للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية
(مناجاة ودعاء)
اللهم الطف بهذه الأمة وبدولتها، واحفظها من فتن المفسدين في الأرض،
اللهم إنك تعلم أن المخلصين قد بذلوا جهد طاقتهم في النصح وإصلاح ذات البين
وسعوا إلى ذلك من كل طريق يرونه نافعًا، اللهم إنا لا نملك بعد حسن القول
والسعي إلا الاستغاثة بك ودعاءك فلا يغلبن مكرهم السيء ما يرجو من لطفك
وعنايتك، اللهم إنه لا يخفى عليك كيد الذين يفسدون في الأرض وينبزون
المصلحين بلقب الإفساد، ويلقون العداوة والبغضاء بين عبادك، ويعيبون بعملهم
السيئ من يعملون الصالحات بالتأليف بين القلوب وجمع الكلمة على الخير، اللهم
إنك تعلم أن من هؤلاء من يفوّق سهام كيده ومكره للأمة العربية التي شرفتها
وفضّلتها بخاتم أنبيائك ورسلك وخير كتبك المنزلة لهداية خلقك، وخاطبت سلفها
الصالح بقولك الحق: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: ١١٠) ولكل
من تبع ذلك السلف من الخيرية بقدر اتباعه لهم.
اللهم إنهم حسدوها أن جعلت كتابها عربيًّا مبينًا فهم يريدون ترجمته ليكون
عرضة لتحريف المحرفين، واختلاف المتفقين، اللهم إنك أنزلته لتجمعهم عليه،
وهم يحاولون ترجمته لكل شعب من المسلمين ليتفرقوا فيه، اللهم إنه حبلك المتين
الذي أمرتنا أن نعتصم به ولا نتفرق عنه بقولك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) وهو بيناتك التي قلت فيها: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: ١٠٥) اللهم إنهم يزعمون
أن رسالتك خاتم رسلك ما تمت إلى الآن، وأنها لا تتم إلا بترجمة القرآن، وأنت قلت
وقولك الحق: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: ٣) اللهم إنهم يزعمون أن دينك لم يقم بالحجة والبرهان، وأن نبيك
صلى الله عليه وسلم كان يكره الناس عليه بالسيف والسنان، وأنت قلت وقولك الحق:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩) .
* * *
(المقصد)
بينا في أول مقال كتبناه عن الانقلاب العثماني واستبدال الحكم النيابي بالحكم
الشخصي المطلق أنه يخشى في هذا الطور الجديد الذي دخل العثمانيون فيه من
عاقبة اختلافهم في الأجناس واللغات والأديان وجددنا في التأليف بينهم سعيًا جديدًا
غير ما كنا نسعى إليه سرًّا في جمعيتنا (الشورى العثمانية) المؤلفة من جميع
العناصر العثمانية. ظهرنا بالتأليف الجهري فخطبنا في كنيسة الأرمن في القاهرة
خطبة جعلها الإخلاص مؤثرة في نفوس حاضريها من العثمانيين المختلفين في
الأديان والمذاهب، حتى قال لنا فارس أفندي نمر محرر المقطم يومئذ: إن هذه
الخطبة وحدها تضاهي عملك في التأليف والوفاق مدة عشرة سنين، ثم سحنا في
البلاد السورية وخطبنا مرات عديدة في ذلك وتكلمنا وكتبنا كثيرًا ورأينا لعملنا وعمل
غيرنا تأثيرًا حسنًا أعان عليه في تلك البلاد ذكاء الأهالي وأخلاقهم الحسنة.
بينا نحن نرى الولايات السورية أهدأ الولايات العثمانية وأشدها اغتباطًا
بالحكومة الدستورية، ونرى من البلاد العربية كاليمن والحجاز وقد هدأ ما كان يقع
فيها من الكفاح والغارات فصارت أشد خضوعًا للدولة من ولاياتها الأوربية التي هي
مهد قوتها وعظمتها فالعاصمة نفسها مكمومة بديوان الحرب العرقي والدماء تخضب
ولايات الأرنؤوط، ومقدونيا تتمخض بما تتمخض به، بينما نحن على ذلك وإذا
بغراب ينعب من أول هذه السنة الهجرية بصوت عربي غربي غريب يُخشى شره
ولا يرجى خيره.
