للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد المقبلي


بحث التحسين والتقبيح [*]
أحمد المقبلي
(٢)

احتجت المعتزلة بوجوه: (الأول) أن استحقاق المدح على العدل، والإحسان
والذم على الظلم والعدوان ضروري، والمنازع مباهت ولا يرتاب منصف آثر الحق
على الخلق في صحة هذه الحجة، وأما تسليم الخصم لها [١] ثم يقولون: هو ليس محل
النزاع، إنما محل النزاع بمعنى استحقاق المدح عاجلاً والثواب آجلاً إلى آخره. وقد
عرفت غلطهم على المعتزلة، وأنهم إنما يقولون: الثواب والعقاب من لوازم التكليف
الذي هو أخص من الحسن والقبح، وأعجب منه ذكرهم العاجل والآجل كما مضى.
ومن نازعنا في هذه التخطئة فهذه كتب المعتزلة والحمد لله فليأتنا بشيء من كتب
أبي الحسين وغيره من المعتزلة، أعني كتبهم المعتمدة، لا ممن أخذ النقل عن
المعتزلة من كتب الاشاعرة وإن كان من أتباعهم كصاحب الفصول.
بل كتبهم مشحونة بالتفصيل الذي أسلفناه وهو شاهد صدق على خطأ هذا
النقل. فإن أبيت الاحتجاج [٢] بما حكاه الدامغاني عن بعض الإمامية وقد
نوظر فانقطع ثم قال: الحجة إجماعنا أيتها العصابة الإمامية. وأنت فتقول:
الطريق إلى رد ما قلت اتفاق هذه الجماعة من الأشاعرة أهل التحقيق. قلنا:
نزاعنا ليس في التحقيق إنما في صحة الرواية وهي تنبني على التحري وعدم
المجازفة، ولهذا ترى ابن الصلاح والنووي وابن حجر العسقلاني وغيره ممن
غلب عليهم علم الحديث لا يكادون يقيمون لهؤلاء المشار إليهم بالتحقيق هنا ميزانًا لما
كان صناعة أولئك عمدتها الرواية، ثم إن الطريق الذي عرفنا به كون الأشاعرة ناقلين
عن المعتزلة هو الطريق الذي عرفنا به كون المعتزلة قائلين بالمقالة فما
ترى لو حضرك أشعري ومعتزلي وقال المعتزلي: هذه مقالتي. وقال الأشعري:
بل مقالتك هذه. على أيهما كنت تعتمد؟ وارجع إلى الحمصية وحكاية قراقوش
لعمرو.
أما من دفع هذه الضرورة وقال: لا نعرف بين تعذيب زيد بأنواع العذاب،
والتلعب به بأشنع ما يستهجنه أولو الألباب، وبين إكرامه بأنواع النعم ومرافق
الارتفاق، بل بين سب الله تعالى بعد معرفته بصفات الكمال وجلائل النعم، وبين
حمده وشكره على ذلك الجود والكرم. وقال: إنما الفرق بين هذه الأشياء ونحوها
بميل الطبع ومرون الإنسان عليها للتعارف عليها أو للتأديبات الشرعية أوغير ذلك،
فالجواب عن هذا: أنَّا نفرق بين تلك الأمور التي ذكرتم وبين كون الفعل يترتب
عليه حسن المدح والذم، فأنتم قد سلمتم لنا هذا الفرق وسميتم ما سميناه تحسنًا وتقبيحًا
كمالاً ونقصًا. وأما إنكاركم بعد هذا الإقرار وقضاؤكم بأن المدح والذم لا ينشآن عن
فعل ألبتة، وإنما يمدح على الشيء ويذم؛ لأن الشارع أمرنا بذلك وما بين ذلك الفعل
والمدح الذي رتبه عليه الشارع بالنظر إلى ذاتيهما إلا ما بين الضب والنون، ولم يكن
أمره أيضًا المرجح بل بمحض الاختبار، ولو عكس وأمر بالعكوف على سبه
وكفران نعمته وعبادة الشيطان وأوجب الكفر وحرم الإيمان، وقال: أنا أحق باللعن
والشيطان بالعبادة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لكان ذلك عندكم كنقيضه لا فرق
بينهما. فلعمري ما أنتم أحقاء بعد ذلك بالمناظرة ولا بمن يرتجى منه الإنصاف ولا
جئتم بأقرب مما جاء به السوفسطائية، ولا أدليتم بأمتن مما أدلوا به، وما نقول لمن
أقر على نفسه بذلك إلا: قد قلب فؤادك وبصرك كما لم تؤمن بالحق أول مرة، ولم
تبال أين يقع قدمك في نظرك أول خطوة ولو سرنا معه على نمط الجدل لقلنا له: قد
ادعينا نحن وأكثر الفرق كما عرفت أنَّا أدركنا هذا المعنى المتنازع فيه بضرورة
عقولنا، وفرقنا بينه وبين تلك الأمور التي لم يبلغ فهمك إلى غيرها فنحن نصادقك
على اعترافك على نفسك بالجهل بهذا الأمر الذي هو الهدى كل الهدى، فمن أين سنح
لك الحكم علينا بعدم العلم بما ادعينا العلم به ضرورة حتى زعمت أننا ظننا أحد تلك
الأمور التي ذكرت أمرًا خارجًا عنها، وحكمك إنما هو جهل مركب فإنك في الحقيقة
قد شككت في صحة عقولنا لما ادعينا العلم بما جهلت.
