للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مستقبل الإسلام [*]
يسرنا أن شعور المسلمين بالخطر الذي يتهددهم في مشارق الأرض ومغاربها
قد نبه الأفكار إلى البحث في أسبابه والسعي في علاجه، فكأن أرواح العقلاء
والنبهاء تتناجى في كل قطر من الأقطار، وكأنني أسمع كريرًا (هو صوت من
الصدر كصوت المنخنق) وزفيرًا يفصحان عن الخطب ويمثلان الكرب، فائضان
من صدور أهل الشرق والغرب، ويتلاقيان في مركز الدائرة وبهرة الإسلام مصر
المحروسة أعزها الله تعالى. بالأمس سمعنا صوت الكاتب المراكشي يحذر وينذر
ويسأل ويجيب، واليوم نسمع صوت الكاتب الهندي يوقظ وينبه ويستنهض الهمم،
ويستسقي الديم، بكاء ونواح، وعويل وصياح، وإثارة رياح، أسف واستياء،
واتفاق على الداء، واختلاف في العلاج والدواء، فمتى تتفق الأفكار في النتيجة كما
اتفقت في المقدمات؟ وأيان تشترك في الأعمال، مثلما اشتركت في الأقوال؟
ما هي النتيجة؟ قالوا اجتماع كلمة، اتفاق قلوب، التفاف حول لواء الخلافة،
اتحاد المشرق مع المغرب الإسلاميين، علوم ومعارف، فنون وصنائع، معاهدة
ملوك الإسلام، تأليف جمعيات، عقد شركات... كلمات متقطعة، بين همهمة
وهينمة، أو ضوضاء وجلبة، لا تظهر حقيقة، ولا ترشد إلى طريق.
نشرنا مقالة المغربي في العدد الماضي من جريدتنا وأجبنا عن سؤاله، وننشر
الآن نبذة من مقالة المشرقي (الهندي) ونجيب عنها، وما الجواب إلا واحد، ولكن
الأساليب تتلون بألوان كثيرة وتتجلى في أشكال متعددة.
قال الكاتب الهندي الفاضل فيما ترجمه المؤيد الأغر عن جريدة محمدان الغراء
بعد كلام شكر فيه صاحب هذه الجريدة (محمدان) على نقله عن الجرائد الإسلامية
ما يهم المسلمين ويبعث على تقوية رابطتهم:
(وإن أحدنا ليحزن حقًّا إذا جال بخاطره في بلاد الإسلام وممالكه ورآها
جميعًا على غاية من التأخر والاضمحلال، وأنه لا توجد دولة واحدة من بين الدول
الإسلامية تستحق الإعجاب بها والمباهاة بتقدمها) ثم قال:
أجل إن الوقت حرج، والمركز صعب، والحياة مريرة، فإذا لم يعمل
المسلمون بكل جهدهم ويستيقظوا من سباتهم العميق، فإنهم بلا ريب يصبحون كأمة
اليهود لا وطن ولا دولة لهم (ولكن ليهود اليوم المال يحميهم ويرفع شأنهم، أما
يهود الغد الفقراء فلا يكون نصيبهم سوى الذل والهوان) .
(وإذا قيل: أين الوقت وأين الفرصة؟ قلنا: الساعة التي نحن فيها على بقية
من الرمق، فالواجب على أصحاب المدارك السامية من المسلمين أن يقدحوا أزند
أفكارهم، ويبحثوا عن المسالك النافعة والطرق المؤدية إلى منفعتهم) .
(هذا هو الوقت الذي يلزم فيه أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد
الثاني المشهور بالعقل والدهاء، وحب توثيق عرى الجامعة الإسلامية حولها أن
يبرهن للعالم الإسلامي على أنه الأحق بالخلافة من كل خليفة لبس تاجها) .
ثم تكلم في موضوع تأسيس مجتمع إسلامي في الآستانة العلية تحت رئاسة
مولانا أمير المؤمنين (وذلك ما لا يكون) ثم قال:
وإذا أردت زيادة التوضيح فاسمح لي أن أقول: إن هذه البلاد الإسلامية لا
يرتفع لها شأن إلا إذا حمل الأفراد على مشاركة الحكومات فيما تجريه، وفي جميع
مسئولياتها، فإن الحمل أصبح الآن على أكتاف الحكومات التي يديرها رجل واحد
أو رجلان على الأكثر ثقيلاً جدًّا، فالحكومات الأوروبية الآن تحمل على حكومات
الإسلام بوطأة شديدة، وإذا نوقشت بالعقل أفحمتها بأن وراءها البرلمانات التي تمثل
الأمم في قوتها تقهرها على السير في السبيل الذي تسلكه.