صاح الغرور يغر العرب ويغريهم بإخوانهم الترك، يقول: إن العرب هم
الحاكمون والترك هم الخادمون، ويطرئ الأمة العربية بالشعريات التي تحفز
النفوس إلى طلب ما لا يطلب ونيل ما لا ينال، ولم يفهم أحد من العرب معنى
كونهم هم الحاكمين والترك هم الخادمين إلا أن الكاتب يفهمهم أن الأمر يجب أن
يكون كذلك وأنه عليهم أن يطلبوا هذا الواجب؛ لأن الأمر في الواقع ليس كذلك،
ولكن هذا التغرير لم يؤثر في إغراء العرب لا لأن قائله متهم عندهم ببغضه إياهم
بل كان له دافع آخر من نفوسهم وهو اعتقادهم أن الترك إخوتهم في الدين وحكامهم
الذين رجعوا بإعلان الدستور إلى هدي الإسلام بمشاركتهم إياهم في الحكم فلا خادم
في العناصر ولا مخدوم، وما القول بذلك إلا من نزغات الشياطين ووساوس
المفسدين.
تهافت قول هذا الناعق وتناقض فهو تارة يطرئ العرب ويغلو في مدحهم،
وطورًا يعرض أو يصرح بالطعن في جميع الطاهرين منهم كأمير مكة المكرمة
والمبعوثين وطلاب المناصب والخدمة في الدولة والكتاب الخادمين للدولة من طريق
خدمة العرب؛ إذ يكتبون بالعربية، وتارةً يدعي أنه خادم الإسلام وناشر دعوته
ومبتغي ارتقائه بارتقاء العرب، ثم يدعو إلى ترجمة القرآن بلغة المسلمين
ليستغنوا عن القرآن المنزل من عند الله تعالى، ويزعم أن الإسلام قام بالإكراه كما
أشرنا إلى ذلك في المناجاة التمهيدية. وهذا أشد مطعن يسدده الأوربيون إلى قلب
الإسلام، ويذكر سيدنا عيسى (عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وسائر النبيين) بلقب
رجل يهودي، وبعد هذا كله يخص بطعنه الصريح من قضى زهرة عمره في خدمة
الإسلام والدفاع عنه.
هنالك ما هو شر من ذلك وهو السعي في مقاومة المشروع الأعظم لخدمة الإسلام
وهو إنشاء مدرسة دار العلم والإرشاد التي يتربى فيها الوعاظ والمرشدون ليقوموا بما
أوجبه الله تعالى من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العامة عقائد
الإسلام وآدابه وأحكامه مع التنبيه إلى مصالح الدنيا كترقية الزراعة وكل ما ينمي
ثروة الأمة ويعزز الدولة، فقد حدثني الثقة أن شيطان الفساد بعد أن مدح المشروع
قبل أن يتقرر عاد إلى التنفير منه بعد أن علم بأنه تم أو كاد فهو ينفر كل من يظن أنه
يساعده على هذه المقاومة بما يرى أنه يصيب موقع التأثير من وجدانه والإقناع من
فكره. يقول للملاحدة: إن تأسيس مدرسة إسلامية عربية في الآستانة يجعل للدين قوة
معنوية (جزويتية) تقضي على حريتكم وتذهب بجميع مقاصدكم.
ويقول للمتعصبين مثله للجنسية: إن هذه المدرسة تقوي اللغة العربية وتحييها
فتزاحم التركية في عرشها الأعلى. ويقول للمتدينين الجامدين: إن هذه المدرسة تحيي
علوم التفسير والحديث والفلسفة فتفسد عليكم التعليم المقرر في مذهب الإمام الأعظم.