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى المبصرون عن الضياء
***
الحجة الثانية
إذا لم يقبح من الله شيء جاز كذبه الصادق وتصديقه الكاذب، فلا يعلم صدق
نبي قط ولا يوثق بخبر من أخباره تعالى، واعترضها ابن الحاجب وقرره العضد.
ولنعتمد تقريره ليقوم مقام ما هو في معناه من ألفاظ غيره ولفظه: لا نسلم امتناع
إظهار المعجزة على يد الكاذب والكذب على الله تعالى امتناعًا عقليًّا وإن كنا نجزم
بعدمه عادة؛ لأنهما من الممكنات، وقدرته شاملة، ولو سلم امتناعه فلا نسلم أن
انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه لجواز أن يمتنع لمدرك آخر أو لا يلزم من انتفاء
دليل معين انتفاء العلم بالمدلول) والجواب، قوله: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة
على يد الكاذب، والكذب على الله امتناعًا عقليًّا. قلنا: إنما يلزمكم سد باب النبوة
وعدم الوثوق بالشرائع مع عدم التسليم. قوله: وإن كنا نجزم بعدمه عادة. قلنا:
أتريد أن التجربة أفادتك أن المعجزة لا تظهر إلا على صادق، وأن الله تعالى لا يخبر
إلا بالصدق، والسؤال وارد على نبوة كل نبي وعلى كل خبر من جهته تعالى.
ومن قد سلم لك إمكان فرد على أصلك الفاسد؟! أم تريد أنه عند المعجزة وعند سماعنا
بخبر من أخباره تعالى يخلق الله لنا علمًا ابتدائيًّا أجرى عادته بذلك؟! وحاصله: أن
العلم الحاصل لمن عرف المعجزة حاصل عندها لا بها. فهذا قول بأن المعجزة في
نفسها لا دلالة لها على نبوة النبي. والذي علمناه من نفوسنا أن هذا العلم الضروري
لم يحصل لنا إنما عرفنا وجه الإعجاز، وأنه من فعل الله تعالى فقلنا: هذا صدقه الله
تعالى، ومن صدقه الله تعالى فهو صادق كسائر الاستدلالات، ولو اختلت إحدى
مقدمتي الدليل لبطلت، فإن قلت: نحن ننظر في المعجزة فيحصل العلم بخلق الله
تعالى لغيرها من الأدلة. قلنا: إنما يكن حصول العلم بعد صحة كل من المقدمتين،
وها هنا الكبرى غير صحيحة فإن من صدّقه الله فهو صادق؛ لا دليل على صحتها
على أصلكم، هي وقولنا: ومن صدقه الله فهو كاذب. سواء. ويقال لهذا القائل:
متى تزعم أن الله يخلق هذا العلم الضروري؟ أبعد معرفة وجه دلالة المعجزة فهو لا
يتم حتى تعرف أن من صدقه الله تعالى فهو صادق؟ أم تزعم أنه من رآها أو سمعها
حصل له هذا العلم؟ فهذا معلوم كذبه ضرورة، إن قلت: خلق الله علمًا بصدق نبيه
ممكن فمن أين لك القطع بعدمه؟ قلنا: كم ممكن نحن قاطعون بعدمه لا عن دليل،
كقطعنا بأنه ليس في حضرتنا رجل له ألف رأس، وقطع أحدنا بأنه لا يثبت جثمانه
في الملأ الأعلى بأن الله يقدر على قطع ما بيننا، وأن الجبل الذي رأيناه في اللحظة
الأولى لم يتحول بعد خطيبًا، وغير ذلك من العلوم العادية.. حقًّا فهذا العلم الذي
تدعونه نرده بالعلم الابتدائي.
ولقد تجاسر من ادعى هذا العلم على أهل السماوات والأرض، ولو قال أحد
قولاً يحتمل الصدق والكذب وقال للمخاطبين: معكم علم قد خلقه الله لكم بصدق
قولي. لكان تكذيبه من أهون شيء مع استواء الأمرين في الإمكان فكيف بهذا الذي
يدفعه كل عاقل؟! فإن ادعيتم أن هذا العلم الضروري بصدق المعجزة وصدق الله
تعالى لا عن دليل حاصل لنا بعد سماع لفظ الخبر ورؤية المعجزة أو سماعها من
دون نظر وإن دعوانا كذبكم مخالفة للضرورة.
