للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


خديجة أم المؤمنين
الفصل الحادي والعشرون [١]
(الدليل النقلي)
اقتداء الناس بعضهم ببعض أمر قد ألفته طباعهم عظيم الألفة. وربما كان من
سنخ غرائزهم، ومن مادة تصورهم؛ إذ رأيناه عريقًا في مرافقة الأجيال، والتنقل
في الأنسال، وموغلاً في الرسوخ والاستقرار، والدوام والاستمرار، لا يزحزحهم
شيء عنه، ولا يفصل بينهم وبينه فاصل.
هذا الاقتداء نفع البشر كثيرًا، وأضر بهم كثيرًا، فأما نفعه إياهم؛ فلأن الأكبر
سنًّا، والأكثر فهمًا، والأشد قوة، والأغزر تجربة، يجعلون المقتدين بهم يبتدئون
حيث انتهوا هم، ويمهدون لهم ما لا يستطيعون أن يمهدوا لأنفسهم، ولو بقي الطفل
والغبي والضعيف والغر خالين من طبيعة الاقتداء لراحت أكثر التجارب
والاختراعات والتفكيرات والأعمال العظيمة سدى، ولولا الاقتداء لما تعددت
الأعمال والصناعات، ولا كثرت البدائع، ولا ارتقى التمدن، ولا نمي العمران،
ولا سما النظام , وأما إضراره بهم؛ فلأنه ساق أحيانًا إلى الاقتداء بالجاهلين
والمفسدين، ووقف أحيانًا بأقوام مع ما سن لهم أسلافهم وقفة الصخور، وجعلهم
يحرمون مما يأتي على أيدي الحكماء من الهدى متى خالف ما عرفوا من قبل، وإن
أصبح ما عرفوا منكرًا لدى أهل زمانهم أجمعين.
البحث عن نفعه وأضراره، ووضع الموازين للدرجات فيه، ولا قرابة بينه
وبين موضوعنا، ولكن اتخاذ الناس بعض كلام الآخرين من جملة الأدلة هو الذي
حملنا أن نقدم هذه الكلمات في وصف عراقته، وبيان أن بعضه نافع كما وقع للسيدة
(خديجة) .
كان للسيدة (خديجة) ابن عم قد شبع من الأعوام، وارتوى من حديث الأنام
وقد تعلم العبرانية وقرأ بها الأسفار، وعرف بها الأديان ورضي بدين ابن مريم -
عليه السلام - دينًا وهو (ورقة بن نوفل) .
هذا الشيخ الجليل كان جديرًا أن يكون إمامًا لخديجة تتخذ قوله حجة، وهديه
معتصمًا؛ لأن هناك وجوهًا كثيرة تدفع عن نفسها الريب بأن هذا الرجل أعلم منها
بهذه الأمور، وأنه لا يصدر عنه إلا النصح لها، فهو بالدرجة الأولى ابن عمها، بل
بحسب السن مع القرابة هو في مقام أبيها، فلو أن ورقة غشاش مخادع لما كان منه
الغش والخداع لبنت عمه فكيف وهو مستمسك إذ ذاك بدين ذلك الإنسان المملوء قدسًا
الذي كان أكبر همه حث الناس على التحاب ونفع بعضهم لبعض، ونهيهم عن
التشاحن وإيذاء بعضهم لبعض، وهو مع قرابته وسمو التعاليم التي تزكت بها نفسه
كان في نظر خديجة سامي الهمة جدًّا.
ذلك ما حملها على الإسراع إليه لتقص عليه الخبر وترجع في هذا الأمر إلى
علمه، وأخذت معها بعلها ليقص هو نفسه على سمعه ما رأى.
كان ورقة بحسب ما قرأ وعرف مصدقًا بأن ليس هذا الهيكل البشري إلا
مظهرًا لشيء يحمل فيه هذه المدة القصيرة بإذن الله وهو الروح، وأن للروح
ظهورات غريبة في بعض الهياكل، وأنه توجد أرواح من شأنها الاجتنان عن
الحسن والعيان تتمكن من الإنسان من حيث لا يشعر، صنف منها يحب جذبه إلى
سبل التكمل، وصنف منها يحب بقاءه في حضيض البهيمية، يقال في العربية
للأول: ملائكة. وللثاني: شياطين.
