية، المراهقة (الملابس، والأزياء) الخطبة والزواج،
الاقتصاد المالي والمنزلي، العمل البيتي، الأخلاق والعادات، دور الأمومة.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها السيدات:
إذا كان لفئة ما أن تجتمع وتبحث في شؤونها فلا أحق منا نحن نساء مصر
وفتياتها أن نكون تلك الفئة فإننا على درجة من التأخر تؤلم نفس المتفكر فيها وترجع
بالوطن خطوات واسعات عن سبيل التقدم، من دلائل تأخرنا، إن أكثرنا أخذ يقلد
المرأة الغربية بغير نظر إلى موافقة عادتها للشرع الإسلامي والآداب الشرقية
وبعضنا الآخر ظل على تقاليده القديمة سواء كانت صحيحة أو فاسدة، فما هذا
الجمود بمستحسن ولا ذاك الاندفاع بممدوح، وإني شارحة الآن عادات المرأتين في
كل أدوار حياتهما مقارنة إحداهما بالأخرى مستخلصة زبدتيهما لنعمل بها.
(١) الدور الأول: المولودة
إن حالنا الآن عند تبشير إحدانا بالأنثى شديد المشابهة جدًّا لحال الجاهلية
الأولى ولم أرنا نقصنا عنهم شيئا في ذلك إلا الوأد قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ
أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: ٥٨-٥٩) ،
وإن الانقباض الذي نظهره عند مستهل الأنثى يؤثر في الطفلة خنوعًا للذلة ورؤومًا
إلى الضعة فتشب الفتاة واجدة الفرق العظيم بينها وبين أختها فتعتقد في نفسها أنها
أحط شأناً وأدنى مرتبة فلا تطلب من المعالي ما يطلبه أخوها ولا تنبسط نفسها إلى
ما يرفع شأنها وجنسها وتضع نفسها حيث نضعها. وليت شعري لم نكره ولادة الأنثى
وهي نصف الإنسان وأمه وزوجه وابنته، ألا يصح أن تكون الفتاة نافعة كالفتى؟ ألا
يرجع الفضل في تدبير عيش الرجل لها؟ ألم تكن في كثير من الأحيان سبب سعادته
وموضع أمله؟ وكيف نهمل تعاليم ديننا الحنيف في هذه المسألة ويتبعها أكثر
الغربيين فإن أممهم ولا سيما الشمالية منها يتساوى عندها الذكر والأنثى وقد يملكون
عليهم فتاة فيهم مَن بفضلها علما وتجربة وحذقا، يبرر الشرقيون ومَن حذا حذوهم
جزعهم هذا بأن الذكر يحفظ اسم العائلة ويرث مالها ولقبها، ولكن كم من والد مات
ذكره بموته وإن العمل وحده عليه حياة الذكر أو فناؤه، هل رفع الله الأنبياء عليهم
السلام درجات على الناس بأعمالهم أم بأبنائهم؟ ومنهم من لم يتزوج قط ومنهم من
عقه أبناؤه، أم كان أبو العلاء المعري أبا ذرية أحيت اسمه وهو الذي يعد الزواج
والذرية جناية؟ وهل يغني الولد عن الأبوين شيئا إذا كان لا يخفف حشرجة
الموت؟ فالبنت والصبي سيان وكلاهما قرة عين الوالد في حياته ولا يدري ماذا
يفعلان بعد مماته، وهل إذا ورث الفتى ثروة بددها يعد حافظا غنى أسرته أم إذا ولد
لأحدهم ذكور ضمن لهم الحياة مخلدين؟
(٢) الدور الثاني: دور الطفولية
في هذا الدور نميز الصبي عن البنت في أمور شتى مع أن الغربيين لا
يفرقون ألبتة بينهما فضلاً عن أنهم يوفونهما حقهما من التربية والعناية ونحن إذا
فضلنا الذكر قليلا فلا نزال مقصرين نحو العناية به فما بالكن بالأنثى؟ ترضع المرأة
الغربية طفلها بنفسها وتنظفه اللهم إلا فئة العاملات اللاتي يضطرهن الفقر إلى
الاشتغال في المصانع والحوانيت وترك أطفالهن في مربى الأطفال بالأجرة، أما
نحن فنعد إرضاع أطفالنا عيبا لا يغتفره لنا ادعاء الغنى أو الغنى نفسه ونهمل أمر
نظافتهم للخدم ونكل ترويضهم وتربيتهم إليهم وهم من تعلمن من فساد الذوق والجهل
القبيح فيشب أطفالنا أشبه أخلاقًا بهم ونجد بيننا وبينهم جفاء وصلة منقطعة، وكيف
تعرف الأم طباع طفلها وهي لا تتعرفها بنفسها؟ ولو مرت الأمهات يومًا بالمراضع
جالسات على حافة الطرق ليراقبن حالتهن الأخلاقية لما تأخرن لحظة عن حماية
أطفالهن من جيش المراضع الهازم لمكارم الأخلاق.