كان للسوفسطائية أن يردوا تكذيبنا لهم بذلك حين ادعوا أن لا علم عندهم ألبتة
في أي شيء، فقلنا: هم بعد إدراكهم لماهية العلم وإدراكهم لاتصافهم به منكرون
للضرورة، فلهم على هذا أن يقولوا: تكذيبكم لنا كذب. إلا أنهم يدعون على الناس
عدم العلم وأنتم تدعون عليهم العلم فادعوا ما هو الأصل، فكان دعواهم أقرب من
دعواكم وكنتم أكثر منهم لجالجًا، وأقبح اعوجاجا، وأدركتم ما كان فاتهم؛ لأنهم لا
يمكنهم دعوى العلم الضروري؛ لئلا يثبتوا العلم، فانقطعوا وأنتم أثبتموه ثم صرتم
تدعونه على من خالفكم فيما أعياكم فكنتم كمن قال، فأدركتم ما تمنى وأحال.
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أدركت بعده ... دقائق فكر ليس يدركها بعدي
قوله: لأنهما من الممكنات وقدرته شاملة. قلنا: مسلم، والذي قصد خصمك
وهو عدم وثوقك بالنبوة وصدق خبر الشارع مبني على ذلك، قوله: ولو سلم امتناعه
فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه بجواز أن يمتنع لمدرك آخر إذ لا يلزم
من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول. قلنا: أما خصمك فقد كفاه هذا الدليل
المعين، وأما أنت فقد فاتك هذا الدليل على أصلك الفاسد. فقال: خصمك جوز
على الله تعالى الكذب وتصديق الكاذب ولم يقل. فاقطع على تصديق الله تعالى
الكاذب وعلى كذبه سبحانه في إخباره، فجوابك بجواز دليل يدل على امتناع ذلك
في حقه تعالى؛ لا ينافي ما ألزمك من عدم الوثوق بالشريعة، والذي يدفع الإلزام
هو وجود دليل لا جوازه.
واعلم أن الدليل الذي يذكرونه هنا هو العادة وقد عرفت سقوطه.
وقد يقول بعضهم: هو صادق لذاته؛ لأنه متكلم لذاته. وجوابه بعد تسليم الكلام
القديم وتنوعه؛ لئلا ينتشر البحث: أنه لا فرق عندكم بين الصدق والكذب بالنظر إلى
البارئ تعالى، فلعله كاذب لذاته ويلزمكم أن تتعلق قدرته بالكذب بمعنى أنه يقدر على
أن يخبر بالشيء لا على ما هو به؛ لأن ما بالذات لا يتناقض كما أنه لما كان قادرًا
لذاته؛ أي: قدرة واجبة لا يحتاج في ثبوتها إلى غير ثبوت الذات، لم يكن من
الممكن أن يعجز، لا يقال: قد علم من ضرورة دين الأنبياء صلوات الله عليهم وصفه
بأنه صادق أبدًا؛ لأنا نقول: صدقهم لا يمكن الجزم به مع بقاء هذا الإشكال فليتأمل
هذا البحث فلم يجد المحققون فيه إلا المغالطة والتلبيس. انظر هذا المحقق الذي
صار المحقق كالعلم له كيف ألزم أنه يجوز كذب الشرائع فقال: يجوز أن يكون
هناك دليل يدل على الصدق، وهل لغير هذا المضيق يعد الدليل؟ يا هذا، لا مخبأ
بعد بوس، ولا عطر بعد عروس، ثم نقول: هب أن هناك مدركًا هو مستندكم، لكن
هذه كتبكم قد طبقت البسيطة، وقد بالغنا في التتبع لها فما وجدناكم ذكرتم شيئًا إلا
هذه الأعذار الباردة، والمغالطات التي لا طمع في الاعتماد عليها والمساعدة، وما هذه
حال من تصدى لنصيحة الأمة، وزعم أنه كفاها مُهِم الملاحدة وكشف الغمة، متى
يدرك هذا المدرك الناظرون، ويهتدي به الحائرون، فإنا قد شارفنا تمام ألف عام
وألف شهر من موت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كأنكم أودعتم ذلك المدرك إمام
الإمامية فلا يظهر إلا بظهوره، واستعملتم في تبيينه رموز الباطنية التي لا يبدونها إلا
لمن يثقون بغروره. وأعجب من هذا جواب الإمام الرازي فإنه قال في النهاية ما
معناه: صدق النبي متوقف على مقدمتين: إحداهما: أن المعجزة نازلة منزلة قول
الله له: صدقت. والثانية: أن من صدقه الله فهو صادق، فنحن وإن كنا لا يمكننا
القطع بالثانية إلا مع القول بالتحسين والتقبيح العقليين، لكن المعتزلة قطعوا بصحة
الأولى مع أنها خبر يحتمل الصدق والكذب ولم يضرهم ذلك فلم يضرنا القطع
بالثانية مع الاحتمال. انتهى.