كان مصدقًا بكل هذا ومؤمنًا أيضًا بأن بعض الأوراح الذين هم الملائكة
يختصهم الفاطر المصور بمزيد خصائص ويجعلهم نواميس؛ أي: وسطاء
الوحي الأعلى للذين يريد سبحانه أن تكون ظهورات الروح فيهم ساميةً جدًّا.
كان قد قرأ الأنبياء وعرف مجيء الأرواح إليهم وعرف أنه يقوم أنبياء كذبة
وأنبياء صادقون، وأن لهؤلاء وهؤلاء علامات، فنحن لما سمعنا ذهاب خديجة إلى
هذا العالم المسيحي خطر ببالنا أنه لا يكون سهلاً تصديقه بقدسية الروح الذي أتى
محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى: (أيها
الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؛ لأن أنبياء كذبة
كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع
المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله) ، ولكن الذي خطر ببالنا أن وقوعه
صعب قد رأيناه أمرًا واقعًا، فإن ورقة بعد أن سأل بعل ابنة عمه بضع مسائل قال
له: هذا هو ناموس موسى؛ أي: الروح الذي جاءه. والظاهر أنه لم يقل هذا القول
ولم يصدق هذا التصديق إلا بعد أن عمل الامتحان الذي أوصى به يوحنا الرسول
وظهرت له العلائم الدالة على أن هذا الروح من الله على حسب ما تعلم من الكتب.
نحن لا ندعي العلم بتفسير هذه الكلمات التي ليوحنا ولا طريقة الامتحان التي
أشار بها ولكن نظن أن ذلك العالم القريب من ذلك العهد بالنسبة إلى زماننا هذا كان
لا يجهل هذا التفسير - وكذلك لا ندعي العلم بتفسير قول موسى لبني إسرائيل: (إن
نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) ولا تفسير الإصحاح الثاني والأربعين
من (أشعياء) ولكن يظهر لنا أن ورقة قد فهم من قول موسى هذا ومن أشعياء أنه
سيكون نبي من العرب يكون مقامه حوالي سلع ذلك الجبل المعروف في البلاد
العربية.
وهذا نص ما في أشعيا:
(١ هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت
روحي عليه فيخرج الحق للأمم ٢ لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته
٣ قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق
٤ لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته ٥ هكذا
يقول الله الرب خالق السموات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب
عليها نسمة، والساكنين فيها روحًا ٦ أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك،
فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم ٧ لتنفتح عيون العُمي، لتخرج من
الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة ٨ أنا الرب هذا اسمي
ومجدي، لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات ٩ هو ذا الأوليات قد أتت،
والحديثات أنا مخبر بها، قبل أن تنبت أعلمكم بها ١٠ غنوا للرب أغنية جديدة،
تسبيحة من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها ١١
لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من
رؤوس الجبال ليهتفوا ١٢ ليعطوا للرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر) .
قد قلت وأعيد قولي: إنني لا أدعي العلم بتفسير هذه الكتب ولكني لما رأيت
ورقة قال لزوج بنت عمه: هذا هو ناموس موسى. بحثت عن منشأ قوله هذا فوجدت
فيما ذكرت آنفًا من قول موسى وأشعيا ما يشبه أن يكون مأخذًا، فمن أراد أن يقول
لي: لا يفهم من قول موسى وأشعيا ما فهمت. لا تجدني آسفًا على عدم إصابة ظني
بخصوص ما حمل ورقة بن نوفل على قوله هذا، فإنه يجوز أن يكون قد عرف ذلك
بغير ما ظننته، ولست في هذا المقام بذي حجاج ومناظرة. إن أنا ههنا إلا كاتب
سيرة أجتهد باستقصاء فروع حوادثها وتفسيرها على قدر فهمي ومبلغ ما وصلت إليه
من النقول.