وينفر بعضهم عنها بالطعن في شخص الداعي إلى تأسيسها، وكأنه لا يدري أننا
نطلب أن تؤسسها جمعية من الفضلاء والعلماء وأن يكون التعليم فيها بما يرضونه
ويختارونه، ويكون أيضًا بمراقبتهم الدائمة، فهل يضر المدرسة مع هذا أن يصدق
الكذوب ويكون الطعن في شخص الذي نبه إلى هذا العمل النافع صحيحًا؟
إذا كان خذلان مفسدي المسلمين لمصلحيهم قد وصل إلى هذه الغاية فهل
يستبعد بعد ذلك شيء مما ذكرنا عن غراب التفريق والتنكيث؟! ما ذكر مشروع
(العلم والإرشاد) لعالم ديني أو غير ديني، ولا عاقل عربي أو أعجمي، مسلم أو
غير مسلم، مستمسك بدينه أو متهاون فيه إلا وأعجب به وأعترف بفائدته ونفعه وبأنه
لا يحل محله سواه في فائدته ومنفعته حتى إن بعض الملحدين قال: إننا نحب أن يتعلم
الإسلام على وجهه؛ فإن المسلمين يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه
المتعصبون باسم الدين، كما يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه
المتعصبون باسم الدين، كما يكونون أبعد عن إيذاء المخالفين، وأما سائر الوساوس
فظاهرة البطلان.
بلغني خبر هذه السعاية فكان أول شيء سبق إلى ذهني عند سماعه فاتحة كلام
نشر في جريدة العروة الوثقى وهو على ما أتذكر:
(أسف يصهر الجسم وحسرة تذيب الأكباد على قبيل من أمة، أو شخص
منها ذي همة، يستخير الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يعود عليها بمنفعة، ثم
يعرض له في أثناء عمله من ينجم كقرن المعز ليفقأ عين العامل، ويعرقل عليه
عمله) ... إلخ.
وتلا هذه الذكرى في خاطري ما كنت سمعته من الأستاذ الإمام محرر تلك
الجريدة (العروة الوثقى) في هذا المعنى - رحمه الله تعالى -: (والله إنني ما
تشبثت بخدمة للإسلام أو المسلمين وقاومني فيه أحد من غير المسلمين، ما قاومني
في شيء من ذلك إنكليزي ولا قبطي ولا سوري مسيحي، وإنما لقيت مقاومة كثيرة من
المسلمين أنفسهم في خدمة الإسلام والمسلمين) ، نعود من هذا الاستطراد إلى أصل
الموضوع وهو إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية فنقول: إن ناعق الفتنة لم يكتف
بتغرير العرب وإغرائهم بإخوانهم الترك بل عمد إلى إلقاء الشقاق بين المسلمين
والنصارى منهم فنفخ روح العصبية الدينية في الفريقين فجرح كل واحد في دينه
جراحًا داميًا، وأغرى كلاًّ منهما بالآخر، ومزق نسيج الوحدة الجنسية بينهما بإيهامه
من يقرأ كلامه من النصارى أنه بتهكمه بدينهم يتكلم باسم الإسلام ويرضي المسلمين،
وبإنكاره أن يكون النصراني عربيًّا مع علمه أن النصرانية كانت في العرب قبل
البعثة المحمدية كاليهودية، ويرى القارئ في فتاوى هذا الجزء سؤالاً عن حديث:
(إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة) ؛ أي: يحفظه ويؤيده، وما رأيت ولا
رأى الراؤون أسخف من اختراع هذه العلة للتفريق؛ أي: جعل العربية
والنصرانية ضدين لا يجتمعان، وناهيك بسخافة ينقضها العيان.
اطلعنا على ما كتبه في ذلك موقظ الفتن فبادرنا إلى مقابلة الضد بضده،
ومقاومة الشر بالخير، والقذف بالحق على الباطل، فكتبنا مقالة في تذكير أهل
سورية وبيروت بما فيه خيرهم وخير دولتهم من الوفاق والوئام، ونشرناها هنا في
جريدة الحضارة وسيراها القراء في المنار السادس، ونرجو أن تكون دامغة لباطل
موقظ الفتن؛ لأنها حجة داحضة لشبهته التي اخترعها خياله، وناهضة في بيان أن
مسلمي العرب يتبرؤون من كل وسوسة تفرق بينهم وبين إخوتهم في الوطن
والجنس واللغة والمصلحة والتابعية العثمانية كما يتبرأ الخير من الشر، والنفع من
الضر، وأن موقظ الفتنة لم يترجم عن ضمائرهم ولا قال ما قال بالنيابة عنهم وهو
ليس منهم، وإن كان يحزننا أن وجد منهم من يترجم عنه ويكتب له ما يريد باسمه
واسم نفسه، وهو لم يقل ما قال أيضا باسم الإسلام وقد علموا أنه جنى على الإسلام
أكثر مما جنى على النصرانية، وينبغي أن يبرؤوا الحكومة الدستورية من الإقرار
والإعانة على هذا الفساد وإن شاع أنها تساعد هذا المفسد على عمله، فإن صح ما
يقال من مساعدتها إياه؛ فلا بد أن تكون المساعدة لزعمه أنه يعضد الإصلاح
ودعواه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ
هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١١-١٢) .