ولم يحضرني الكتاب المذكور حتى أنقل صورة لفظه، فإن تيسر لي ذلك
ألحقته، وإلا فعلى الناظر استيعاب ذلك؛ فإن هذا الفعل محل ريبة، أو لا يقول
هذا القول مسلم: كيف من هو من أعلام المسلمين؛ إذ هو كالصريح أن المتشرعة
على غير يقين من صحة الشرائع، سبحان الله العظيم، وما أظهر ركة قوله: إن
الأولى خبر يحتمل الصدق والكذب. وما صدور مثل هذا القول عن مثله ينبغي أن
يحمل ألبتة على ظاهره؛ لوضوح قلة الإنصاف فيه، ثم وإن ظهور بطلانه يغنينا
عن التصدي لجوابه؛ إذ هذا البحث إنما يخاطب به المنتهى المحيط بتحقيق مذهب
الفريقين المتحلي بالإنصاف إذا وجد. وقد سلك هذه الطريقة الجويني في الإرشاد
وحيث أورد على نفسه أنه لا معنى للمطالبة الشرعية مع القول باستحالة أثر القدرة
الحادثة؛ لأنه اختار في الكتاب المذكور أنها مثل العلم سواء. فأجاب بأن المعتزلة
يلزمهم على أصولهم كذا، وكذا وعَدّه إلزامات. ولم يتعرض للحل أصلاً، وهو دأبه
في المضايق في الكتاب المذكور، فيقال له: هب أنه لزم المعتزلة ما ذكرت فماذا
يغني عن طالب الحق أن يعترف أنك على باطل وتلطخ صاحبك بباطل آخر،
فإنما غرضي معرفة الحق، وكشف عوراتكم لا يقضي وطري.
***
الحجة الثالثة
لزوم إفحام الأنبياء فيقول المرسل إليه للرسول: يجب عليّ طاعتك أم لا؟ فإن
كانت لا تجب استرحت، وإن كانت واجبة فبالعقل أم بالشرع؟ فعلى مذهبهم لا بد أن
يقول بالشرع، فيقول: لا يلزمني إجابتك حتى يثبت الشرع عندي ولم يثبت بعد؛
لعدم معرفتي صدقك، ومجرد الدعوى لا يكفي فكم ادعى هذا الشأن كاذب وأنا لا
ألزم نفسي تعرف الشرع حتى يجب علي التعرف فقد تمانع الأمران. وأجابوا عن هذه
الحجة أولاً بالمعارضة للمعتزلة بأن وجوب النظر عندهم نظري. فنقول: لا أنظر
في صحة دعواك حتى يدرك عقلي وجوب النظر وليس ببديهي، فلا يدركه حتى
أنظر. والجواب: إنا نقطع أن من عرض له حيرة في شيء يخشى من إغفاله
ضررًا فإنه يناله هم وغم يضر به، فإن أزال ذلك يتبين حقيقة الأمر بالنظر أو بالأخذ
بالأحوط حيث يتهيأ في بعض الصور، وإن كان الأخذ بالأحوط من نتائج النظر إلا
أنه ربما أمكن بأدنى تأمل؛ فإن العقول تقبل لومه وذمه لتركه إزالة ذلك الضرر،
وهو خاصية القبح كما مضى. فكيف من خوفه الرسول بخزي الدنيا والآخرة
وعذابهما، وفوت كل نفع، وإدراك كل ضرر لا يجد من نفسه مزعجًا للنظر بحث
يذم على إغفاله هذا، سيما في هذه الصورة مكابرة ظاهرة، فالنظر واجب يدرك
وجوبه بأدنى التفات بحيث يعد من الأوليات ويلحق بها. وقد ضرب له الغزالي مثلاً
في بحث النظر نفسه.
فقال ما معناه: لو قيل لإنسان: الأسد خلفك مقبل عليك وهو آخذك إن
لم تجد الهرب. فإذا قال: لا حامل لي على الهرب إلا العلم بصدق خبرك وأنا لا
أعلمه حتى ألتفت ولا ألزم نفسي الالتفات حتى يتحتم عليّ الالتفات. قال: فإن هذا
معدود من الحمقى لا من العقلاء، فعده إياه من الحمقى وإخراجه من زمرة العقلاء من
دون تحاش؛ يدل على أن هذه القضية يعلمها كل عاقل بضرورة عقله. وهو معنى
الذم الذي قلنا: هو خاصية القبح ومقابل القبح الواجب، وهذا منه قول بالوجوب
والقبح العقليين، وتجنب عبارة الخصم أمر سهل لا يقع النزاع فيه بين المحصلين،
فقد وضح الفرق بين الأمرين، وأن هذا الإشكال غير وارد على المعتزلة.