وههنا مسألة جليلة لا نستطيع مفارقة هذا المقام من غير أن نوضحها ونسهل
فهمها على القارئ وهو أن الأرواح قد تعلم بعض الأشياء قبل وقوعها إذا كشف الله
تعالى لها عنها بواسطة النواميس أو واسطة غيرها. هذا المعنى كان بنو إسرائيل
يقولون به، كما كان كثير من الأمم الأخرى تذهب إليه، وقد جاءت كتبهم حاملة
سلسلة من أخبار هؤلاء البشر الذين كان الروح الإلهي ينزل عليهم فينبئهم بما
سيكون، وتبتدئ هذه السلسلة المهمة في كتبهم بحديث نوح الذي أُنْبِئ فأنبأ بأنه سيكون
طوفان ويموت كل من على وجه الأرض، وهُدي إلى صنع الفلك فصار
الطوفان ونجا هو وأولاده ونساؤهم وتناسلوا بعد الطوفان، ثم تفرقوا، ثم اصطفى الله
من هذه الأنسال إبراهيم [٢] وكان ينزل عليه روحًا من عنده، وشاخ إبراهيم وزوجته
سارة من غير أن يصير لهما نسل، ولكن حبلت منه أخيرًا هاجر جارية زوجته،
ونزل عليها الروح وقال لها: سيكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. فولدت له إسماعيل،
ثم أنبئ أن زوجته سارة ستحبل وتلد بعد هذه الشيخوخة وطول هذا العقم فولدت له
إسحاق، وأنبئ أن نسل إسحاق سيكون كثيرًا أيضًا، وغضبت سارة على هاجر
فطردتها وغلامها، فنزل على هاجر الروح وقال لها: لا تخافي لأن الله قد سمع
صوت الغلام وسيجعله أمة عظيمة. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية برية
فاران التي قال عنها موسى: إن الله سبحانه تلألأ فيها.
وتأخذ كتب بني إسرائيل بعد ذلك بسرد أخبار مَن تناسل مِن إسحاق بن
إبراهيم، وأما أخبار مَن تناسل مِن أخيه إسماعيل فلا تذكرها، فابن إسحاق يعقوب
وهو إسرائيل كان الروح ينزل عليه، ويوسف بن يعقوب كان الروح يجيء إليه.
ويوسف هو سبب مجيء بيت يعقوب إلى مصر، وهناك تناسلوا وكثروا حتى
ولد فيهم موسى صاحب الشريعة الشهيرة، هذا أيضًا كان يُنَبَّأ وينزل عليه الروح
وهذا قال لقومه: (إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) .
وأسس موسى لبني إسرائيل مُلكًا على الوحي الروحي، وخلفه بعد موته تلميذه
يوشع بن نون، وبعد موت يوشع بدأ الفساد والضعف يحل بهم ثم انتشلهم داود
وسليمان، وتعاظم الملك في أيام سليمان، ثم طرأت عليه بعده الطوارئ حتى زال،
ولم يخل زمان من أزمنة ملوكهم وبعدها من نبي أو عدة أنبياء، حتى نزل الروح
أخيرًا على مريم أم عيسى وبَشَّرها بأنه يكون لها ولد من غير أن يمسها بشر، وقد
ولدت مريم عيسى على هذه الصورة التي بشرت بها وصار نبيًّا أيضًا، ولكن قومه
كذبوه، ولم يصدقه إلا قليل، وقد كذبوا من قبله أكثر الأنبياء الذين كانوا ينذرونهم
بزوال الملك إذا ظلوا على الفساد.
