للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذكرى
للسوريين عامة وأهل بيروت خاصة [*]

البلاد السورية من أرقى البلاد العثمانية استعدادًا في العلم والعمران، وإن
بيروت أرقى هذه البلاد بل هي من أثمن الدرر في تاج آل عثمان.
قد زادت قيمة بيروت في نفوسنا بعد الدستور أضعافًا مضاعفة، وصرنا نباهي
بها ونفاخر بعد أن كنا نشكو من تلك المَعَرّة الفاضحة: معرة العصبية الجاهلية باسم
الدين التي كانت حجابًا دون محاسنها الكثيرة، ومزاياها الجمة، فقد كانت تتلفع
بذلك الثوب المنكر وتتدجج بسلاح البغي والعدوان، فكلما سمعت هيعة جردت
سلاحها هذا، وقالت به هكذا وهكذا، تتوهم أنها تجاهد في سبيل الله، وتفتك بعدو لها
ولله، وإنما كانت تجاهد في غير عدو، بل كانت تحارب نفسها وهي لا تدري،
فيطعن بعض أبنائها صدور الأبناء الآخرين وهو لا يرى ولا يبصر، حتى إذا ما لاح
صبح الدستور ألقى الإخوة السلاح من أيديهم وطفق بعضهم يعانق الآخر ويقبله وهو
يبكي على ما فرط في ذلك الليل البهيم، ويبسم لما يرجو في هذا النهار المنير.
كان بعض عقلائنا يقولون: إن علة تلك الأحقاد والإحن هي الحكومة
الاستبدادية التي لا تجد حفاظًا لسلطتها إلا التفريق بين رعيتها، ولا سيما أهل الذكاء
والعلم منهم. وكان بعضهم يقول: إن علة ذلك التدابر والتباغض هي دسائس
أصحاب المطامع من الأوربيين. وهناك فريق ثالث يجمع بين القولين، ويثبت كلتا
العلتين، ولا خير لبيروت ولا لما يجاورها من البلاد في فوز هاتين السياستين،
وإنما خيرها في اتحاد أبنائها على ترقيتها وعمرانها ورفعة شأنها، وكل من السياستين
عقبة كؤود في طريق سعادتها هذه.
فرحنا بعد إعلان الدستور من خلع بيروت ذلك الثوب الذي كانت تتلفع به
أحيانًا في تلك الظلمات ونبذ ذلك السلاح الخاطئ الذي كانت تحزبه مفاصل
أعضائها فتبيين بعضها من بعض، وأشبعناها ثناء وتقريظًا، وأرويناها حمدًا
وشكرًا، راجين أن يكون الشكر مدعاة المزيد، وذلك أثر الشكر الطبيعي في نفوس
أهل النجدة وعلو الهمة كأهل بيروت.
تلك المحمدة التي عكس لنا البريد صوتها وأرانا البرق نورها ونحن في مصر
قد هاجت شوقنا لرؤية بلادنا ترفل في حللها الزاهية، في نور شمس الدستور
الضاحية، بعد أن تركناها منذ سنين دخلت في جمع الكثرة وهي تتعثر في ذلك
الثوب الخلق، في ذلك الطريق الذي في مثله يقول الراجز:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... مشتبه الأعلام لمَّاع الخفق
تسير على غير الهدى، إلى حيث تقع في مهاوي الردى، في تلك الحنادس،
بما يخفق من بروق الوساوس، التي تغريها بإعانة المستبد فيها على استمرار
استعبادها، أو تمكين الطامع فيها من ازدرادها (لا سمح الله) .
زرت بيروت وغيرها من البلاد التي أعدها كلها وطني الخاص فكنت على
تفضيلي بيروت على سائر أخواتها من المدن بنات سورية أرى أن الوفاق السلبي
وحده لا يثمر ما نحب من عمران البلاد وارتقائها. وأعني بالوفاق السلبي ترك ما كان
من التنازع والتخاصم، والتشاتم والتلاحم، وإنما تعمر البلاد وتسعد بالوفاق
الإيجابي، وهو إنما يكون بالاختلاط وكثرة التزاور والاشتراك في الأعمال المالية،
والجمعيات العلمية والأدبية.
بذلت لهم نصحي وهم قومي الذين أفخر بهم إذا صلحوا وأصلحوا، وتصيبني
معرتهم إذا أساؤوا وأفسدوا، راجيًا أن يكون ذلك الوفاق الإيجابي بالتدريج وأنا لا
أزال مع سائر العقلاء من إخوانهم البعيدين عنهم في مصر والآستانة وأمريكا وأوربا
ننتظر أن يكونوا هم السابقين إلى رفع قواعد بيت الاتحاد على أساس الدستور
ليكونوا في مقدمة زعماء الارتقاء في تلك الديار في هذا الطور الجديد، ولتكون
مدينتهم ينبوع مدنية تلك الأوطان في ظل الدولة العلية أيدها الله تعالى.
بينا نحن على ذلك الانتظار إذا بجرائد بيروت نفسها تعيد على أسماعنا في هذه
الأيام شيئًا من حوداث ليالي الاستبداد الحالكة: بعضها صريح، وبعضها جمجمة
وتلويح، وقد جاء العاصمة أناس منها فإذا هم يتشاءمون ويتطيرون ويرون أن
بعض علل التفرق السابق أو كلها قد عادت جذعة أو كادت.. . فالله الله يا بيروت
في نفسك، وفي أبناء جنسك، فإن أعداء قومك وأعداء دولتك يتربصون بك الدوائر
ويكيدون لك المكايد.
اسمعي يا بيروت وعي فإذا سمعت سمعت سورية كلها وإذا وعيت وعت،
وإذا لم تلقي السمع، ولم تفرقي بين الضر والنفع، فعليك إثمك وإثم سورية كلها.
إنك ترين في بعض صحف المفسدين الذين يلبسون لك ثياب الناصحين كلامًا
في التفرقة بين المسلمين والنصارى فإياك أن تغتري بهم، أو تنخدعي لهم، نعم إن
الكريم ينخدع ولكن في الخير، ولا عذر له في الانخداع لدعاة الشر، إنهم يقولون: لا
حق للمسيحي من السوريين أن يتكلم في شؤون المسلمين. ونحن مسلمي السوريين
وعلمائهم وكتابهم نقول: إن لهم أن يتكلموا في شؤوننا كلما رأوا الفائدة للبلاد في
كلامهم معنا فيها، ولا نسيء الظن فيهم؛ لأن المصلحة مشتركة بيننا وبينهم.
إنني لا أسيء الظن بكم أيها الإخوة الأذكياء الفضلاء، ولا ببلدكم وإن لم تخل
كغيرها من الجهلاء وإنما المحب مولع بسوء الظن في كل أمر يتعلق بمحبوبه، فهذا
ما يدعوني إلى هذا التنبيه.
إن رجائي في عقلاء الطائفتين وفضلائهم لعظيم، وإن مما زاد هذا الرجاء قوة
ورسوخًا تأسيسهم لنقابة الصحافة في بيروت، وعسى أن يشترك معهم جميع أصحاب
الصحف اللبنانية. والمنتظر من هؤلاء الكتاب النبهاء - وقد اجتمعت كلمتهم - أن
يجمعوا كلمة قومهم على الوفاق ويجتثوا شجرة الخلاف الخبيثة من أصولها،
ويردوا بالإجماع على كل من ينبز بلدهم بلقب التعصب الذميم وإن كان من آبائهم
أو إخوانهم المهاجرين أو المقيمين، فإنني أرى بعض جرائدنا في أمريكا لا تزال
تركب متن هذا الخطأ: خطأ الاتهام بالتعصب الديني وهو هو الذي يثير كوامنه،
ويحرك سواكنه، ويقوي ضعيفه، ويحيي ميته، فما لهم لا يذكرون.
اذكروا أيها الأذكياء الألباء ما يجمع، وتناسوا ما يفرق، إلى أن تنسوه ببركة
التعاون والإخلاص، اذكروا أن لكم جامعة كبيرة وهي اللسان، وجامعة أخرى وهي
الديار، وكل منهما جامعة شريفة لها ذكر مجيد في التأريخ، وجامعة أخرى
وهي العثمانية التي تصل حبلكم بحبل كثير من إخوانكم الشرقيين، وما أعز من
يكثر إخوانه ويتعدد أعوانه (وإنما العزة للكاثر) . ومن أكبر خطأ بعض الجرائد في
المهاجر التنفير من هذه الحكومة التي يرجى لكم في ظلها ما لا يرجى لغيركم إن أنتم
أتفقتم على تعزيزها بترقية بلادكم وجمع كلمتكم، ولا حجة لتك الجرائد إلا سوء
سيرة رجال الدولة في أدوار الاستبداد البائدة وقياس الآتي على الماضي، وهل يقاس
الضد على ضده؟! كلا إن السوريين لم يذوقوا من بأس الاستبداد ما ذاق الأرمن
ونرى هؤلاء يسارعون اليوم إلى اقتطاف ثمار الدستور ويشاركون في الواجبات
ليشاركوا في الحقوق.
نراهم يعلمون ولدانهم في المدارس النظام العسكري كل يوم ترغيبًا لهم في هذه
الخدمة الجلية، وما نصارى السوريين دون الأرمن ذكاءً وعلمًا بل هم في هذا العنصر
العربي ركن عظيم، تبًّا لمنكريه بأقوالهم، ومحاولي تقويضه بإفسادهم، فتذكروا
وتدبروا، ولا تنازعوا ولا تدابروا، واتحدوا وتعاونوا على ترقية البلاد بالعلم
والثروة؛ لتكونوا كما يؤهلكم استعدادكم الركن الأعز الأكرم في هذه الدولة، وما ذلك
على الله بعزيز، وهو إذا شاء يهبكم اجتماع الكلمة وكفى.