وأجابوا ثانيًا بالحل وحاصله: أن وقوع النظر لا يتوقف على وجوبه، وقالوا
أيضًا: وجوبه لا يتوقف على وقوعه، أما الأول فلإمكان وقوع النظر ممن يجب
عليه. وأما الثاني؛ فلأن النظر واجب بالشرع، نظر أو لم ينظر. وهذا الجواب
من المغالطة بمكان. ومن ترويجات (العضد) تخييله الفرق باعتراض الوجه الأول
وترك الثاني وهما من واد، والجواب عن الأول: أن إمكان معرفة صدق النبي لا
يوجب اتباعه، بل الموجب معرفة صدقه بالفعل، وقد فرضنا امتناع المرسل إليه عن
تعرف ما لا يجب عليه تعرفه. ولو قال النبي - كما قلتم -: يمكنك معرفة صدقي
قبل العلم بوجوب المعرفة لكان من جوابه: نعم، ولكن ليس لك إلزامي بنفس
الإمكان؛ إذ الممكنات كثيرة، هذه أحدها فإن ادعيت لهذه الحادثة خصوصية يبلغ بها
الوجوب فهو أول المسألة ولا جواب للرسول حينئذ. وبهذا اعترضه العضد وغيره.
والجواب عن الثاني: أن هذا من تكليف الغافل الذي اتفقنا على امتناعه، ودعوى
الفرق بينهما بأن هذا يمكنه النظر وذاك لا يمكنه لا يكفي؛ لأنا الآن فرغنا من بيان
أنه لم يقم حجة على الممتنع في النظر فهو معذورعن النظر، وإذا عذر لعدم الحجة
فلا عقاب على ما المرء معذور عنه؛ فلا يتحقق في حقه الوجوب الشرعي الذي
ادعيتم؛ إذ لا يجتمع بوجوب الفعل والعذر عنه؛ لأن المعذور لا يذم، وتارك الواجب
يذم، والفرق المدعى خارج عن الجامع، ومجرد ترويج أن يجمعهما عدم قيام الحجة
والإمكان في حق هذا دون ذلك لا يتم فارقًا؛ لخروجه عن محل النزاع. ومثله الفرق
بين التكليف بالمحال لنفسه والمحال لغيره كالتكليف بالجمع بين النقيضين وتحمل
الواحد منَّا جبل أحُد إلى مكة مثلاً.
ولا يلتبس عليك هذا بالتكليف إيجاد ما علم عدم وجوده؛ فإنه لا إحالة فيه ألبتة،
فإنه لو أخبر الصادق أنك لا تقوم من مقعدك ريثما تتلو الفاتحة؛ فإنك تعلم تمكنك من
القيام والبقاء على السواء كما كنت قبل خبره. لكن خبر الصادق دل على وقوع أحد
الجائزين، فإنه لا بد للجائز من أحدهما، ولا دخل للعلم في تأثير إحالة ولا إمكان.
وكيف يؤثر التابع في المتبوع. فليتأمل جدًّا، ومحل هذه مسألة الأفعال، فإن ذكر
وإلا فقد كفاك هذا أيها المدرك. فليتأمل هذا طالب النجاة، وليتخبط بتعامي التعصب
من اتخذ إلهه هواه. أما قولهم في هذه المقام: الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم
ينظر فمصادرة، فإن ذلك نتيجة البحث فكيف يجعل بعض مقدماته؟!
وحاصله أنَّا نقول: لو كان الوجوب بالشرع دون أن يدركه العقل؛ لزم
إفحام الأنبياء فلا يقوم لهم حجة لانسداد طريق الشرع بعدم النظر، ولا يمكن إلزام
النظر قبل ثبوت الشرع، فلما لم يجدوا مخلصًا عن إفحام الأنبياء رجعوا إلى نفس
الدعوى وقالوا: الوجوب عندنا قد ثبت بالشرع قبل النظر فيمن يصل إليه فينظر أو
لا ينظر فكأنهم قالوا: عدم قيام الحجة للنبي لا يضرنا؛ لأن نفس الوجوب لا يتوقف
على لزوم امتثال المكلف ذلك الواجب، إذا حققت هذي عرفت أنه كلام فارغ، فإنه
قد قال خصمهم: سلمنا الوجوب كما تدعون لكن يلزم عليه إفحام الرسل فكيف يقال:
الوجوب ثابت عندنا بالشرع نظر أو لم ينظر؟! والمطلوب إنما هو التخلص من إفحام
الأنبياء؛ لتقوم لهم الحجة على المكلف، وليس النزاع في نفس ثبوت الوجوب؛ إذ قد
سلم تنزلاً إنما الكلام في لزوم عدم قيام حجة الأنبياء فاعرف أن هذا الخبط من
الأذكياء له شأن، والله المستعان. وأما حجج نقاة التحسين والتقبيح العقليين
فالتعويل عليه أضعف من التعويل على نقص حجج المثبتين لهما كما سيتضح لك.