أما عنايتنا بصحة أطفالنا فليست بأكثر من عنايتنا بأخلاقهم فبينا المرأة الغربية
تغذي طفلها غذاء خفيفًا سريع الهضم وتتحفظ عليه من هجمات البرد والحر وتَريننا
نطعمه أثقل الغذاء ونبادر بإعطائه اللحم وما يتعسر هضمه فتختلّ معدة الطفل
ويصاب بالإسهال والنزلات المعوية وقد يُفضي به سوء الحالة إلى الموت أخيرًا ولا
نكترث بنظافته لئلا يُحسد، ونتركه يلعب به النقيضان القر والحر فلا يلبث أن
يمرض ولا علاج له عندنا إلا الرُّقى والتمائم نثقل بها حمائله وإذا بكى متوجعًا نظن
بكاءه جوعًا فنلقمه الغذاء فوق الغذاء إلى أن يلقى حتفه، هنالك تتهم أمه صاحبتها أو
قريبتها بأنها حسدته وتركت فيه سهمًا من عينيها فتبغضها وتتشاءم من رؤيتها! وإذا
ابتدأ الطفل يتكلم ويمشي فأول ما ينطق به عندنا لعنة الآباء والأجداد ومن الغريب
أننا نجعل ذلك منه موضوع ضحك واستحسان فيظن أنه مصيب في قوله فيتمادى
في الإكثار منه وإذا مشى فإننا نحجر عليه إلا أن يمشي وسط الحجرات المزدحمة
بالأثاث والأواني فإذا لم يكسر شيئا فإنه يتهشم بصدمة أو بوقوع وإذا تأخر في
الخطو قليلا نساعده عليه بالممشاة (المشاية) وهي علة تشوية كبيرة لا نشعر بها
فإن عظام الطفل اللينة بإجهادها على المشي حين لا قدرة لها تلتوي فيشب الطفل
أعوج الساقين منحني السلسلة الفقرية أو الصدر كذلك لا نلتفت لموضع سرير الطفل
وتأثير النور في عينيه فيكثر فينا الحول والعمى، فما أعظم الفرق بين طفلنا
الشاحب اللون البذئ اللسان وبين الطفل الغربي الصحيح البدن بالاعتناء! ما أجمله
حين يذهب في الصباح والمساء ليقبل والديه وحين يستغفر أيَّا كان لأقل هفوة
ويشكر لإبداء الجميل! وإذا حرم تلك القبلة الوالدية لهفوة أتاها فلا تَسَلْنَ عن حُزنه
وبكائه إلى أن يتوب، بمثل هذا تعلم المرأة الغربية طفلها ورضى الوالدين أعظم
نعمة للأولاد وتربي فيه الضمير الحي والاعتراف بالشكر لِمَن وجب له فلا تصغر
نفسه بالضرب كما نعود أطفالنا، ما المراد من ضرب الطفل؟ المراد هو نهيه عن
إتيان شيء لا نستحسنه لا إيذاء جسمه بأنواع التعذيب البدني، وفي طرق التأديب
النفسية ما يكفل تلك الغاية بغير الشتم والضرب اللذين يضعفان همة الطفل
ويخفضان من عزته صغيرًا ويزيدان تحكمه واستبداده كبيرًا.
وبقدر ما نعطي الطفل حرية في البذاءة والإتلاف نحرمها عليه في الرياضة
المفيدة لنمائه فنمنعه الجري والتنزه ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة مع أن الطفل
الغربي يعد عضوًا مهمًا في البيت كسائر أعضائه من أب وأم فيذهب به إلى بلاد
بعيدة لاستنشاق الهواء واجتلاء المناظر ويفرد له أدوات خاصة لنومه ولعبه وسائر
لوازمه ويعامل الإكرام ويُعَوَّد الاستقلال من نعومة أظفاره إلى أن يترعرع، وإذا
لحن في كلامه بادرت أمه بتصحيح خطأه والنطق أمامه نطقًا صحيحًا حتى يحاكيها
فيه، أما أطفالنا البائسون فإننا نلثغ لهم لنرضيهم ونكلمهم بلغتهم المضطربة بدل
تعليمهم لغتنا العامية لا الفصحى.
نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا
يألفون حجر حريتهم فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل الغير الجذاب، ويلزمون
أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام فيتربى في الطفل نفور من المدرسة
والدرس فتجبره أمه على الذهاب للمدرسة فيزيده الإجبار نفورًا، وقد يكون خطؤنا
في إرسال أولادنا صغارًا جدًّا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما
ينقص من استعداد الطفل لتلقي العلم ويفسد عليه ملكاته، أما الطفل الغربي فهو أسعد
حظًا إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار
البسيطة لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره، وتعلمه الإحسان والشفقة
بما تفعله أمامه من ضروبهما، وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأوّلِيّة بأسلوب مشوق
ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها، وقد جربت
ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارًا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من
التلميذات فإني ظللت حوالي الثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة ولا أكاد أفهم الغرض
من إرسالي إليها، وكذلك شاهدت النابغات من التلميذات هن اللاتي أُرسلن للمدرسة
في سن الثامنة أو العاشرة أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئًا غير
ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن، إذا كان ولا بد من إرسال الأطفال للمدرسة
صغارًا فيجب أن تُجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (garten
kinder) التي تلقى إليها الدروس مزيجًا من التعليم والرياضة ويراعى فيها مدارك
الطفل وتمر حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله، ولو كانت الأمهات
معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن مثل تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم
الله عليه بنعمة الأولاد.
للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما ضار، فالقسوة
ترهق الطفل وتعلمه الذل، والتدليل يطوح به في مهواة الغرور، فمن دلائل قسوتنا
تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بتُرَّهات لا أصل
لها (كالبعبع والمزيرة إلخ) وضربهم عند مخالفتهم لنا، ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم
الأنانية وتعطيهم ما يشتهون عند بكائهم بعد منعهم إياه قبل البكاء فيتعلمون من ذلك أن
الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء نمنعه
عنهم وقد رأيت كثيرًا أن طفلا ينصح أخاه أو أخته الأصغر منه سنًا بأن يبكي حتى
يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه، أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير
من طريقتنا أضعافا فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن
البكاء لا يجدي ويطلبه بالطرق المشروعة وأن منع منه فلا يعود يتشبث به، ويعدون
في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوي واللعب خوفا عليهم من قذارة ما في
الأسواق واقتصادًا للمال والزمن.
٣- الدور الثالث دور المراهقة.
هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة حسنة كانت أو سيئة وإن كانت
الأخيرة فمن الصعب تغييرها، في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور
للمدرسة ولا يهتمون كثيرًا بتثقيف عقل الفتاة على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين
أخيرًا في تعليم الفتاة وإنما لم يجئ التقليد نافعًا لنا ولا محكمًا في ذاته، فالفتاة
الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة، أما
فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورا بسيطة من العلم حتى تستغني بها عن
الاستمرار في الاستفادة فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في
تعلم البيانو والرقص، ولا أدري لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون
وتتعلم البيانو مع أن الأولين فضلا عن كونهما شرقيين فإنهما ألطف صوتًا وأشجى
نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنًا وأخف حملا، إن البيانو لازم جدًّا في الغرب لتحية
الجموع في المراقص والكنائس لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد أما في
بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي
يتهافت عليه فتياتنا، نعم إن تعلم الموسيقى من الكماليات المدوحة ويقولون إنها
مهذِبة للطبع مرققة للشعور ولكن ألم يكن أولى تعلمها على الآلات الشرقية التي لا
ضوضاء لها إذ هي بذلك أدعى للحشمة فلا يتعدى صوتها البيت الذي هي به.
لو سلمنا بضرورة تقليد الغربية في تعليم البيانو لوجب محاكاتها أيضًا في
تعلمه من حيث هو فن وإتقانه لا أن تقتصر الفتاة على نقر لا تناسب بين نغماته
حتى إن سليم الذوق مع عدم تلقيه دروسًا في البيانو يمكنه نقد ذلك الضرب على
صماخ الأذن لا على البيانو فإن أذنه تنبو عنه لسماجته.