أي رجل معتوه يقول: إن وزيرًا من وزراء دولة العجم مثلاً يقدر أن يقف
وحده تجاه برلمان إنكلترا أو مجلس نواب فرنسا؟
إن كل فرد من أفراد ممالك أوروبا يعتقد في نفسه أنه عضو عامل في
حكومة بلاده، بينما المسلم لا يعتبر إلا أنه حجر ينقل إلى حيث ينقل، ويستقر حيث
يلقى أو يقذف به من حالق، وزد على ذلك أنه جاهل يدعوه جهله إلى الابتعاد عن
وسائل المدنية الحقة. وفي بلاد الإسلام تجد الجزء الأكبر من الشيوخ الذين لهم
تأثير عظيم في النفوس لا يحبون الإصلاح ولا الانتقال عما اعتادوه وورثوه عن
آبائهم، ثم هم مع ذلك يشغلون أوقاتهم بالأمور التافهة، والمشاكل الشخصية، فلا
يجد الحكام مجالاً لبث أشعة نور الإصلاح مع كل هذه الأحوال، فكيف ينتظر لنا مع
هذه الحال نجاح، أو ارتقاء في مدارج الإصلاح.
(يتضح لك مما تقدم أن تأخرنا ناتج عن جهل المجموع وخموله، فإذا نحن
عقدنا النية على ترقية شأننا فعلينا أولاً أن نرقي المجموع، ونقيم ما اعوجّ من أموره،
ولا تكون هذه التربية النافعة قاصرة على المكاتب الصغيرة القديمة العقيمة. بل
تترجم إلى لغاتنا جميع مباحث العلوم العصرية وفروعها، وتدخل الصنائع
والإدارات التي رفعت درجة العالم الأوروبي، وتهب حكومات الإسلام رعاياها
حرية الكلام في الخطابة والكتابة مع بعض امتيازات تسمح بأن يكون لهم صوت ويد
في سير الحكومة وتدبيرها، حتى يتمكنوا من إدخال الإصلاح) .
ثم تكلم عن دولة الفرس وعدم التفاتها إلى التعليم والتنظيم العسكري، وذكرها
بما يتهددها من قوة الروسيا ثم قال:
شهد العالم في العام الماضي فوز الدولة العلية وانتصار جنودها الباسلة
واستعداد ضباطها. فَلِمَ لا تأخذ دولة الفرس ضباطًا من الأتراك بدل الضباط من
الروس؟! أو لماذا لا ترسل دولة الفرس شبانًا من عندها ليتعلموا الفنون
العسكرية في المدارس الحربية العثمانية، ليعودوا ضباطًا ماهرين أَكْفَاء للقيام بأعباء
وظيفتهم.
إنه وإن تكن البلاد الهندية لم تصل إلى درجة عظمى من المعارف لكن
مدرسة (عليكره) التي أسسها المرحوم السيد أحمد خان قد أنتجت رجالاً أفاضل
نابغين في المعارف والعلوم، أفلا تحسن حكومة الفرس لو استعارت من أمثالهم
معلمين في مدارسها أو لخدمتها أولى من تعيين البلجيكي والطياني أو غيرها؟
وإذا أدار الإنسان نظره إلى شطر بلاد الافغان رأى أن أميرها حفظه الله
يجتهد كل الاجتهاد في إيجاد مملكة قوية حربية، ويضاف إلى ذلك ظهوره بمظهر
الولاء لإنكلترا في أحرج المواقف وأصعبها، ولكن النجاح الذي تناله الأفغان ليس
مما يعظم الأمل في مستقبلها.
(وإن الإنسان يتولاه الاندهاش حين يرى رجلاً عظيمًا مثل الأمير عبد
الرحمن خان لا يهتم بالتعليم والتربية في بلاده، وقد شهدت له الناس بالغيرة الشديدة
على إنجاحها، فلا تزال مدرسة (غازني) كما كانت من قديم، لم يحور في تعليمها
شيء، ولم تزد عليها من العلوم العصرية زيادة، ولا يلزم أن تبقى الحالة على
الصناعة الحربية، بل من الواجب إرسال بعض أتباعه إلى البلاد الأجنبية للنظر في
حالة تلك البلاد والنقل عن معارفها وآدابها.
أما المصريين فهم الآن قابلون للتقدم والارتقاء، والأَوْلى بهم أن ينتهزوا
الفرص ويقوموا يدًا واحدة لتربية الناشئين، والاعتناء بأمر التعليم، حيث لا ينفع
قول: ليت ولعل، وقد طالعت في رحلة مولانا شبلي أن التعليم في الأزهر الشريف
ليس كما يرام، ولا ينتظر منه لبلاد الإسلام منفعة كبرى وعائدة جليلة، وفضلاً عن
ذلك فإن مسلمي مصر أغنى بكثير من مسلمي الهند، وأنهم إذا أرادوا ووطدوا
العزيمة قادرون على تأسيس مدارس جامعة كبرى مثل (أكسفورد) و (كمبردج)
الإنكليزية، فهلا يتنبهون للمستقبل وما يأتي به الغد من الحوادث الخطيرة.
اعترف الأعداء قبل الأصدقاء أن جلالة السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين
أقدر الملوك وأعظم سلطان جلس على أريكة سلطنة آل عثمان، ولكنه وحيد يشتغل
وحده، لا يشرك ولا يجد من يساعده من الأفراد على العمل [**] ، وهذا مركب
صعب، ولكن أهم شيء هو الاتحاد الإسلامي وجمع الكلمة على العمل يدًا بيد، وقد
تكلمت الجرائد الإنكليزية أخيرًا عن هذا الاتحاد وقالت: إنه قريب الحصول، ولكن
هذه الأخبار لم تتحقق الآن، غير أني أقول لإخواني المسلمين في كافة بقاع الأرض:
إن الإسلام جسم واحد، رأسه الدولة العلية، وساعداه الأفغان ومراكش، ورجلاه
مصر والعجم، ولا يمنع الدول الأجنبية من الاعتداء والتداخل في بلاد الإسلام غير
هذا الاتحاد، فاجمعوا الكلمة ونادوا بذلك أولاً، ثم متى حصلتم على مرادكم منه
رقوا شأن داخلياتكم، وكونوا مع العصر يومًا بيوم في الآلات الحربية وغيرها،
وإلا كان الاتحاد قليل الجدوى، نسأل الله الهداية إلى اقوم سبيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لا. ي)
(ملاحظة المنار)
يدور كلام الفاضل الهندي على ستة أقطاب:
(١) بيان خطر الحال الحاضرة.
(٢) ذكر أن سببها الجهل والخمول.
(٣) ذكر ما اقترحه بعض الكتاب (صاحب رسالة نشرت في جريدة
محمدان بإمضاء الباحث الإسلامي) من تأسيس جمعية إسلامية في الآستانة العلية،
للنظر في تأخر المسلمين في وسائل تقدمهم والسؤال كيف قوبلت في البلاد الإسلامية.
(٤) الجزم بأن البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا شارك الأفراد
الحكومات فيما تجريه. يريد أن يكون للأمة رأي في أعمال الحكومة الكلية
كالحكومات الشوروية الحية.
(٥) العمل أولاً على ترقية شأن المجموع بترجمة جميع مباحث العلوم
العصرية وفروعها إلى لغاتنا، والعناية بالصناعات والإدارة التي رفعت درجة
العالم الأوروبي وحرية الخطابة والكتابة.
(٦) استعانة الأمم الإسلامية بعضها ببعض بأن تستبدل دولة الفرس الضباط
العثمانيين بالضباط الروسيين، وتستعين بالمعلمين من مسلمي الهند على نشر التعليم
العصري.
ما أحسن هذا البيت المسدس الأركان لو وجد له صناع يبنونه ويملأونه من
عسل المدنية الفاضلة، أو يودعون فيه نتائج السجايا الإنسانية، كما يبني النحل بيته
المسدس ليودع فيه نتاجه، ثم مؤنته من العسل، النحل ينبعث للتعاون على عمله
الذي تتوقف عليه حياة نوعه بحادي الإلهام الفطري، وفطرته سليمة لا يطرأ عليها
فساد ولا انقلاب، والإنسان فطر على التنازع والخلاف، وأعطي قوة على تعديل
فطرته الروحية، وإجابة داعي العقل إلى الوفاق والاتحاد برابطة الدين أو الجنسية
أو الوطنية، فإذا انحلت الرابطة بما يعرض على الروابط الاجتماعية فيحلها، فلابد
من العمل قبل كل شيء على عقدها، ومع كل شيء على حفظها وتقويتها،
والمسلمون لا تجمعهم إلا رابطة الدين كما قلنا غير مرة، وقد انحلت بالتراخي
وكادت تبطل بالمرة. فليس أول عمل يجب علينا هو ترجمة العلوم العصرية إلى
لغاتنا كما قال الكاتب، بل أول عمل يجب علينا هو ما قلناه آنفًا من إعادة الرابطة
الدينية التي تجمع القلوب وتوحد بين الشعوب.
لا خلاف في أن الشعوب الإسلامية في أسوأ الأحوال، وأنه ما من أمة من
الأمم ولا ملة من الملل إلا وفيها من أخذ من ترقي العصر بأوفر نصيب إلا الأمة
الإسلامية. الوثنيون لهم دولة قوية جارت أوروبا وسايرتها خطوة بخطوة،
وضربت معها بكل سهم، وهي الآن أعز دولة شرقية وأقواها ألا وهي (اليابان)
اليهود سابقوا أوروبا في جميع أنواع الكسب بأسبابه ووسائله فسبقوها، وهي الآن
تتبرم منهم وتضطهدهم في كل مكان، فإذا كان في الشرق روح خبيث يحول دون
الترقي كما يتوهم المتوهمون، فلماذا لم يلابس هذا الروح غير المسلمين؟ أليس
اليابان واليهود من الشرقيين؟
إذا كان النجاح متوقفًا على أعمال الحكومة فأية حكومة نهضت بالإسرائيليين؟
أجمع الباحثون في علم الاجتماع على أن تأخر المسلمين ما جاءهم من اختلاف
طبائع الأقطار؛ فإنهم يسكنون كل أرض، ومتبوئون كل قطر، فمن بلادهم الحار
والبارد والمعتدل، وإنما كل البلاء جاءهم من دينهم، فما داموا على هذا الدين لا
يرفع لهم علم ولا تقوم لهم سيادة ولا يستنشقون من نسيم السعادة، بل لابد أن ينزع
منهم دينهم كل سلطة ويهبط بهم إلى أسفل سافلين، وهذه حوادث الدهر بهم شاهدة
بذلك: تنتقص بلادهم من أطرافها، وتنزع من أيديهم ولاية بعد ولاية، بل مملكة
في إثر مملكة، وما بعد العيان من برهان، قالوا: ومن زعم أن لذلك سببًا غير
الدين، فليخبرنا عن مميز آخر انفردوا به عن جميع العاملين؟
بينا في غير هذا العدد من جريدتنا أن هذا القول صحيح، ولكن الذي رمانا
ويرمينا بالنوائب هو الابتداع في الدين لا الاتباع له، والانحراف عن سَننه (بالفتح)
لا الأخذ بسُننه (بالضم) وترك آدابه لا التمسك بأسبابه، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد
من علماء المسلمين ولا من عامتهم، فهم متفقون مع الأوروبيين في أن بلاءهم من
الدين ولكنهم مختلفون في التوجيه والتأويل.
العلم الإجمالي لا يبعث على العمل، ولا يرشد من الغي والزلل؛ لأنه محل
للتأويل والاختلاف في البيان، ولذلك لم ينهض المسلمون للإصلاح الديني مع علمهم
الإجمالي بأنهم في أشد الحاجة إلى الإصلاح، ولماذا؟
العلماء يلقون التبعة على الحكام قائلين أنهم هم الذين أفسدوا في الدين بحكمهم
بالقوانين وتقليدهم الإفرنج في نظاماتهم العلمية والعملية والعادية، كاللبوس ونحوه،
والحكام ينحون باللوم على العلماء ويقولون: إننا لم نجد عندهم غناءً عن القوانين
والنظامات التي أخذنا بها، وإن النظامات العلمية والعملية التي قلدنا بها أوروبا قد
ارتقت بنا ورفعتنا على سائر الحكومات الإسلامية التي لم تأخذ بها، كحكومة
مراكش وسائر الحكومات الأفريقية. وقد ضاعت الأمة بين الفريقين: (الحكام
والعلماء) .
ليس الحكم بالقوانين هو الذي هبط بالمسلمين إلى هذا الحضيض، فلقد بذرت
بذور الهبوط في العصر الأول، وذلك ما عناه الإمام علي كرم الله تعالى وجهه بقوله
(لَبِسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا) . ولقد حدثت الفتن في المسلمين ولم يكن هناك
شيء من هذه القوانين، فروح الدين الذي ينهض بالأمم ويحييها، بل يوجدها من
العدم هو الاتفاق في العقائد الحقيقية والآداب الصحيحة، وقد تزعزع هذان الركنان
في المسلمين، فالتوحيد الذي اجتث الإسلام به شجرة الشرك الخبيثة، واستأصل
جراثيم الوثنية، وأطلق إرادة الإنسان وافتك عزيمته من قيودها، فنال بذلك الحرية
الكاملة، واندفع لكل عمل مفيد، قد صبغ بصبغة الجبر، وجعل آلة لإضعاف الهمم
وتكسيل النفوس عن العمل، ولم يق المسلمين من نزغات الوثنية، فقد تمكنت
نزغاتها في كثير منهم، حتى إنهم ألّهوا الإمام عليًا في عصره، ولا تسل عما جرى
بعد ذلك إلى اليوم، وهذا الموضوع طويل الذيل يحتاج في بيانه إلى مؤلفات، وقد
أوقفنا عليه جريدتنا فكتبنا وسنكتب فيه إلى ما شاء الله تعالى.
أما ما أشار إليه الفاضل الهندي من تأسيس جمعية إسلامية، فأول من اقترح
هذا الاقتراح السيد جمال الدين الفيلسوف الشهير، وقد بسطنا الكلام عليه في مقالتي:
(الإصلاح الديني) في العددين الماضيين على الوجه القريب من الصواب،
والأمل بحصوله ضعيف جدًّا.
وأما جزمه بأن البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا شارك الأفراد فيها
الحكومات إلخ، فهو من الكماليات ولا يتوقف عليه الإصلاح المطلوب، وطلبه اليوم
هو من طلب الغاية في البداية [***] .
وأما استعانة الأمم الإسلامية بعضها ببعض، فهو حسن لا ريب فيه. وأما
العمل على ترقية مجموع الأمة بالعلوم العصرية والصناعات، فلم نأخذ عليه فيه إلا
قوله: أن ذلك يجب علينا أولاً، ورجال الدين يقولون: إن تلك العلوم كفر أو طريق
للكفر، ومجموع الأمة تبع لهم. فالذي ينبغي قبل كل شيء إقناع هؤلاء بأن هذه
العلوم والفنون تتوقف عليها قوة الأمة ومجدها، وأن القرآن أرشد إليها بما أمر من
النظر والتفكر، وبمثل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) . وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
مِّنْهُ} (الجاثية: ١٣) .
كيف يتسنى لنا نشر هذه العلوم قبل هذا وقد سعى بعض عقلاء العلماء بإدخال
علم الحساب وتقويم البلدان وتاريخ الإسلام في الأزهر فاضطربت لذلك الأفكار،
واختلفت الظنون، وقال الأغرار (وأكثرنا أغرار) : إن الأزهر قد فسدت بذلك
تعاليمه وأصبح الدين على وشك الاضمحلال والزوال. لم يكن للأزهر نظام يرجع
إليه، فبعد أن وضع له النظام وقبل أن يجري فيه أقل انتظام وقعت فيه الحادثة
المشهورة التي سببها الحقيقي الخلل وفساد الأخلاق والجهل بأمور الزمان، فقال
بعض اللابسين لباس العلماء: (إن وجود النظام في الأزهر هو الذي أجرى عليه
أحكام النظام وإن الأزهر قوامه بالبركة التي جرى عليها أربابه من قبل، فكل تغيير
فيه لا يكون إلا إفسادًا له) .
فلينظر القائلون بأن إعادة مجد الإسلام تكون بنشر الفنون العصرية في الأمة
الإسلامية إلى أوروبا التي يرومون أن يقلدوها في نهايتها، وهم في بدايتهم، هل
تسنى لها الأخذ بهذه الفنون إلا بعد الإصلاح الديني وإزالة تلك العقبات التي كانت تعد
العلم والصناعات كفرًا وتضطهد المشتغلين بهما أشد الاضطهاد.
أكرر القول بأن الإصلاح الديني هو المطلوب قبل كل شيء، ومع كل شيء،
ولدينا مقالة في ذلك من قلم أعلم حكماء الأمة في هذا العصر ننشرها في العدد الآتي
إن شاء الله تعالى [١] .
((يتبع بمقال تالٍ))