الحجة الأولى
ما اعتمده ابن الحاجب في مختصر المنتهى، وهي أنه لو حسن الفعل وقبح
لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لذاته. والجواب: أن هذا مبني على أن الطلب صفة
ذاتية متميزة عن العلم والإدارة، وخصمكم ينكر ذلك كله، ولم يتم لكم ذلك بدليل
ناهض، فهو بناء على غير أساس، ومع تسليمه فالمتعلق بالكسر من حيث إنه
متعلق تابع لمتعلقه؛ فلا يتحقق التعلق بدونه وذلك لا ينافي كون تعلقه لذاته كما قاله
الجميع في العلم. ولهذا اعترضه سعد الدين، وزبدة هذا وحاصله: أن تعلق المتعلق
بشيء وكان ذلك الشيء ذا أوصاف متغايرات، فالطلب تعلق بفعل له صفة الحسن
مطلقًا، لا بمطلق الفعل. ووضع هذه الحجة الساقطة مبني على نفي الحكمة بل على
إحالتها، فليتأمل.
الحجة الثانية
لو كان يثبت للفعل صفة الحسن والقبح لا باختيار مختار كما قالت المعتزلة،
والبارئ تعالى ليس إلا مبينًا لما ثبت في نفس الأمر لم يكن تعالى مختارًا في الحكم
بل يكون كالمفتي والقاضي بين الحكم، ثم يلزم أو يتوعد على عدم الامتثال وتوعد
عليه بالثواب العقاب. الجواب: إن أردت أنه ليس مختارًا في جعل الحكم حكمًا
فهو عين مذهب خصمكم، وهو أول البحث كما مر توضيحه. وإن أردتم أنه ليس
بمختار في التبيين والإلزام على معنى أنه ليس له أن يخبر بحكم غير ثابت في
نفس الأمر ولا أن يلزم به؛ فهو كذلك أيضًا؛ لأن الإخبار لا بد أن يطابق وإلا كان
كذبًا، وكذلك الإلزام لا بد من وجه حامل عليه كما مضى تقريره، وكل ذلك لا ينافي
الاختيار وإن أردتم أنه يصير مضطرًّا إلى التبيين حتى يكون بمنزلة الواجب غير
المختار؛فلا وجه للزومه، وهو ظاهر.
وعلى الجملة فهذه الحجة بينة السقوط؛ لأن اللازم منها غير مذهب الخصم أو
ما عدم لزومه بين، أما التشنيع بقولكم: كالمفتي والقاضي فشيء يستخف به
الجاهلون ولم يجئ بشيء بِدع، فإن هذا شأن الماهيات كلها كماهية القديم والواجب
والممكن والمستحيل والضد والنقيض والنفي والإثبات وسائر الماهيات؛ فإنها متقررة
بخصوصياتها التي بها تمايزت وتقررت وعلمت؛ ولذا تقرر الله سبحانه على من لم
يفرق بين ماهيتين بالاستفهام والتعجب والإنكار كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ
أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: ٢١) - {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: ١٧) - {أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) إلى غير ذلك. وقال الله سبحانه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الإسراء: ٣٨) وقال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
} (هود: ٥٦) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: ٣٣) وقال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: ٢٠٥) وقال
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: ٩٠) وقال تعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ} (النور: ٥٠) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} (يونس: ٤٤) -
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء: ٤٠) - {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن: ٦٠) إلى غير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم مما يدل على أن المنهيات والمأمورات متقررة كتقرر القديم والحادث والنفي
والإثبات، فمن قال: لا فرق بين الإحسان والإساءة إلا بحسب اعتبار الاعتراف،
وأنه لا معنى للفاحشة مثلاً إلا ذلك المتعارف، وإلا فهي والإيمان سواء في الخلو
عن الحكم وفي نظر الشارع، وإنما اتفق الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء لمجرد
الإحسان لا لحامل أيضًا، فمن كان هذا شأنه فو الله ما في إنصافه مطمع، لكن كثرة
المقلدين للأشعري في هذه الهفوات ألجأ المتدينين إلى الإعذار معذرة إلى ربنا
وكفى به حكما.