كل من اطلع على ما كتبه المفسدون يعرف من يقصد منهم بهذا الكلام؛ إذ لا
ينطبق على كثير من المفسدين ولو كان كل الفاتنين كمن ذكرنا لفسدت الأرض
وهلك الناس، ومن لم يطلع عليه ولا وصلت إليه وسوسته فخير له أن لا يعرفه،
على أنه إذا ظل سادرًا في إفساده، سادلاً أذيال غروره وعناده، فسننقل الكلام من
حيز الإبهام، ونأتي بالشواهد والنصوص من كلامه المؤيدة لما قلنا تحذيرًا من كل ما
يكتبه وما يقوله، ولعل ديوان الحرب العرفي يكفينا ذلك بمنعه من أمثال هذه الفتن
قبل أن يظهر أثرها الرديء، فإن الرجل وإن كان متهمًا بسوء النية عند جميع العرب
يخشى أن يؤثر كلامه في بعضهم أو يكون سببًا لسوء ظنهم بحكومتهم الدستورية
وفقها الله لكل إصلاح، وجعل أيامها الدائمة إن شاء الله تعالى أيام خير وفلاح.
* * *
(المسلمون في روسيا وسياسة الحكومة) [١]
أيها السادة: سأبحث لكم عن سياسة الحكومة مع المسلمين، لست أجد حاجة
للبحث عن سياسة الحكومة العامة بعد خطابات ماقلاقوف وغيره من المبعوثين،
وإني أعلم أن السكون والكلام سواء؛ لأن الحكومة والنظار لا يعيرون أسماعهم لنداء
الأمة ولا سيما للمسلمين، ولكني أراني مضطرًا إلي الكلام خشية أن يحمل سكوت
المسلمين على رضاهم بحالة الفوضى الضاربة أطنابها في كل مكان.
أيها السادة: إني غير ذاكر لكم الحوادث المؤلمة النازلة بالمسلمين ولا سيما
إقفال المدارس وطرد المعلمين وأئمة الدين واحدة واحدة ولكني سأبحث عن سلوك
الحكومة هذه السبيل.
أيها السادة: إن المسلمين متضررون وواقعون تحت حيف الحالة الحاضرة
والاختلال في روسية، وإن مسالمتهم وضعفهم وحلمهم كل ذلك جعلهم عرضة
لمصائب ورزايا أعظم وأكبر (هرج ومرج في المجلس) .
الرئيس: أرجو التزام السكوت والسكون.