ماذا تقرأ الفتيات في سن المراهقة؟ لا يقرأن إلا الروايات الغرامية وهن في
ذلك الوقت قابلات لشدة الانفعالات النفسية فيتأثرن بحوادث العشق والهرب وتنطبع
في ذاكرتهن أشعار وجمل غرامية، مما يقرأن وتمر أمامهن صور تلك الحوادث
كالصور المتحركة فلا تعدم أن تلقى أثرًا في عقولهن اللينة، إن الآباء مَلُومون في
هذه الحالة لعدم اختيارهم كتبًا نافعة تقرأها فتياتهم، لماذا لا يختارون لهن مثل كتاب
التربية الاستقلالية [١] وفيه أمور نافعة جدًا في تربية الأطفال ومعاملة الأزواج أو مثل
كتاب كليلة ودمنة [٢] أو كتب تراجم المشهورين من رجال ونساء فإن في قراءة سير
المشهورين ما يبعث القارئ على أن يقتدي بهم أو مثل كتب آداب اللغة وغيرهما
مما يلذ ويفيد في آن واحد، هذا إذا وجدت الفتاة من كتب الفلسفة والعلم ما يستعصي
عليها فهمه أو ما تتضجر من الاستمرار على قراءته لجده الخالص وجفافه، ماذا
تفعل الفتاة في سن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة وهي ممتلئة الذهن بحوادث
(روميووجوليت) وألفاظ (فاتنتي وحبيبتي) ... إلخ، إنها تتمنى أن تسمع مثلها
وتكون مرموقة بنفس تلك العين لأن سنها كما بينت أخصب مراعي إبليس، هذا
من جهة القراءة.
أما الحرية فإن الفتاة المصرية الأولى كانت محجورًا عليه لدرجة الحبس
والفتاة الغربية لها مطلق الحرية أن تغدو وتروح وحدها وتسافر من بلد إلى آخر
قاص بغير رقابة أهلها وهذا من الخرق في الرأي وأخاف أن تغرنا زخارفه فنعمل
به لأن كثيرات من فتياتنا المتعلمات يحسبن أن الدرجة التي وصلن إليها تكفي
لإعطائهن مطلق الحرية يغدون ويرحن وحيدات، وإن حوادث الفتيات المحزنة
كثيرة جدًا في أوربا لأن الفتيات الطائشات لصفاء نيتهن يصدقن كل مدع لهن بالغرام
وتساعدهن حريتهن المطلقة على مسايرة الفتيان ثم لا يلبث الرجال أن ينفضوا من
حولهن ويتركونهن بين اليأس والعار وهما أمران أحلاهما مر.
ومن رأيي أن تمنع الفتاة في سن المراهقة هذه من الاختلاط بالشبان، وحاشا
أن أمس بكلامي هذا شرف الفتيات وإنما أحب أن أنبه إلى شيء طبيعي والعاقل من
اتعظ بغيره، ويكفي تجنبنا لمثل هذا الاختلاط المعيب أن أهله ذاتهم هم أول العائبين
له، والفتاة في هذه السن ككل إنسان تطلب الحرية ويجب أن تتروض وتخرج
وهذان لا أمنعها منهما وإنما أنصح للأمهات أن يرافقنهن، وللآباء أن يراقبوهن
مراقبة تخفى عليهن لأن المراقبة إن كانت ظاهرة قد تضع في نفس الفتاة إنها يجب أن
تُراقَب وأنها ضعيفة عن الذود عن نفسها وإذا تَمَلَّك منها هذا الشعور كان وبالا عليها
وإذلالاً لها، ثم إذا ثبتت للوالدين مقدرتها على حسن السير فلا بأس من إباحة الحرية
لها في زيارة صاحباتها وأرى أن الحرية المطلقة والحجر المطلق كلاهما ضار فكما
أن الأولى تسهل سبل الفساد لمن تريدها كذلك الآخر يخلق في الفتاة ميلاً لأن ترى كل
شيء ويعلمها طرق الغش والكذب فيكون قد جنى أهلها عليها جنايتين!.
إن صلاح الفتاة مترتب دائمًا على تربيتها الأولى فإن فسدت فقد يكون قليل من
الحرية أفضل من الحَجْر البات لأنه لا ينفع ولا تعدم الفتاة منفذًا لأغراضها فتتعلم
بذلك السرقة والخداع وقد تكون بعيدة عنهما من قبل.
أفضل طريقة لتربية البنات هي أن يرين قبل البلوغ كل شيء تصح مشاهدته
بمعني أن البنت في سن العاشرة والثانية عشرة يجب أن يريها والدها الصور
المتحركة والتمثيل والألعاب المختلفة والحوانيت الكبيرة والمتنزهات والآثار ويركبها
السيارة ويريها الحفلات وغير ذلك حتى تلم على قدر الإمكان بكل شيء حسن أو
عجيب فتستنير من جهة ولا تظل بلهاء ككثيرات من فتياتنا وحتى تكون امتلأت
نفسها من الصغر فلا تجد فيها فراغًا فيما بعد لطلب المزيد من المشاهدات فإذا
عرض لها التنزه في حياتها المستقبلة فلا بأس به وإن لم يعرض فلا تتأسف كثيرًا
لفواته.
المدارس تعجبني جدًّا طريقة (مدارس الفرير) في نقل الفتيات صباحًا ومساءً
في عرباتها الخاصة حتى لا يختلط بهن السابلة وحتى يأمن عليهن أهلهن وكذلك
يوفرن وقت من سيعطل نفسه ليستصحبنه إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا فحبذا لو اشترت
نظارة المعارف أو استأجرت مثل تلك العربات لنقل التلميذات إلى مدارسها في الغدو
والرواح ويكون لكل قسم من أقسام البلد واحدة أو اثنتان حسب كثرة التلميذات وقِلتِهن
فإن التعليم في مدارسها أرقى بكثير من التعليم في المدارس الأُخرى وخصوصًا في
اللغة العربية التي هي لغتنا ويجب أن نتعلمها جيدًا وكذلك تُراعى فيها آداب البلد
وعاداته ودينه أفضل مما تُراعى في تلك المدارس الأجنبية التي لم تُفتح إلا لنشر
مذهب من المذاهب الدينية أو لكسب أصحابها فقط.