ثم إنَّا نبين الآن أن الأمر - أعني كون الحكم - غير واقف على اختيار مختار
في كونه حكمًا لازمًا لزومًا بينًا على قواعد الأشاعرة. وبيانه: أن الحكم عندهم
خطاب الله والخطاب القولي الذي هو من صفات الفعل اتفاقًا على وفق النفسي وعبارة
عنه فقوله مثلاً: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) لا بد أن يكون
معنى حل البيع وحرمة الربا متضمنًا له الكلام النفسي والنفسي غير مختار فيه،
وتعلقه لذاته كما هو شأن القديم، وهم أيضًا مصرحون بأن الحكم قديم، والقديم غير
مختار فيه اتفاقًا، والبارئ تعالى إنما يبين لنا ما ثبت في الأزل، ويلزمنا امتثال
الجري على مقتضاه؛ فالحكم إذًا ثابت بلا اختيار مختار اتفاقًا. ويتعين على هذا
محل النزاع وينحصر في جهتين:
إحداهما: هل يعلل ثبوته الأشاعرة: لا لقدمه. المعتزلة [٣] . نعم لإمكان
التعليل. ثانيهما: هل يدرك العقل مستقلاً بعض جزئياته؟ المعتزلة: نعم؛ لإمكان
معرفة الموجب له، وهو كون الفعل ظلمًا مثلاً وإحسانا. الأشاعرة. لا؛ لأنه غيب
محجوب. وهذا التحقيق والإلزام مع وضوحه لم أر من ذكره ولا ما يقرب منه. ولا
زلت أسائل من أظنه أهلاً لأن يُسأل فما كان مطمح نظري إلا أن يفهموا السؤال ولم
يكن. وإما لاستيقان واستقلال عقولهم بحقيقة الأمر وشفاء السائل فمرام بعيد، ومرمًى
حال دونه حجب التقليد، فليتأمله من بقي من المنصفين بعين الجد والإنصاف [٤] . كل
مبتكر محل لإجالة النظر ولا يمنعه الالتفات لقولهم: ما ترك الأول للآخر فإنه يكفي
في معارضة هذه اللفظة قولهم: كم ترك الأول للآخر. ولله در ابن مالك حيث يقول:
(إذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يُدَّخر
لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين) ، نعوذ بالله من حسد يسد باب
الإنصاف ويصد عن جميع الأوصاف، انتهى.
الحجة الثالثة
السمعية
وهي أشفها بحسب الظاهر وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً} (الإسراء: ١٥) ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه لا يعذب بدون بعثة
الرسول، ومن قال: العقل مستقل لقيام الحجة يلزم على قوله أن يسوغ التعذيب.
الجواب: أن هذه مصادرة على المطلوب [٥] ؛ لأن النزاع في جواز التعذيب لا في
وقوعه، وكم من جائز غير واقع وما قاله العضد وجرى عليه السعد وقلدهما الناس
أنه إنما لزمتهم الحجة لمنع العفو عقلاً عند المعتزلة فغلط على غلط؛ لأن هذه الحجة
ذكرت لرد هذا المذهب، وقد عرفت أن القائل به أعم من ذلك ولا ملازمة بينه وبين
منع العفو عقلاً والقائل بعدم العفو عقلا شرذمة من البغدادية وسائر أهل هذه المقالة
قائلون بجواز العفو عقلا وكثير منهم يقولون بجوازه سمعًا ونحن منهم كما هو قول
أكثر الأمة والمحققين المنصفين غير المتعجرفين، بل صريح الكتاب والسنة اللذين لا
يعدل بهما، ولا يعول على غيرهما.
ومن عجائب العضد والسعد أنهما ذكرا هذا الكلام السابق فيما يختص الجبائية
من الرد فكان غلطًا على غلط، وهذه مسألة خلاف بين المعتزلة والجبائية. بل
البصرية بأسرها يجوزون العفو عقلا والكعبي وأتباعه يمنعونه، فهي ما اشتهر فيه
الخلاف بين أهل المصرين لكن مثل هذه الأشياء أصلها ما ذكرت لك آنفًا من عدم
الإحاطة بمذهب الخصم لعدم صرف الهمة إليه، فيجهله فيجهل عليه، شنشنة من
عدم الإنصاف، الذي هو أصل الخلاف، فهذا شيء كثير جربناه في نقل الأشاعرة
عن المعتزلة والعكس بحيث يمتنع المنصف من قبول أحدهم على الآخر، والغلط
على المعتزلة أكثر منه في العكس فجرب إن كنت تدعي أنك صادق الهمة فليس شاهدًا
بأسوأ التجربة.
نعم هذه الآية الكريمة حجة على البغدادية في منعهم العفو عقلاً. وهذا مذهب
ركيك قادهم إليه القول بوجوب اللطف مع القول بأنه لا وجه للتعذيب سواه،
والمذاهب ثلاثتها كل منها أوهى من الآخر - أعني مذاهب البغدادية المذكورة - غير
أنه بقي لهم هنا عذر إن لم ينصوا على خلافه، وهم أنهم إنما عللوا الواقع من العذاب
بأنه إنما وقع؛ لأنه لطف وكل لطف واجب، فإذا جاء الشرع بعدم تعذيب أهل
الفترات مثلاً؛ فلا يلزمهم القول بتعذيبهم، فليتهم يحفظ هذا حذرًا من الغلط عليهم،
وهو وجه وجيه يبعدهم عن التشنيع، إن أدركه من علم الله سبحانه حسن الصنيع.
