للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإكراه على الإسلام بالسيف

س ٢٧ من س. ع التلميذ في مدرسة الحقوق بالآستانة.
إلى فليسوف الإسلام وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الأغر مَتَّعَنِي الله بطول بقائه آمين.
رأينا في الجريدة التي يصدرها مجد عبيد الله مبعوث آيدين في الآستانة مسألة
عجبنا من صدورها من مسلم وازداد عجبنا ضعفين؛ إذ سمعنا أن كاتبها صاحب تلك
الجريدة يعد من علماء الترك، ثم ازداد عجبنا أضعافًا مضاعفة؛ إذ بلغنا أن تلك
الجريدة تصدر بمساعدة الحكومة ونفقتها وهي هي الحكومة الدستورية المؤلفة من
هيئتين: إحداهما تسمى التشريعية، وأخرى تسمى التنفيذية وكل منهما مؤلفة من
المسلمين وغير المسلمين.
تلك المسألة هي التي جعلها أعداء الإسلام أشد مطعن وهي ادعاء أن الإسلام
قام بالإكراه والإجبار لا بالدعوة والحجة، وأنه يجب على المسلمين الآن أن يكرهوا
الناس على الإسلام بقوة السيف فقد قال في العدد الحادي عشر من تلك الجريدة
المسماة باسم (العرب) ما نصه:
(إن أكبر مرشد في الإسلام هو النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل كتاب
الله في يد والسيف في اليد الأخرى، فكان إذا رأى من لا يقبل الحق الذي يدعوه إليه
في الكتاب أرغمه بالسيف، فأنتم يا معشر المرشدين المكلفين بوظيفة الإرشاد
{َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) .
(ثم إن الخلفاء الراشدين والأمراء المرشدين الذين جاؤوا بعد النبي عليه
الصلاة والسلام قد اقتفوا كلهم هذا الأثر الجليل) اهـ بحروفه إلا كلمة أسوة في
الآية الكريمة فكان مكانها في تلك الجريدة كلمة (قدوة) وهي بمعناها، ولكن لا
يجوز نقل القرآن بالمعنى وما أظن أن صاحب الجريدة تعمد ذلك وإن كان يوجب
ترجمة القرآن، لأنه لا يخفى عليه أن تعمد تغيير ألفاظ القرآن بمعناها في العربية
كفر وردة مقررة عن الإسلام.
فما قول المنار في هذه الدعوى؟ أحق ما يقول محمد عبيد الله أفندي وبعض
الطاعنين في الإسلام من الإفرنج في هذه المسألة أم هو باطل؟ إن قلتم بالأول فهل
تقولون أيضًا بما فرعه عليه محمد عبيد الله أفندي من وجوب قيام خليفة المسلمين
وجميع أمرائهم ومرشديهم بإكراه غير المسلمين بقوة السيف (وما معناه من المدافع
والبنادق) على قبول القرآن واتباعه أم لا؟ إن قلتم: نعم فلماذا يترك الخليفة وغيره
من الأمراء والمرشدين حكم دينهم والتأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجب
على مجلس المبعوثين في الدولة العلية أن يلزم الخليفة بذلك أم لا؟ وإذا كان يجب
ذلك على المجلس وتركه فهل يكون أعضاء المجلس من المسلمين فاسقين بترك هذه
الفريضة أم ماذا يكون حكمهم؟ وإن قلتم: لا يجب ذلك فكيف تقولون بالأصل دون
التفريع عليه؟ أفتونا وعلمونا مما علمكم الله.