أنا لا أعرف لماذا يكذب بعض الناس بأشياء هم مصدقون بمثلها، أو يصدقون
بأشياء هم مكذبون بمثلها، هذا أمر وقع كثيرا ويقع دائمًا أمام أعيننا وأسماعنا فهل
التصديق والتكذيب بحسب وزن الأشخاص؟ وما هو الميزان في الأشخاص؟ أم
بحسب وزن العقل؟ وما هو سبيل العقل في التصديق والتكذيب بمثل هذا؟
أنا أرى أن من آمن بسعة قدرة الله، وبعجائب صنع الله، ونفذت
بصيرته لرؤية آثار روح الله، وآمن بمجيء ناموس الله لعبده موسى لا ينبغي له أن
ينكر قدرة الله في إخراج عيسى ابن مريم بغير واسطة بعل، ولا يجدر به أن
يكذب نزول روح الله عليه كما نزل على أخيه موسى، ومن آمن بعجائب موسى
وعيسى ابني إسحاق وبنزول روح الله عليهما لا ينبغي له أن يستبعد نزول هذا الروح
على أخ لهما من بني إسماعيل.
هذا أقوله للذين صدقوا بما هنالك من العجائب والغرائب الموسوية والعيسوية،
وأما الذين لا يصدقون بهذي وتلك، ولا يُحَكِّمون إلا الحس والعقل فهؤلاء أمضي بهم
إلى التجارب والمشاهدات، وأنا واثق أنَّا لا نعدم في خزائنها كثيرًا مما يؤيد أن بعض
البشر يخبرون عن بعض الحوادث قبل وقوعها.
فإن قال لي هؤلاء: نعم قد يوجد أناس على هذا النحو ولكن ليس هذا سبب
إخبار من روح كما تقولون: قلت لهم: إذا توافقنا في ثبوت الأصل فلا ضير علينا
بعد ذلك بالاختلاف في الأسباب وأسمائها.
وإن قالوا لي: ما الفرق بين هؤلاء الذين قد نراهم في أزمنتنا هذه من هذا القبيل
وبين من تحدثوننا عنهم؟ قلت له: إن هذا الفرق ظاهر؛ لأن الاختصاص كله من الله
فهو يعطي إنسانًا معرفة بعض الوقائع الآتية ويجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد
عظيم لا تحيط به العبارة، ويعطي إنسانًا آخر مثالاً صغيرًا من هذه المعرفة من غير
أن يجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد عظيم، فالأول يقول: أنا نبي. أو: أنا
رسول. ويظهر الله صدقه فيما يقول، والثاني لا يستطيع أن يقول هذا، وإن قاله لا
يظهر قوله حقًّا، فهل ينكر هذا الفرق الكبير ذو بصيرة لا يعدوها الإخلاص إلى
الله والأدب مع مجالي أمره، ومظاهر سره؟!
لقد كان ورقة على ما ظهر لنا شديد الإخلاص متوغلاً في علم الروح ومعرفة
النواميس الإلهية وأخبارها، وكان على نور فِراسة من ربه وسرعة استطلاع، فلما
سمع هذا النبأ الجديد تفرس بصاحبه وتذكر ما نقل عن الأنبياء وأصحاب النواميس
من قبل، وتذكر قول موسى لقومه بني إسحاق: (سيقيم الله نبيًّا مثلي من إخوتكم)
وما إخوتهم إلا بنو إسماعيل فقال له: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى.
تم تذكر إيذاء الناس للأنبياء مع قول أشعيا: (لترفع البرية صوتها، الديار
التي سكنها قيدار) وقيدار هو ابن إسماعيل، وقوله: (لتترنم سكان سالع) وسالع
أو سلع جبل على مقربة من (يثرب) من أشهر جبال العربية فلاح له أن قريشًا
ستضطر هذا النبي إلى مفارقة بلده (مكة) فقال له: (ليتني فيها جذعًا - أي:
شابًّا- إذ يخرجك قومك) .
وبعد برهة قليلة توفي ورقة، أما (خديجة) فاستمسكت بكلام هذا الرجل أيما
استمساك، وأضافت علومه إلى ما قد عرفته هي بدلالة عقلها وتجربتها فأصبح إيمانها
بنبوة بعلها ورسالته إلى الناس أثبت من الرواسي.
((يتبع بمقال تالٍ))