لا يقال: في الآية وجه آخر من الاحتجاج غير ما ذكروه، وهو أن قولهم: ما
كنت فاعلاً وما كنت لأفعل. فحواه: إن هذا الأمر لا يلائم حالي ولا يليق بي
كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص: ٥٩) ، وهو بمعنى الأول، ثم قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي
القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: ٥٩) وغير ذلك من الآيات وغيرها لا
تجد الاستعمال إلا هكذا؛ ولذا يفسرها الزمخشري وأضرابه من فحول العربية بقولهم:
(أي: ما صح وما استقام وليس بمستنكر أن يدل مجموع كلام على معنى لم يحصل
للأفراد مع تفرقها، كما قالوا في قولهم - كان يفعل كذا -: أنه يفيد الاستمرار،
وقد قيل ذلك في يفعل على انفراده ومدلول الفعل المطابقي من حيث هو إنما هو
الحدث الذي من شأنه، وحقيقته التقضي) وقد قال السعد في موضع من حاشية
الكشاف: واعتبارات البلغاء دلالة رابعة، كما أن العادة طبيعة خامسة. هذا لفظه
وقد مر لنا عليه هناك مناقشة. وفي الكشَّاف بل في فن البيان كله شيء كثير من هذا
فليختبر، فهذا تنبيه وهو معنى خصوصية التراكيب التي وضعوا لها في المعاني،
ومن ذلك دلالة الاستثناء في: جاءني القوم إلا زيدًا. فإن أفراد هذا التركيب لا يدل
على عدم مجيء زيد، لكن زعم بعضهم أن دفع فهم عدم مجيء زيد كدفع الضرورة،
وذكر ذلك في المطول، فمع تمام ذلك يكون مما ذكرنا والله أعلم.
وإذا كان لا يليق بالحكيم ولا يلائم شأنه التعذيب قبل البعثة فهو معنى أن
الحجة لا تقوم قبل الشرع؛ إذ لو قامت حينئذ لكان التعذيب ملائمًا، ثم رأيت الإسنوي
قد أشار إلى هذا الوجه في شرح المنهاج بعد أن قلته نظرًا فنقول: لا يضرنا ذلك؛
أما أولاً فهي محتملة بقوة أن المراد عذاب الاستئصال بدليل السياق؛ لأن العذاب
مطلق، فهو مع القيدين على سواء - أعني الدنيوي والأخروي - والسياق معين لأحد
القيدين، وإن عممنا فلا يضرنا أيضًا؛ لأنا نقول: إنه قد يقال ذلك في ما يحافظ عليه
أعم من أن يكون متحتمًا أوغير متحتم بقول: ما كنت لأترك إخراج الزكاة وما كنت
لأترك فضيلة صدقة النفل. وحاصله تنزيل ما ليس بحتم منزلة المتحتم بجامع العدم
على المحافظة، والآية من القسم الثاني جمعًا بين الأدلة، فالبارئ تعالى لسعة رحمته
وبالغ حكمته يقول: ما كنت لأكتفي بمجرد حجة العقل حتى أردفها بحجة السمع،
مبالغة في الإعذار، وقطعًا لتعلة المبطلين الأغمار، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو
مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨) وحكى
عنهم هنا على فرض عدم الرسول الاعتلال بعدمه، كما كان يعتل المبطلون بكون
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قارئًا كاتبًا، وليس ذلك من شرط النبي صلى الله
عليه وآله وسلم. ولهذا أسند الارتياب إلى المبطلين وقال هنا: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم
بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} (طه: ١٣٤) وفي
هذه الآية نفسها دليل على ما نحن فيه لمن له فهم وذوق، والله الموفق.
ونظير هذه المسألة أن المعتزلة قالوا: لو كان للكافر لطف في المقدور ولم يفعله
له لم تقم عليه الحجة. سهل لهم اقتحام ذلك ما رأوا من مبالغة الله سبحانه وله الحمد
بالألطاف وأنواع الترغيب والترهيب وقد نقض ذلك سبحانه بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ
البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٩) واعتذارهم بمشيئة الإكراه ساقط؛
إذ لا نسلم تسميته ذلك هداية لغة، ولعلنا نتعرض لهذه المسألة فنستوفي الكلام منها،
وإلا فهذا تنبيه كاف للمنصف.
هذه الحجج الثلاث هي التي اعتمدها ابن الحاجب وشراح كتابه، وغيرها ركيك
كقولهم: يلزم أن يكون فعل العبد كالإيمان مثلاً أشرف من فعل الله تعالى كالشيطان.
وهذه هي الشبهة التي زعموا أن ضرارًا رجع عن الاعتزال من أجلها. ونظير هذه
الحجة ما قاله المشركون للمسلمين: أنتم تحللون ما تقتلون وهو المذكاة وتحرمون ما
يقتله الله سبحانه وهو الميتة فأنزل الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ
الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: ١١٢- ١١٤) وعزى هذا الحديث السيوطي في أسباب
النزول إلى الحاكم وأبي داود وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرج الطبراني
وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١٢١) أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدًا فقولوا له: ما تذبحه
أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب - يعني الميتة - فهوحرام،
فنزلت هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (الأنعام:
١٢١) قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش.