للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


النهضة المصرية والدستور

مصر بلاد ممتازة في إدارتها الداخلية، تابعة للدولة العلية العثمانية، فكل
مصري عثماني، وما كل عثماني مصريًّا، فبينهما العموم والخصوص المطلق
كالمهندس والمتعلم مثلاً، فكل مهندس متعلم، وما كل متعلم مهندسًا.
مر على العثمانيين والمصريين زهاء ثلث قرن وهما على طرفي نقيض، أو
حرفي تباين؛ إذ هؤلاء يرسفون في قيود العبودية، وأولئك يرفلون في حلل الحرية،
ثم تحول شكل الحكومة العثمانية فجأة فَطَرَفَتْ من هاوية الاستبداد المطلق إلى قنة
الحكم النيابي المقيد، فأحدث هذا الطفور شيئًا من رد الفعل فقامت الحكومة العرفية
تحوط وتحمي حمى الحكومة الدستورية، فلولا الجند العثماني لما ذكر الدستور جهرًا
في هذه البلاد، ولولا الجيش لما طمع أحد في استقرار الدستور فيها.
وأما مصر فكانت تنطق؛ إذ كانت البلاد العثمانية صامته واجمة، وكان
العثماني الحر لا يستطيع أن يتكلم في بلده، فالمصريون قد طلبوا الدستور بصوت
أندى من صوت العثمانيين وأصرح، هم طلبوه جهرًا؛ إذ كنا نطلبه سرًّا، ولكن لم
يكن لهم جيش كجيشنا يلبي نداءهم ويجيب دعاءهم، ولم تكن بلادنا كبلادهم محتلة
بجيش أجنبي، ولا حكومتنا كحكومتهم محاطة بنفوذ دولة أجنبية قوية، فوجب أن
يكون طلبهم بالحجة، وتربية الإحساس وجمع الكلمة، فكل من الفريقين قد سعى
إلى مطلبه في محيط الإمكان، ولم يطمع في تجاوزه إلى المحال.
قويت حجة المصريين بعد إعلان الحكومة الدستورية في بلاد الدولة العَلِيّة
التي هي أمهم وهم أقدر أولاد هذه الأم على رفع بلادهم، وترقيتها بجدهم واجتهادهم
وقد انتشر فيهم التعليم ونمي في نفوسهم شعور القومية، واتسعت دائرة التكافل
والتعاون على المصالح العامة، فأنشأوا بأموالهم ألوفًا من الكتاتيب الابتدائية وأنشأوا
مدرسة الجامعة المصرية، وعندهم عدة جمعيات خيرية وعلمية، وكثر قراء
الجرائد والمجلات فيهم، وبلادهم متصل بعضها ببعض بالسكك الحديدية فلا يحدث
في زاوية من زواياها حادثة ذات بال إلا ويطوف خبرها جميع أرجائها في يوم
أو يومين، فأنى للبلاد العثمانية أن تشاركها بهذه المزايا كلها؟ فمن أنكر على
المصريين استحقاق الحكم النيابي الذي يتمتع به العثمانيون زاعمًا أن استعدادهم دون
استعداد إخوتهم له فهو إما جاهل مليم، وإما ظالم مبين.
أنا أشهد أن مصر قد صارت أقوى استعدادًا للحكم النيابي بفضل النابغين من
أبنائها وأبناء أختها سورية الذين جذبتهم إليها جامعات اللغة والجوار والعادات، وبما
استفادته من مشاركة أبناء الشعوب الأوربية، وبما ساقه إليها الاحتلال الإنكليزي من
ضروب العبر في سيطرته على حكومتها، وتصرفه في إدارتها وماليتها، وبما نفحه
استثقال السلطة الأجنبية في نفوس أهلها من حب الخلاص مع بقاء سيادة الدولة
العلية عليها ودوام ارتباطها بها في السياسة الخارجية.
مع هذا كله أقول: إن مصر لا تزال مقصرة في أمر عظيم هو الركن الأعظم
والبرهان القاطع لشبهات الاحتلال، ولو اهتمت أحزابها وجرائدها به كالاهتمام
بالسياسة؛ لكانت أقرب إلى النجاح والفلاح، إلا أن هذا الأمر العظيم هو ما يدل عليه
بالإيجاز لفظ (الاقتصاد) وبيانه بالتفصيل والإطناب، تدخل فصوله في كثير من
الأبواب، وما من باب منها إلا وقد دخله كثير من المصريين، فالأفراد منهم
يعرفون جميع الجزئيات، ولكن الأحزاب والجماعات لما تقم بما يجب من الكليات.
نريد من الاقتصاد أن تكون رقبة البلاد لأهلها خالصة لهم من دون الأجانب
وأن يكونوا أحرارًا في تصرفهم بها، نريد أن يقف سريان امتلاك الأجانب للأرض
عند الحد الذي وصل إليه، وأن نضع عن الوطنيين إصرهم وأغلال الديون التي
غلوا بها أيديهم إلى أعناقهم، وقيودها التي قيدوا بها أرجلهم، ثم نريد أن تكون ثروة
البلاد قوة في أيدي أبنائها يوادون بها من شاؤوا من الأمم ويحادون بها من شاؤوا
فيعملون بها ما لا يعمل السيف ولا القلم فتكون هي العون والنصير لهم في مقاصدهم
السياسية والاجتماعية.
المال هوالقطب الذي تدور حوله أفلاك السياسة في جو هذه المدنية؛ فلولاه لما
زحف أهل الشمال على أهل الجنوب في الشرق والغرب واستولوا على بلادهم باسم
الفتح والاستعمار، أو النفوذ والاحتلال، وإن أصحاب الأموال في أوربا لهم الذين
يتصرفون في سياستها كما يشاؤون، وبيدهم ميزان الحرب والسلم فهم الذين يزنون
ويرجحون.
ما كان لأهل الشمال أن يكونوا أقوى من أهل الجنوب استعدادًا للأعمال المالية،
إن زعامة المال فيهم ليست إلا بأيدي رجال منا، إنها كما يعلم الخبيرون في أيدي
اليهود، وهم منا (نحن الشرقيين) نسبًا وموطنًًا وإنما ظهرت براعتهم في أوربا
باستقرار العدل والحرية فيها، ويلي اليهود في الاستعداد سائر إخوانهم السوريين
والفلسطينين، وإن سورية ومصر لأختان شقيقتان، وقد تمازج أبناؤهما منذ القرن
الماضي فكانا كمزاج الماء بالراح، فاستفاد كل من الآخر ولولا أن قام بعض الكتاب
بما قام به من سياسة التحليل، وإضافة ذنوب الأفراد إلى الشعب والقبيل، لكان
الاتحاد أقوى والاستفادة منه أتم.
كل سوري بل كل عربي يجيء مصر ويقيم فيها يحسبها وطنه ويرى أهلها
قومه وإخوته، لسانهم لسانه، وعاداتهم عاداته، ومحاكمهم محاكمه، فإذا أثرى فيها
كان هو التابع لثروته، ولم تكن ثروته هي التابعة له إلى بلاده، تجذبه مصر إليها
فيكون عضوًا من أعضائها، أو مادة من مواد غذائها، ولا يجذب هو شيئًا من
ثروتها إلى بلاده لتكون غذاءً لها، فالمالي من السوريين أو العرب يمد حياة مصر
المادية بكده وكدحه، كما يمد العالم والأديب منهم حياتها المعنوية بلسانه وقلمه،
فينبغي للمصريين أن يحكموا روابط الاتحاد بينهم وبين من يتصل بهم من إخوانهم
المشاركين لهم في جميع مصالحهم ومنافعهم ويستعين بعضهم ببعض على ما تجب
العناية به من النهضة الاقتصادية.
إن حوادث الزمان قد أعدت النفوس لإحكام هذا الاتحاد وتوثيق روابطه
فاستعدت له، وقد ترجم عن هذا الاستعداد مدير (الجريدة) في السنة الماضية بمقالة
له اقترح فيها إخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، وإن وراء ذلك لقوة أخرى
لمصر هي غافلة عنها، وما رأيت أحدًا نبه إليها، وهي زعامة ارتقاء الأمة العربية
بأسرها، ولا سيما الولايات العثمانية منها، فقد دبت الحياة إلى هذه الولايات بفضل
الدستور، وتوجهت وجوه العقلاء إلى إحياء اللغة العربية بالقول والكتابة والعلوم
والفنون، وإن عاصمة دار السلطنة لهي التي تحفز همتهم إلى ذلك، وإن سورية
لمبسوطة الذراعين لعناق مصر وناشزة الشفتين لتقبيلها.