مقصودوف: إن مصيبة المسلمين بالمبشرين هي أعظم ما ينغص حياتهم، وقد
تتولى الدهشة رفقاءنا أعضاء المجلس لهذه الشكوى ويقولون: كيف يستاؤون من
بضع مئات من الرهبان والقسوس وهم لا يرغمونكم بالقوة على قبول دعوتهم
وانتحال دينهم بل ينشرونها بالوعظ والإرشاد ولكن لو اقتصر الأمر على ذلك لما
تضجرنا ولا تذمرنا ولكننا نتضجر ونتأفف لا لدعوة بضع مئين من الرهبان
والقسوس، ولكن لأنهم يرمون إلى غاية سياسية وراء ذلك، فهم لا يكتفون بالدعوة
الدينية بل يبتغون من وراء ذلك صبغنا بالجنسية الروسية، فنحن لا نشكو من وعظهم
وإرشادهم ولكن من مآرب الحكومة باتخاذهم آلة لها لتنفيذ أغراضها منا. لا يخفى
عليكم جميعًا أن الحكومة في سياستها للمسلمين منذ نحو عشرين أو ثلاثين سنة كانت
على خطة (بوبيدانوسجف) وكما كان هذا واعظًا كان إيلمنسكي مبشرًا، فعملاً بأفكار
هؤلاء أقفلت مدارسنا وضيق على ظهور صحافتنا، ثم أملنا عقب إعلان المساواة
الدينية والمدنية في القرار العالي بأن ننجو من وطأة الرهبان وإغرائهم الحكومة
بنا، ولكن خاب منا هذا الأمل؛ لأن الحكومة لا تزال تصغي وتعمل بما يمليه عليها
الرهبان. وما تريد أن تعلمه من أحوال المسلمين ترجع فيه إلى الرهبان. ومما
يجدر بالتأمل في مثل هذه الأمور التقرير الذي رفعه المسيو (ألكسي) ناظر
مدرسة الرهبان العليا في قزان إلى نظارة الخارجية ولو وقف الأمر عند هذا الحد
لأضربت عن ذكره ولكن دائرة الأديان الأجنبية من نظارة الداخلية تهتم به اهتمامًا
عظيمًا. ومما يستدعي النظر أنه قد ألفت جمعية غايتها الوقوف على حركة
المسلمين والحيلولة بينهم وبين آمالهم الملية.
وإليكم فكر الناظر (ألكسي) وملاحظة (أن مسلمي روسية منتهجون سبيل
الاتحاد الإسلامي وهم يؤسسون المدارس والجرائد والمجلات ويقبلون على التعليم
وبالاختصار فهم دائبون وراء استنارة أفكارهم وترقية مداركهم وغاية ذلك الاتحاد
الإسلامي) ولا أصل على ما أعلم لما يذكره ذلك الراهب من انتشار فكرة الجامعة
الإسلامية بل إن الأفكار والسعي وراء الترقي لا علاقة له بذلك كما لا يخفى. ثم إن
الإسلام في نظر المسيو (ألكسي) عبارة عن الجهاد وسفك الدماء. ويزعم أن النابتة
الحديثة تستحسن هذا الأمر. فاعلموا أيها السادة أن حكمة الإسلام وسيرته تنقضان
هذا الزعم، وإنما غاية الإسلام الترقي والمدنية، والتأريخ شاهد على ما قامت به
بغداد والأندلس من رفع منار العلم. وما يبتغيه المسلمون ليس الاتحاد الاسلامي
وإنما الترقي والمدنية وإصلاح حالتهم الاجتماعية، فإن كان هذا مما لا يرضى عنه
الراهب فذاك أمر آخر.
ثم إذا كان المسلمون ينشئون الجمعيات الخيرية فأي دخل لهذا بالجامعة
الإسلامية؟ إن كل من يظن أن لهذا الراهب الذي قدم تقريره لنظارة الداخلية وقوفًا
على أحوالنا فهو مخطئ؛ لأنه يجهل لغتنا وكل ما كتبه عنا مترجم مما كتب
بالفرنسية. ونظارة الداخلية تبني سياستها نحونا على أمثال تلك الكتابات وهي آخذة
في وضع خطة جديدة نحو المسلمين وبها تريد تفريق الدين عن القومية فهي لا
تهاجم دينهم الإسلامي بل هيئتهم القومية.
أيها السادة: إن الدين والقومية واحد في المسلمين ولا يمكن تفريق أحدهما
عن الآخر، ولم يفترقا منذ عصور. وفي موقفي هذا قد أعلنا وأعلن رفقاؤنا مرارًا
وتكرارًا أن مسلمي روسية إنما هم شعب مسلم؛ أي: إنهم ليسوا روسيين مسلمين فهم
أمة يجدر بها أن تعيش كأمة. وقد قلت ذلك ولا أزال أعيده حتى يلجم لساني ويكم
فمي.
وسنحافظ على قوميتنا محافظة لا نخرج بها عن دائرة الإخلاص لتابعيتنا
فسنحافظ على لغتنا القومية وسندأب على ترقية شأنها ورفع آدابها شأن كل الأمم
وإني أصرح للحكومة بأن كل ما يضعوه في سبيلنا من العقبات والموانع وما يعدونه
من التدابير سيكون عقيمًا؛ لأننا نعد المعارضة لقوميتنا تصدٍ لديننا؛ وعلى ذلك فلا
الحكومة ولا دائرة المذاهب الأجنبية تقدر أن تفصل ديننا عن قوميتنا، وأن تُضعف
أحدهما وتُخمد الثاني، فنحن سنعيش أولاً كمسلمين، وثانيًا كشعب بمقومات خاصة
في روسية، وإني واثق أننا سنقاوم التدابير الجديدة التي تعدها دائرة المذاهب الأجنبية
ضدنا بنفس الروح التي أظهرناها في مقاومة (إيوان غروزني) الذي حاول
تنصيرنا بالسيف.
أيها السادة: إنني أختم كلامي بأن أعلن بأننا نحن مسلمي روسية سنعيش
كشعب حر في روسية الحرة (تصفيق في الجناح الأيسر) .
* * *
(تعصب أوربا الديني)
إلزام النمسا والمجر لمسلمي بلادهم باتباعهم في أحكام الزواج والطلاق.
نشرنا في المجلد الماضي (ص٤٣٨و٤٩٩و٨٥٦) وفي غيره نبذًا ومقالات
بينا فيها أن الغلو في التعصب الديني منبعه أوربا. ونحن في كل آن نرى الآيات
والشواهد على ذلك من غير تتبع ولا استقراء، من ذلك ما رأيناه في هذه الأيام في
جريدة (صداي ملت) التي يصدرها بعض روم الآستانة باللغة العثمانية هنا
(الآستانة) .
وماذا رأينا فيها؟ رأينا عجبًا! رأينا أن الحكومة قررت أن دين المسلمين لا
يتفق مع مدنيتهم في أحكام الزواج والطلاق؛ لأنه يبيح تعدد الزوجات فيجب إلزام
المسلمين وإكراههم على اتباع محاكم الدولة في ذلك وعدم السماح لهم بجعل ذلك على
حسب شريعتهم والرجوع إلى محاكمهم الشرعية التي كانوا يحكمون فيها بما يتعلق
بالأمور الشخصية، ولا يبعد أن يمنعوهم بعد زمن قريب أو بعيد عن الحج؛ لأن فيه
مشقة أو تعرضًا للمرض وهم لشدة حبهم للمسلمين يحولون بينهم وبين ما يؤذيهم،
ومن الصوم؛ لأنه مانع من حرية التلذذ الذي هو منتهى الحظ من هذه المدنية، ومن
الصلاة؛ لأن فيها اجتماع على غير ما تحب الدولة العادلة.
لو فعلت هذه الفعلة التي فعلتها النمسا الحكومة العثمانية أو حكومة مراكش أو
الأفغان لقامت قيامة أوربا وأمريكا والعالم المسيحي كله حتى التابعين للحكومة
الإسلامية التي تفعل ذلك وتجاوبت أصداؤهم بالصياح والشكوى من تعصب
المسلمين والتحريض على إبادتهم من الأرض، فاعتبروا أيها المنصفون.
* * *
(اعتصاب الزيتونيين)
اعتصب طلاب جامع الزيتونة بتونس عن تلقي الدروس طالبين تغيير الحال
بما ينجح الأعمال وينفع في الحاضر والمآل، وبعد أن كادت تخذلهم السياسة نصرهم
الاتحاد فأجيبوا إلى معظم ما طلبوا، وقد كنا كتبنا مقالة نرحب فيها بهذه النهضة فلم
يتسع لها هذا الجزء.
* * *
(الإنكليز في بلاد العرب)
كتبت التيمس مقالة فيها تلويح ينبئ عن تصريح بما توجهت إليه عزائم
الإنكليز من العمل في بلاد العرب فعسى أن تستيقظ الدولة إلى هذا الصوت لا إلى
صوت ذلك الموسوس المفرّق. ولعلنا ننقل المقالة في المنار السادس ونقفّي عليها بما
يعنّ لنا من النصيحة.