بعض أضداد تعليم الفتيات يرون أن تظل الفتاة جاهلة خير لها من أن تتعلم
لأن التعليم يوسع عليها حيل الاختلاط الذي لا تبرره العادة، ولا يسمح به أولياؤها
وهي نظرية فاسدة؛ لأن التربية الصحيحة تحول دون ذلك، فالفتاة الكاملة تجد من
عفتها وقدوة أهلها وآداب نفسها ما يخيفها من سوء الأُحدوثة وتَعْلَم أن سمعة الفتاة
كالزجاج الصافي يتلوث من أقل الأشياء وإذا انكسر فلا يُجْبَر، أما الفاسدة فتميل إذا
وجدت مسربًا سواء كانت عالمة أو جاهلة، وغاية الأمر أن الجاهلة أسرع شططًا
وأدنى إلى أن تشهر بنفسها وقلما تعرف نتيجة تصرفها السيئ إلا بعد وقوعها في
سوء مغبته.
الملابس والأزياء الملابس الشرقية أخف مؤنة وأيسر كلفة وأشد ملاءمة لجونا
الحار وصيفنا المحرق من الملابس الإفرنجية فهي جلباب يلبس مرة واحدة فوق
الملابس اللاصقة بالجسوم، وعند الخروج تلبس فوقه الملاءة، أما الملابس
الإفرنجية فإنها متعددة القطع مضاعفة التركيب عسرة اللبس والنزع فمن مشد يخنق
الخاصرة ويحشر الكبد والطحال ويدلي الأحشاء ويمنع الجلد من التنفس الطبيعي
اللازم له، ومن بنيقة (ياقة) منشأة كالورق المقوى لا تستطيع المرأة فيها لفت
رقبتها ولا الانثناء لقضاء أي عمل فتظل مشرئبة العنق لا عن صيد مشدودة ولا عن
وثاق، ومن صدار (chemisette) لاصق بالإبطين ضاغط على الكتفين أو
منفرج الفتحة (decolte) معرِض القفا والنحر بل الصدر والظهر إلى الحر والقر
واختلاف درجات الجو وجلب النزلات الصدرية ومن مرط (jupe) ضيق الأعلى
غير محكم الأزرار واسع الأسفل طويل الذيل كأن لابسته من ذوات الأذناب تثير
عند مشيتها الجراثيم وتضايق الرئتين والخياشيم ومن قبعة شاسعة الأرجاء مدججة
بالدبابيس مثقلة بالطيور وريشها والغصون وأزهارها وثمارها مدبجة بالأربطة
الحريرية، ومن أناشيط (بنابيغ) في أجزاء (الفستان) يضيع في ربطها وحلها
الزمن سُدًى فضلا عن تعدد الملابس لتعدد الأغراض فحلة للصباح وأخرى للمساء
وثالثة للخروج وأخرى للرقص وغيرها للاستقبال وهَلُمَّ جَرًّا، وإن الزمن الذي
يضيع كل يوم في اللبس والخلع لو صُرف في عمل نافع لأتى بالفائدة وأراح من
العناء.
على أن لنساء الإفرنج حسنة واحدة في ملابسهن مفقودة عندنا وهي البساطة
عند الخروج للنزهة أو لقضاء شغل فتلبس المرأة ثوبًا قصيرًا كي لا يعوقها عن
المشي أما نحن فنرتدي أحسن طرفنا في الخارج ونظل في الذيول نجرها، على أن
الأوربيات أحق منا بتفنن الأزياء وشدة التأنق فيها لأنهن بارزات أما نحن فأكثر ما
يرانا جدران المنازل وإن خرجنا فتحت الأزار أو في العربات وإذا فلا لزوم لاتباع
(المودة) بشغف زائد لأنها تفقر وتعل، وإن كان للغنيات حتى التمتع بصرف ما
لهن ولو فيما لا يجدي الإنسانية كالأزياء فليس للمتوسطات حق إفقار بعولتهن أو
آبائهن جريًا وراء المودة المتقلبة.
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والشرع زعمًا باتباع (المودة) ولكن هناك
فرقًا كبيرًا بين (المودة) والخلاعة فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها
في ذلك من حرج ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتضحك فتلك هي
الخلاعة الشائنة ولم تجئ في مجلات الأزياء (كالبرنتال واللوفر) وغيرهما ففي أي
كتاب قرأنها.
لاحظت شيئًا غريبًا في الفتيات وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في
إظهار محاسنها وغناها تريد بذلك أن يُعجب بها الخاطبون والخاطبات هي التي
تتأخر دائمًا في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان يُنتظر لمثلها وهو عقاب
طبيعي للمتبرجات لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها فهو لا يود أن
يقتنيها لنفسه اعتقادًا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضًا ولو فطنت الفتيات إلى أن
أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن البهرجة لَمَا
تأخرن لحظة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج وهو في
الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن، لست بذلك ادعو النساء إلى التقشف أو البعد
عن الزينة فليس لي أن أحرم ما حلل الله، ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة
ولزوجها كذلك ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
٤- الدور الرابع: الخطبة والزواج.
تتعجل الفتيات كثيرًا في انتظار هذا الدور ولو علمن مصاعبه ومتاعبه لما
تعجلنه، وأظن أن ما يشوقهن إليه هو الزخارف والحُلى الجديدة وما يقام للعروس
من معالم الزينة وما يتقاطر عليها من التهاني والهدايا ولكنهن لا يُدْرِين التبعة الكبرى
التي تتحملها المرأة بزواجها وما قد يصيبها من الآلام النفسية في عيشها الجديدة،
وشتان بين الفتاة تنام ملء عينيها ولا تسأل إلا عن نفسها ويسعى أبوها وأهلها في
إرضائها وجلب ما تشتهيه لها من ملابس وغيرها وبين الزوجة تنتظر بعلها إلى ما
بعد نصف الليل، وتبكر قبل بزوغ الشمس لتجهيز طعامه وتنظيم ملابسه؛ وتظل
يومها تشتغل في بيتها أو تلاحظ الخدم وعليها أن ترضيه وترضيهم وتخطب ود أهله
وتقوم بتربية أولاده وهي بين كثرة العمل وتنوع التبعة تحاسب حسابًا عسيرًا على
أقل هفوة [**] ، وربما وجدت منه سكيرًا فظًّا أو أحمقَ، وأدهى من ذلك أن يتحفها
بضَرَّة شرعية أو غير شرعية تأتي على ما بقي من رونق جمالها وسعادتها.