فالذي أقترحه على مصر الآن هو أن تبادر إلى تأليف جمعية أو لجنة اقتصادية
أعضاؤها من جميع الأحزاب والعناصر الخاضعة للقوانين المصرية ومن أصحاب
الجرائد لأجل القيام بما أشرنا إليه آنفًا، ويجب أن يكون أول عملها إحصاء ديوان
الأهالي، والنظر في الطرق القريبة لوفائها وتحويل مدها إلى جزر لا تفيض بعده
ثائبةً، ثم النظر في مسائل المضاربات والشركات وتلافي ضررها العظيم، ولا
أحاول الإحاطة ببيان كل ما يجب أن تعمله لمنع اغتيال الأجانب لثروة البلاد ولتنمية
هذه الثروة وتثميرها، بل لا يستطيع ذلك مثلي، فإنما أنا مذكر بالأمور الكلية التي
أرى البلاد قد استعدت لها أو يجب أن تستعد لها، وإن وراء ما ذكرته من المبادئ
غايات لا تحصى فوائدها.
إنني قد ذكرت إخواني المصريين بمثل هذا غير مرة، ذكرتهم به منذ ثلاث
عشرة سنة أول مقدمي إلى مصر في خطب خطبتها ومقالات كتبتها في المنار
والمؤيد، ثم أعيد التذكير {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: ٩- ١٠) .
إذا كانت السياسة قد شغلت قلوبهم وأفكارهم، وملكت عليهم ألسنتهم وأقلامهم،
فهم يعلمون أن هذا العمل لا يعارض سياستهم بل يدعمها ويعززها، فإذا لم يكن الآن
وسيلة عاجلة للحكم النيابي فربما يكون غدًا أرجى الوسائل وأقربها، فإن نالت البلاد
ما تطلبه من هذه الحكم بالوسائل التي يراها الأحزاب أقرب فليس بضارهم أن
يجمعوا بين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين حفظ ثروتهم من اغتيال الأجانب، وقد يضرهم
أن لا يكونوا جامعين لهما، فإنا نرى الحكومة العثمانية - وقد صارت دستورية -
مغلولة الأيدي دون ما تبتغي من الإصلاح لقلة المال، وقد كان دينها قبل الدستور
قريبًا من دين الحكومة المصرية، ولكن الأمة العثمانية على فقرها وتأخر عمرانها
ليست مدينة للأجانب كالأمة المصرية على سعة ثروتها وعمران بلادها.
لا بد لكل من يتصدى لأمر عظيم أن يرجو الفوز ويخاف الخذلان وأن يعد لكل
أمر عدته، وحجة المصري على وجوب حكمه لبلاده لا تزال ناهضة ما دامت رقبة
البلاد في يده لا حقوق فيها للأجانب، والآن قد صار زهاء خمسها ملكًا للأجانب أفلا
يخشى أن يطغى هذا السيل الآتي حتى يغمر نصف أطيان القطر أو أكثر من
النصف في زمن قريب إذا لم تقم في طريقه السدود التي تصد طغيانه؟ ألا يخشى
أن يتحد يومئذ أصحاب الأطيان من الأجانب وأصحاب الديون على الفلاح الوطني
كما هي عادتهم ويقولوا: إن هذه البلاد ليست لكم وحدكم أيها المصريون فيصح
قولكم: نحن أولى بحكمها وإنما هي لنا ولكم، ونحن أقدر على الحكم منكم، أو يجب
أن يكون مشتركًا بيننا وبينكم كما قال لورد كرومر. يومئذ لا تنفع الحجج ولا تفيد
المظاهرات ولا يغني الاغتصاب شيئًا إلا غناء قد يكون إثمه أكبر من نفعه.
قد رأيتم العبرة في العسرة المالية التي صدمت البلاد في هذه السنين الأخيرة ,
رأيتم كيف أصبح أصحاب الأراضي الواسعة أحير من الضب، وأعجز من أسير
الحرب، هذا ولم يكن أصحاب الأموال في أوربا متّحدين على تعمد حربكم حربًا
اقتصادية، وهل يعجز دهاة السياسة الإنكليزية أن يحملوهم على هذا الاتحاد في يوم
من الأيام.
لكل قطر طبيعة واستعداد والقوة الطبيعية أنفع من القوة المتكلفة، والأمة
المصرية مستعدة لمغالبة كل أمة من أمم الأرض، بقوتي الثروة والعلم، وليست
مستعدة لمقاومة دولة كبيرة بالحرب، ولا سيما في هذا العصر، فليكن اعتمادها
على ما هو قريب من استعدادها، وعناية الله كافلة لها نيل مرادها.