ج - الحمد لملهم الصواب ونقول وبالله التوفيق:
(إن تلك الدعوى التي ادعاها صاحب تلك الجريدة باطلة بأصولها وفروعها
ولا يقول بها من يعرف حقيقة الإسلام إلا إذا تعمد الكذب والبهتان بقصد إيقاع الفتن
بين المسلمين وغير المسلمين وإلجاء دول أوربا إلى الاتفاق على الإيقاع بالدولة
العلية، ولا يعقل أن يأتي هذا من رجل عاقل له صفة رسمية في هذه الدولة، فنحن
لا نبحث في قصد كاتب تلك الجمل التي نقلها السائل ولا في التأثير السيئ الذي
يخشى أن يثيره صدورها من مثله، ولا في صحة ما شاع من إعانة الحكومة على
نشر جريدته، وإنما نخص كلامنا فيما هو اللائق بباب الفتوى من بيان الحقيقة
فنقول:
بينا الحق في هذه المسألة في مواضع متعددة من المنار والتفسير خاصة
ولا سيما تفسير آيات القتال في سورة البقرة وكذا تفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) منها فراجع تفسير {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا} (البقرة: ١٩٠) الآيات من ص ٢٠٣ إلى ٢١٢من جزء التفسير الثاني،
وتفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) من ص ٣٥- ٤٠ من جزء التفسير
الثالث، ولا يذهبن ظنك إلى أن حكمنا على من يذهب إلى هذا الرأي بالجهل أو سوء
القصد حكم بدا لنا الآن نريد أن نلصقه بهذا الرصيف الجديد، كلا إن هذا هو
رأينا منذ سنين طويلة فراجع إن شئت ص ٢٠٥ج٢ تفسير تجد فيها أن المسلمين لم
يكونوا في قتالهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدافعين وإننا قلنا بعد هذا
البيان ما نصه: (وهل يصح أن يقال فيهم: إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون
الإرشاد والدعوة، كلا لا يقول ذلك الأغر جاهل، أو عدو متجاهل، ولا تنس ما
نقلناه بعد ذلك عن الأستاذ الإمام في ص ٢١٠، ٢١١ من هذا الجزء وكذا في ص
٣٩ من الجزء الثالث من التفسير ومنه قوله في آخره: (ولا التفات لما يهذي به
العوام، ومعلموهم الطغام؛ إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد
مطلوب لذاته فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم) ، وإذا راجعت الجزء الرابع
من التفسير تجد فيه بيانًا لهذه المسألة أيضًا، والأصل في هذه المسألة قوله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) وهي مدنية وقوله
تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩) ومثل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) وقوله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: ٤٥) وكذلك تقييد آيات القتال بجعله
دفاعًا والنهي عن الاعتداء فيه كآية (١٩٠ من سورة البقرة) التي ذكرنا معظمها
آنفًا والراجح في علم الأصول أن المطلق يحمل عليه المقيد وعليه الشافعية.
والسنة العملية تؤيد هذه النصوص الواضحة فإن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يأذن أحدًا من المسالمين له بحرب أبدًا، وإنما كانت غزواته كلها دفاعًا فكان
المشركون قبل فتح مكة حربًا له وللمؤمنين؛ آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم،
وكانوا يجهزون الجيوش فيسوقونها إليهم في دار الهجرة؛ ليستأصلوهم كما فعلوا في
بدر وأُحُد والخندق فهم معهم في حرب دائمة يصيب منهم ويصيبون منه، فلما
رضوا منه بالصلح عشر سنين فرح بذلك ورضي منهم بأشد الشرائط وأثقلها على
المؤمنين وهو في قوة ومنعة منهم قادر على الحرب وسبق له الظفر فيها، ثم كان
المشركون هم الذين نقضوا الميثاق.
وقد بلغ من تقرير الإسلام للسلام أن شدد في المحافظة على عهوده إلى درجة
ليس وراءها غاية وهي أن المشركين الذين عاهدوا المسلمين المهاجرين إذا وقع
قتال بينهم وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وطلب هؤلاء المسلمين من إخوانهم
المهاجرين أن يعينوهم على المشركين المعاهدين لهم فإنه يحرم نقض عهدهم
بمساعدة المسلمين عليهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم
مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: ٧٢) .
كنت أظن أن محمد عبيد أفندي من أوسع علماء الترك اطلاعًا على السيرة
النبوية الشريفة؛ لأنه من أعلمهم باللغة العربية نفسها لإقامته الطويلة في البلاد العربية
فكيف راجت عليه هذه الدسيسة الأوربية والأوهام العامية؟ ليأتنا بحديث واحد في
إثبات دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ القرآن في يد والسيف في
أخرى ويعرض القرآن على من يلقاه فإن آمن وإلا أنحى بالسيف على هامته ففلقها.
ما رأينا حديثًا في ذلك صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًًا بل لم نر ذلك في
الموضوعات التي كذبوها عليه صلوات الله وسلامه عليه!
هل يمكن أن يقول مثل عبيد الله أفندي إنه استنبط ذلك من حرب الصحابة؛ إذ
كانوا يعرضون على من يتصدى لحربهم الإسلام فإن لم يجيبوا فالجزية فإن لم
يقبلوا كان السيف حكمًا بينهم وبينهم؟ ! ما أراه يجرؤ على القول بأن هذا يؤيد قوله
ذاك وإن سلمنا له أنه من السنة المتبعة. إن اتباعهم لهذه الطريقة إنما كان بعد تقرير
الحرب والتصدي لها وإنما كان سبب الحرب بين الخلفاء الراشدين وبين الروم
والفرس اعتداء الروم والفرس لا اعتداء الصحابة العاملين بقوله تعالى: {وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) والذين صاروا بمقتضى هذه
الآية وأمثالها يكرهون القتال وإن فرض عليهم لضرورة المدافعة عن أنفسهم ودينهم
وتأمين دعوته كما شهد الله لهم بذلك في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة: ٢١٦) .
ذلك بأن الروم والفرس كانتا أمتي حرب وقد ضريتا بما جاورهما من جزيرة
العرب فأظلت سلطة كل منهما بعض العرب المجاورين لهما، لذلك وللعصبية الدينية
ساءهما دخول أكثر العرب في الإسلام وتجدد دولة لهم تابعة لدين مبين فكان كل
منهما يهدد دعوة الإسلام في جواره ويعتدي على المسلمين فلم يكن للمسلمين بد من
محاربتهم، ولما كان المسلمون يجوزون قبل الشروع في كل قتال أن يمتنع بأحد
السببين: إسلام المحاربين لهم أو الخضوع لهم بدفع شيء من المال لا يثقل دفعه إلا
على من وثق بقوته على الحرب؛ لمنع دعوة الإسلام الجديدة من الانتشار في
الأرض، فكانوا يعرضون أحد هذين الأمرين والحرب مقررة قبل ذلك بما سبق من
الاعتداء، ولم يكن عرضها هو السنة المتبعة في الهداية والإرشاد، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم دعا كسرى وقيصر وغيرهما إلى الإسلام ولم يهددهما بالسيف وإنما
دعاهما بالحكمة والموعظة الحسنة اتباعًا لما أمره الله تعالى به في قوله: {ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: ١٢٥) .
لو ذكر محمد عبيد الله أفندي عبارته تلك في سياق الكلام عن الجهاد وأحكامه.
لتيسر لنا أن نتمحل لها تأويلا ولكنه ذكرها في سياق الإرشاد وذكر العلماء المرشدين
في صحيفة قال: إنه أنشأها لإرشاد العرب وحثهم على إرشاد العالم فما هي المناسبة
لذكر السيف والإرغام على قبول الحق وإنما موضع الحق القلوب وهي لا يصل
إليها السيف، بل السيف وذكر السيف مما يزيدها نفورًا، ويجعل بينها وبين الحق
حجرًا محجورا.
ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل فإن له شذوذًا في مسائل
أخرى دينية وتأريخية كادعائه أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما تمت ولا تتم إلا
بترجمة القرآن إلى جميع اللغات، وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم
الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية وعن القرآن العربي المنزل من عند الله
تعالى آية للعالمين معجزًا للبشر على مر السنين، بترجمته إلى التركية والفارسية
وغيرهما من اللغات.
وإن كان المترجم يترجم بحسب فهمه فيختلف مع غيره فيكون لكل أهل لغة
قرآن، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المُنزل من عند
الله ولا يصح التعبد بتلاوتها ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن، وقد سبق
لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين، وكإنكاره أن للبشر أرواحًا مستقلة
هي غير الجسم المحسوس وأعراضه.
وقد ناظرته في ذلك بدار الشريف علي حيدر بك ناظر الأوقاف، وكادعائه أن
جميع العرب مسلمون وإنكاره أن يكون في النصارى عربي واستدلاله على ذلك
بعبادتهم لرجل يهودي أو قال: إسرائيلي. (يعني: السيد المسيح روح الله ورسوله
عليه الصلاة والسلام) فلا عجب أن يشذ في مسألة السؤال، ولكن العجب من جرأته
على نشرها في صحيفة تنشر في عاصمة المملكة حيث المحكمة العرفية العسكرية
المراقبة لكل ما يحدث التنافر بين العناصر العثمانية المختلفة في اللغات والأديان.
وللسياسة أسرار ولا بحث لنا فيها الآن.
مما يقوي فراستنا في سريان هذه المسألة إلى قائلها من بعض الكتب الأوربية
الطاعنة في الإسلام أنها تكاد تكون ترجمة لعبارة قالها بعض أولئك الطاعنين في
مؤلف له وأشار الأستاذ الإمام إلى الرد عليها في رسالة التوحيد فإنه بعد أن قرر قيام
الإسلام بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع، بموافقته للفطرة، قال رحمه الله تعالى
في الرد على قائل تلك العبارة وأمثاله ما نصه:
(قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى
اليدين والسيف بالأخرى يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف
بينه وبين حياته. سبحانك هذا بهتان عظيم، ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من
دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الريبة في
جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما أشهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن
أنفسهم، وكفًّا للعدوان عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ولم يكن من
المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم فكان الجوار طريق العلم بالإسلام
وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه.
(لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة مع كثرة الجيوش ووفرة
العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها وابتدأ ذلك العمل قبل ظهور الإسلام
بثلاثة قرون كاملة واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة أجيال أو يزيد فتلك
عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر مبلغ الإسلام في أقل
من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده بل كان الحسام لا يتقدم خطوة إلا والدعاة من
خلفه يقولون ما يشاؤون تحت حمايته مع غيرة تفيض من الأفئدة وفصاحة تتدفق عن
الألسنة، وأموال تخلب ألباب المستضعفين، إن في ذلك لآيات للمستيقنين.
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين: سلسبيل حياة نبع من القفار العربية، أبعد
بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فجمع شملها فأحياها حياة شعبية ملية، علا
مَده حتى استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض
بمدنيتها، زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح فانشقت عن
مكنون سر الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو من غلب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله
في الخلق لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي قائمة في هذا العالم
إلى أن يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيى ميتها،
وينقع غلتها، وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة
فعلاها، أو بيت رفيع العماد فهوى به؟)