لا وسيلة للزواج عندنا إلا الخطبة ولكن بأعين الأهل والجيران والخاطبات
وقد تحسن في أعينهن من لا تحسن في عين الخاطب لاختلاف الأذواق والمشارب
فيتزوج الرجل على مجرد أوصاف قيلت له فيصور منها شكلاً في مخيلته عسى لا
يطابق العروس الحقيقة أصلاً لسوء تعبير الخاطبات وتحريفهن، وكذلك الفتاة تكاد
لا تعلم عن خاطبها شيئًا إلا اسمه وماله المبالغ في تقديره لترغيبها هي وأهلها فيه،
فإذا حان وقت المقابلة يكاد العروسان يصابان بالبكم والغشيان لفرط اندهاش أحدهما
من الآخر، وبعد المعاشرة قليلاً قد يتفقان وربما لا يتفقان وهذه المخاطرة نتيجة
اعتقادنا المقلوب في القضاء والقدر، نعم، إن القضاء والقدر لا تجدي مغالبتهما
ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال في جلب المنفعة أو درء الضرر فإن هذه
المسألة مسألة اختيار محض للعقل أن يحكم فيها وحده فإذا أحسن الاختيار حسنت
عاقبته وإن قصَّر أو أهمل ساءت العقبى، على أن إسفار النساء عن وجوههن لم
يجمع الأئمة على تحريمه فضلاً عن أنهم كلهم يجوِّزونه عند الخطبة تحاشيًا من
وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد.
أما الإفرنج فخشية أنْ يُصابوا بما أصيب به أغلب أهل الشرق من الخطبة
العمياء وما يترتب عليها من الشقاء المستمر أجمعوا رأيهم على أن يتراءى العروسان
قبل الخطبة مرارًا ويتقابلا تكرارًا ولكنهم أفرطوا في الأمر كما فرَّطنا نحن فيه،
وكلا طرفي كل الأمور ذميم، لم يكتفوا بأنْ يرى الخاطب مخطوبته عدة مرات بل
شرطوا أن يكون الزواج بعد الرضى أو الميل المتبادل بينهما، ولأجل أنْ يحصلوا
على قلب الخاطب قبل أن يعرف من هو يحرضون بناتهم على غشيان المتنزهات
والمراقص ومجتمعات الفتيان لعل الواحدة منهن تخلب فتى من الموجودين هناك
بالاتفاق وقد تذهب المقابلة بعد المقابلة سدى فتتعرض لغيره ويتعرض لغيرها إلى أن
تجد بعد طول مدة التخير فتى يكاشفها بعزم الاقتران فتظن أنها وجدت ضالتها
المنشودة فتلعن أهلها ويتردد الخاطب عليها في البيت وغير البيت وربما تمضي
الشهور أو السنون ثم يغض الفتى عن الفتاة بدعوى أن الاختيار لم يؤد إلى المرام
وأن القلوب لم تُأَلّف وإذا كان أصل الفكرة وجوب الاختيار الطويل فيما يتعلق
بالأخلاق والتأكد من الحالة الصحية كان العدول بعد الاختبار أمرًا غير مستقبح وإنما
يكون الاستقباح بعد الإعلان القطعي وهو لبس الخاتم عندهم ولا شك أن التساهل
إلى هذا الحد فيه ما فيه من العيوب مما لا يخفى على الناقد البصير.
والحق أن هذه المسألة من المعضلات الاجتماعية فلا الاسترسال في الاختبار
بمأمون العواقب، ولا الاحتجاب على الخاطب بمفيد، بل ربما كان مؤخرًا للفتاة
عن الزواج في الآوان المناسب، وربما كان في الحي الواحد فتيان وفتيات كل منهم
يبغي الزواج ولا يعلم الفتيان بوجود الفتيات لاحتجابهن الاحتجاب الشديد ولعدم
التعارف بين البيوت، ولا خلاص من هذه العقدة إلا باتباع سنة السلف من العرب
في صدر الإسلام من مباشرة الفتاة خدمة الضيوف ومقابلة زائري أهلها استطلاع
قصدهم والخروج في القرى إن كانت بها للمساعدة في بعض الأعمال، ويجب على
الفتيان في مثل هذه الحال أن لا يُظهروا غرضهم أمام الفتيات أو يتعرضوا لهن
بالخطبة فإن ذلك مغاير للذوق والأدب ومؤدٍ لخجل الفتيات وانزوائهن وراء الحجب
وينبغي أن تُعَوَّدَ الفتيات هذا الأمر من صغرهن حتى لا يستغربنه عند الكبر ويحسن
بشذوذه، وهذه الطريقة متبعة في القرى والبوادي المصرية فحبذا لو اقتدى بهم أهل
المدن، وإنما يشترط في الأخيرة أن يكون خروج الفتاة مع أبيها أو أخيها أو أحد
محارمها، وعلى كل حال فالشيء الذي لا بُدَّ من منعه هو انفراد الفتى بالفتاة وطول
المحادثة في غير ضرورة لما في ذلك من مخالفة الشرع وإثارة التهم.
هذا ما يقال في الخطبة، أما الزواج فطريقتنا فيه مختلة أيضًا فالمرأة الغربية
تدفع الصداق (الدوت) وقد يكون من جراء ذلك في بعض الأحوال أن تصير الزوجة
سيدة الرجل الآمرة الناهية، والمرأة الشرقية كانت لا تدفع شيئًَا ويدفع الرجل
الصداق فيأخذه أهلها لنفسهم ولا يشترون لها منه شيئًا وبذلك يعتبر الرجل نفسه
سيدها لا حق لها في معارضته، وهاتان الطريقتان بغير نظر إلى غنائهما أو تفضيل
إحداهما على آخر واضحتان في أن دافع الصداق هو المنفرد بالسيادة في البيت، أما
طريقتنا الآن فهي معتلة، ولذلك فالسيادة متنازع عليها بين الزوجين المصريين،
يدفع الرجل الصداق فتأتي له المرأة بما يساوي ضعفه أو ضعفيه أو أكثر، فهو بما
أنفق يظن أنه السيد وهي بما أنفقت تظن كذلك فيتنازعان على الرئاسة.
مالنا ولهذا التكليف الثقيل والبيت باسم الرجل لا باسم زوجه، فإن أعجبه أن
يفرش بيته حصيرًا فليكن وإن راقه أن يموه سقوفه وجدرانه بماء الذهب فليفعل، وإن
أحب أن يجعله جنات عدن تجري من تحتها الأنهار فحبذا رأيه، وليس للزوج وأهله
أن ينتظروا شيئًا من العروس فهي وشأنها في مالها، إن حوادث الطلاق فيها عظات
كثيرة لو انتبهنا لها، فكثيرًا ما يتنازع الزوجان على الأثاث كلُّ يدعي أنه له وإذا كان
في الرجل مروءة وتركه لمطلقته فإنها تزحم به بيت أهلها ويظل مكدسًا يرتع فيه
العث والجرذان فتجد مرعى خصيبًا، فإذا تزوجت المرأة ثانية وجد أكثره تالفًا أو
كال عليه القدم مع ما يستلزمه نقل الأثاث وترتيبه كل مرة من النفقات والتعب، وإذا
لمت الغنية مرة على هذا التدبير فإني ألوم الفقيرة المدعية مرارًا، فكم من بيوت
خربت وأرض بيعت أو رهنت لا لسبب سوى تجهيز عروس لا يلبث فرشها البهي
أن يحل لونه أو يتمزق بعد سنين قلائل فتكلف زوجها بتجديده أو يبقى خرقًا،
سمعتُ عن أب له ثلاث بنات جهزهن واحدة بعد أخرى جهازًا كان موضوع الحديث
عند معارفه، وكان له مئة فدان من أجود الأطيان يعيش بريعها عيش الرخاء فباع
ثلاثين لتجهيز الأول ورهن ثلاثين للثانية والباقي للأخيرة ولما حان ميعاد الوفاء لم
يف وإذا بالدائنين أتوا على ما ورثه وهو كل ما يمتلك وحجزوا على بيته أيضًا،
فبالله ألا يعد هذا الرجل قصير النظر أخرق؟ وهل أغناه أثاث بناته وقد أصبح
معدمًا ذليلاً؟ ! من الجنون بل ومن القساوة أن تجتهد الفتاة في تخريب بيت والديها
لتزيين بيت زوجها، ولماذا تقلد كل سيدة مَن هي أغنى منها، وهل يعد التوسط في
الغنى أو الفقر عيبًا؟
إن الأوربية لا ترمي مالها كما نفعل في أوانٍ لا نستعملها، وفي خرق تبلى
بعد زمن قصير بل تستثمر ذلك المال فتنميه وتحفظه للعود وذخرًا لأولادها بعدها
وتنفق منه على الجمعيات الخيرية والمدارس فتحيي البائسين وتحيا بحسناتها فهي
أبرع منا بمراحل في طرف الاقتصاد.
***
الاقتصاد المالي والمنزلي
لا تكتفي المرأة الغربية بتنمية مالها فقط بل تعمل ميزانية مضبوطة لواردات
بيتها ونفقاته، فلا تخرج عن حد الاعتدال في النفقات، ولا تصرف درهمًا في غير
موضعه وتفحص مشترياته بنفسها كي تتأكد من جودتها واستحقاقها لما تباع به وتهتم
برفو الثياب وتصليحها، وتعمل من كل قديم جديد، وقد تغير شكل الثوب الواحد
وزينتَه مرارًا فيَبِين جديدًا. نعم، إن فِينا تلقاء ذلك كرمًا ولكن يجب أن لا يكون
الكرم إهمال، فقد تقع بقعة صغيرة على الجلباب من الحرير الغالي الثمن فإذا
أهملناه لم يصلح للبس وأذا أعطيناه لخادم أو لامرأة فقيرة فقد ينفعها ثوب من القماش
الرخيص (الشيت) أكثر من ذلك الثوب الجميل وبهذه الحالة يكون كرمنا غير مُجْدٍ
فلو اجتهدنا في إزالة تلك البقعة أو تمويهها بشيء من الزينة (الكلفة) وجُدْنا على
تلك الفقيرة بثوب رخيص لكان أنفع لها ولنا.
إن تربية الغربية مؤسسة على العناية والملاحظة، وأما نحن فَقلّما ننتبه إليها.
تقتصد المرأة الغربية من مالها بما تظهره من براعتها وعملها فهي تخيط لنفسها
ولزوجها ولأولادها وتكوي ثيابهم، أما نحن فالبيوت المتوسطة كلها تكوي في السوق
وتخيط كل شيء حتى التافه عند الخياطات، بعشرين قرشًا يمكن المرأة الغربية أن
تحضر طعامًا لبيتها وتجعله لذيذًا ومشتهى لكثرة الجوارس (السَّلَطة) والحلوى. أما
العشرون قرشًا عندنا فتعمل بها المرأة طعامًا ولكن غير منوع ولا مشتهى.
إن الإفرنج رجالاً ونساء يعرفون كيف يجذبون الأنظار ويجعلون الشيء
المتوسط في الحسن جميلاً، قد رأيتن بضاعتهم وهي أقل متانة من بضاعتنا الشرقية
ولكنهم يضعونها من حوانيت واسعة منارة بالكهرباء ويرصونها داخل ألواح من
الزجاج فتجذب المارة ثم هم يختارون لتجارتهم محلاً من المدينة يكثر فيه الغادون
والرائحون، أما تجارنا فهم بمعزل عن ذلك التفنن، وقد يكون دكانهم في مكان غير
مطروق كثيرًا ويهملون في عرض بضاعتهم والإعلان عنها فتبور، مثل تجارنا في
حوانيتهم كمثلنا في بيوتنا ففينا من الذكاء والمقدرة وما يمكننا من جعل بيوتنا جنة
ولكن قلة العناية هي التي تؤخرنا وتعوقنا.
العمل - أما العمل البيتي أو الخارجي فإننا يجب أن نعترف للمرأة الغربية
بسبقها فيهما وإن كانت غنياتنا وأغلب غنياتهم لا يكترثن إلا بالملاهي والأزياء
ولكن المتوسطات هناك لا يأنفن من مزاولة الطبخ والكي والترتيب كما تأنفه
متوسطاتنا، وفقيراتهن يعملن ما يقوم بأودهن وأود أسرهن. أما فقيراتنا فإما أن
يتسولن أو يشتغلن بعمل قليل الكسب والشواهد كثيرة على ذلك وأقربها وهو ما نعرفه
كلنا أنَّ الخياطات المصريات لا نكاد نجد بينهن واحدة يمكنها تفصيل الثياب وخياطتها
جيدًا، وهن لعدم إتقانهن العمل يكتفين بأجرة قليلة مع ما يتكبدنه من التعب وإنفاق
العافية فتأخذ الواحدة خمسة قروش أو عشرة أجرة الثوب في حين أن الإفرنجي
تطلب جنيهين على الأقل مقابل تعبها فقط , وكذلك الطبيبات منا يكتفين بدروس قليلة
من التمريض ولا ينظرن لمثيلاتهن الأجنبيات اللاتي برعن في الطب ونلن نفس
شهادات الرجال. والمربيات والخدم المصريون لا يفقهون معنى التربية وأغلب
الخادمات لا يصلحن فنضطر أن نجلب هؤلاء من الإفرنج.
يقولون: الحاجة أُمُّ العمل، فما بالنا نكسل ونقصر ونحن في شديد الحاجة
لأمثال هؤلاء الخياطات والطبيبات والمتعلمات وغيرهن. من فروض الكفاية أن
يكون كل هؤلاء مصريات في مصر فيمنعن بعض مالها من التسرب في جيوب
الأجانب وهن ساكنات ينظرن، لقد أصبحت كلمة مصرية في أفواه الأجانب
عنوانًا على الكسل وعدم المقدرة فهلاَّ يبعث فينا ذلك التعبير روح النشاط وحب
العمل؟ هلاَّ حاكيناهن فيما تفوقن فيه علينا من العلم والعمل؟ أم هل تكفي محاكاتنا
لهن في الزي والتصنع أن نصبح مثلهن؟ إنهن أسسن الجمعيات وأدرن
المستشفيات والملاجئ وقمن يشتغلن بكل فن حتى إنهن يطلبن مشاركة الرجال في
الانتخاب لحكم بلادهن وما ذلك إلا نتيجة العلم والتربية على حب العمل.
من حب العمل عندهن الرياضة في ساعة الفراغ فترين أنهن يشتغلن حتى
وهن يطلبن الراحة، أما نحن فنكسل ونطلب الراحة في ساعات العمل، ألم تسمعن
بجمعية الصليب الأحمر وكيف تخاطر النساء فيها بحياتهن لمداواة الجرحى
والتقاطهم ونار الحرب تستعر؟ ! ليس ينفي الهم ويضمد الجراح كالمرأة الآسية.
إن النساء المنخرطات في سلك تلك الجمعية يُعَرِّضْنَ أنفسهن للهلاك وتكبد
مشاق السفر وتحمل البرد القارس إلى درجة الجليد بين سهول منشويا وحزونها وفي
الأقاليم الاستوائية التي يذيب حرها اللافح رأس الضب. وقد كان نساء العرب يفعلن
نفس هذا الفعل الشريف في الحرب ويزدن عليه تشجيع المجاهدين وتغذية الجياد قال
عمرو بن كلثوم في معلقته:
يقتن جيادنا ويقلن لستم بعولتنا إذا لم تمنعونا
وقد كانت مخاطرتهن هذه تثير الشجاعة في الرجال وتحملهم على الإقدام بدليل قوله:
إذا لم نحمهن فلا بقينا ... بخير بعدهن ولا حيينا
وقوله في موضع آخر من القصيدة:
وما منع الظعائن مثل ضرب ... ترى منه السواعد كالقلينا
الأخلاق - لا أدري أنفضل المرأة الغربية في معرض الأخلاق أم تفضُلنا فهي
أكثر منا شجاعة في اقتحام الخطوب، وإن كانت لا تقل عنا جزعًا عند المصائب
ونحن لا ينقصنا ذكاء كذكائها وإنما ينقصنا عزم وثبات كعزمها وثباتها. وهي تعمل
لتعيش ونحن نتكل إما على آبائنا أو أزواجنا فلا نعمل وهذا الاتكال معيب في نفسه
فضلاً عما تخلفة تقلبات الأيام من تخطئة فلو تعلمت كل فتاة ولا سيما مَن لا رزق
لها كيف تكسب عيشها شريفة مستقلة لما رأينا البائسات تموج بهن الطرقات
والمهيضات بعد سابغ عز وسابق نعمة ينتظرن إحسان الأخ أو أحد الأقارب وقد
تكون امرأته سيئة الخلق فيملان عشرتها أو يكون لهن من الأولاد ما ينوء بتربيتهم ذلك
الأخ أو القريب، والمرأة الغربية تعتني بكل شيء حتى التافه، ونحن بما رُكِّب في
طبعنا من المسالمة نميل إلى الإهمال والكسل، وأرانا أسلم منها قلبًا وأقل خداعًا
بالطبع ولعدم الاختلاط بالرجال أيضًا فإنها لتجوالها في الخارج تتعلم كيف ترضي
هذا وذاك لتظهر فاتنة جذابة، والحاجة تعلمها الاحتيال على العيش فهي تطلبه بكل
الوسائل الممكنة، وهي أنشط - ولا شك - منا وأثبت على العمل إلا أننا أكثر
قناعة وأرضى بالقليل.
بقية العادات - للخرافات سلطان كبير على المرأة الغربية وإن كان بعضنا يظن
أنها معصومة من الخطأ فنحن وهي سِيَّانِ في التفاؤل والتشاؤم وتصديق العرافات
والمنجمين والمشعوذين والاعتقاد بطول العفاريت والخوف من الظلمة، وعندنا
(الزار) وهو أبو الخرافات، ومفسد البيوت، وهي لا تعتقد به وإن كانت تصاب
بأعراضه العصبية، فلماذا اختارتنا العفاريت مسكنًا لها؟ وإذا فرضنا المستحيل
وصدقنا القائلين بتقمص الأرواح، فلماذا لا تلجأ إلينا روح أرسطو وابن رشد
وأبي العلاء وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين؟ أم قضي علينا حتى في الكذب
والتُّرَّهات أن نكون دائمًا متأخرات فلا يلبسنا إلا (الشيخة رمانة وسفينة يوسف
مدلع) وغيرهم ممن لا يطلبون إلا الخلاخيل والمصوغات والسيوف المذهبة؟ إلا
أننا لم نبرع في حيلة ما إلا هذه.
تخاف المرأة أن نطلب ملابس وحليًّا فيرفض زوجها الطلب فتعمد إلى ادعاء
العفاريت والجن لتهديده، وأعرف كثيرات ادعين (الزار) فرفض طلبهن وبعضهن
ضُرِبْنَ لأجله فلم يعدن إليه. فيا ليت شعري إذا كانت العفاريت جبناء إلى هذا الحد
فلماذا لا يستعمل الرجال العصى وهي كثيرة، وإن كنت لا أوافق على ضرب الرجل
المرأة بحال من الأحوال وإنما هي تصر أن العفريت هو الذي يتكلم بلسانها ويشعر
بأعضائها وإنها أعارته ظاهرها ولا أعلم إلى أين ذهبت هي، وإذن فليضرب العفريت
فهو الذي يتألم ولا يصيبها شيء كما تزعم في غير الضرب، ولعل المتحضرات
الحديثات يدعين قريبًا أن الملائكة تقمصت بأجسامهن لأنهن أحكم تصرفًا وأحسن
اختيارًا، وأظن عفاريت الأرض نفدت بكثرة الطلبات فليصرفن همهن إلى السماء
كما صرفه مخترعو الطيارات لما ضاقت بهم فجاج الأرض، وحينذاك يأنفن من
ركوب الضأن والإبل فيمتطين المخترعات الحديثة وإن كانت لا تزال خطرة فلا
تتيهن علينا البارونة دي لا روش بما نبغ عندنا مثلها كثيرات وإن كان باعثهن (مودة
الزار) لا العلم.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي الزار في القبح إلا محاضرة الرجل في
الرقص وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادّة الصواب وما ينشأ
عن حريتها المطلقة بلا قيد ولا وازع من الضرر البليغ والإخلال بالشرف، وأدهى
من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد (libre penseur) وهو مذهب
من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن
وتربيتهن ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يُرضي فهل يصح أن
تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ ألم يكن الإيمان بالله وترقب ثوابه وعقابه
مانعين لكثير من الناس عن الانتحار والكفر؟ {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل:
٥٩) .
إن النفس أمارة بالسوء وقد تُقْدِمُ على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي
وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟ وأرانا لا نتمسك شديدًا بديننا الحنيف وهي
بدعة وعدوى أتتنا من الغرب فهلا تفكرنا قليلاً فيما ينفعنا وما يضرنا قبل الإقدام
على التقليد، أوَكُلَّما رأينا إنسانًا يفعل شيئًا حاكيناه وإن كان في ذلك هلاكنا وخسارة
ديننا ودنيانا معًا.
المآتم - بينا الإفرنجية ورجالنا أيضًا يجتهدون في التلهي والتعزي عن
المصيبة تجدنا بالعكس: نعقد الاجتماعات لنبكي ونستأجر المعدادت لتزيد نار
الأسى في قلوبنا، وماذا يجدي الحزن وهو لا يرد ميتًا ولا يعيد مفقودًا، قال أبو
العلاء:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنَّمُ شادِ
وإن من لوازم الإسلام أن يصبر المرء عند المُلِمّات ويترك ما فات لما هو آت،
والعاقل من يصرفه همه إذ لا غبطة في العيش مع البؤس، وإنِ العمر إلا أيام
تنقضي فلماذا لا نجعلها سعيدة بقدر ما نستطيع؟
المسرات - وإننا في جلب المسرات لمقصرات نحو أنفسنا ومَن هم في ذمتنا
من الأهل والأولاد وحبذا لو اتبعنا طريقة المرأة الغربية في ذلك فإنها تعقد الاجتماعات
وتوالي السمر وتدعو أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاءها لتناول الشاي أو الطعام أو
التنزه معًا فيتجاذبون أطراف الحديث ويبدي كل منهم رأيًا أو حكاية لا تخلو من فائدة
أو فكاهة ويتعاطون لعبات مختلفة لتنشيط أذهانهم وأبدانهم ويتبادل المجتمعون الدعوة
كل بدوره فيتراءى أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاؤها كل يوم تقريبًا فينفون همهم
ويأنس بعضهم ببعض فيظلون في وئام ووفاق.
الخدم - المرأة المصرية لا تقدر نفسها قدرها، وطالما رأيت سيدة تضاحك
الخادمات وتكاشفهن بأسرارها فلا يتأخرن في إذاعتها في البيوت الأخرى وهذا من
الخطل في الرأي. يجب أن يعامل الخدم بالرأفة ولكن لا تتعدى تلك الرأفة حدودها.
ألم تستغربن مرة مِن أن خدمنا لا يشتغلون عندنا نصف ما يشتغلون في البيوت
الإفرنجية ومع ذلك تراهم هناك أنشط وأهدأ خلقًا مما إذا كانوا في بيوتنا.
السبب بَيِّنٌ وهو أن المرأة الإفرنجية تحفظ هيبتها فيخشاها الخدم وهي لا تخالطهم إلا
عند الأمر والنهي ولا تحط من شأنها بمسامرتهم ومضاحكتهم وتفرض عليهم شغلهم
وتريه لهم أول مرة ثم تتركهم وشأنهم فيعرفون واجباتهم.
٥- الدور الخامس دور الأمومة.
هذا الدور مرتبط بدور الطفولية ارتباطًا تامًا حتى يكاد يندمج أحدهما في الآخر
وعليه فكل ما قلته هناك أقوله هنا.
النتيجة:
والنتيجة أن المرأة الغربية سبقتنا بمراحل في العلم والعمل مع أننا لا نَقِلُّ عنها
ذكاء وكل ما لا يستحيل طبعًا فهو ممكن بالمعالجة واتخاذ الجد مطية إليه مهما صعب
الطريق واستعصى فإذا تدرعنا بثبات العزم وقوة الإدارة فإننا نصل إلى ما وصلت
إليه من نور العلم ورفعة المقام ولا يثبطنا قول القائلين (إن الشرق شرق والغرب
غرب) فإن التأريخ أعدل حكم وهو حافل بذكر الشرقيات اللاتي نلن من بعد الصيت
ووفرة العلم منالاً كبيرًا أيام كانت الغربيات لا ذِكْرَ لهن فاقرأن تواريخ نساء العرب
في الشرق والغرب تجدن نادر الذكاء وجزل الشعر ومتين الأسلوب ما يشهد لَهُنَّ بعلو
الكعب في العلم العمل.
إن الضعيف إذا لم يُرزق قوة التمييز خُيِّل إليه أن كل ما يأتيه القوي حسن.
ذلك مَثلنا أمام المرأة الغربية فهل تردن أن نثبت للملإ خمولنا وخلونا من التمييز أم
تردن أن نعمل على حفظ قوميتنا وتقوية روح الاستقلال فينا وفي الأجيال القادمة من
أولادنا؟ إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تَحتَّم علينا أن لا نقتبس من المدنية
الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائمًا لعاداتنا وطبيعة بلادنا.
نقبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل. نقتبس منها أساليب التعليم والتربية
وما يرقينا حتى نبدل من ضعفنا قوة، وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن
نندمج في الغرب ونلاشي ما بقي لنا من القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة.
وفي الختام لا يسعني أيتها السيدات إلا أن أشكر لكُنَّ حسْن إصغائكن وتأييدكن
إياي بالحضور وآمل أن نسمع ونعي ولا أخالكن إلا عازمات على ترك جمودنا
القديم وعلى العمل معًا لرفع شأننا وشأن هذا الوطن والله أسأل أن يوفقنا ويهدينا
سواء السبيل.