للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جمع القرآن وعدم ضياع شيء منه

س ٣٥ صاحب الإمضاء في الإسكندرية
قال السائل في كتاب خاص: إنه عرضت له شبهة في مسألة جمع القرآن.
ثم شرح ذلك بقوله:
(تعلمون أيها السيد أن القرآن الكريم جمع في خلافة الصديق رضي الله عنه
كما تعلمون بل تتيقنون عدم حفظ واحد له جميعه وإلا لما كان هنالك معنًى لتلقفه من
صدور الرجال - على ذلك لا أتردد في ضياع شيء منه خصوصًا وأنهم لم يجدوا
حافظًا لآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة: ١٢٨)
... إلخ السورة , إلا خزيمة بن ثابت فإذا صح هذا وهو الواقع أستنتج من ذلك جواز
موت صحابي آخر قبل الجمع انفرد على الأقل بما انفرد به خزيمة هذا إن لم نقل:
اثنين أو ما فوق العشرة. فما قول السيد في ذلك؟ وما الدليل على عدم الضياع
وطريقة الجمع يتسرب إليها الشك في كل مكان بالدليل العقلي؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع. م

ج - أعجب ما في هذا السؤال زعم السائل أنني أتيقن عدم حفظ أحد من
الصحابة - رضي الله عنهم - للقرآن كله واستدلاله على هذه المسألة بتلقفه من
صدور الرجال، فأما أنا فإني أوقن أنه قد حفظ القرآن كله جمع كثير من الصحابة
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح المحدثون إلا بعدد أفراد معروفين
منهم فقد صرحوا بأنه قتل في حرب أهل اليمامة سبعون من القراء وكان ذلك سبب
اقتراح عمر جمع القرآن على أبي بكر رضي الله عنه، وبأن أهل الصفة من فقراء
الصحابة كانوا منقطعين في المسجد لحفظ القرآن والعبادة ويعرف السائل أن العرب
كانوا من أجود الناس حفظًا على أن البدو في جميع الأمم أجود حفظًا من الحضر
والعرب أذكى الأمم بدوًا وحضرًا حتى إنه كان من حاضريهم من يظن أن من شأن
الإنسان أن يحفظ كل ما سمع كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه وقد رأى
رجلاً استكبر حفظه لرائية عمر بن أبي ربيعة حين سمعها مرة واحدة فقال: وهل
يسمع الإنسان شيئًا ولا يحفظه؟ فقد كانوا يحفظون ما يسمعون من حسن وقبيح ما
يعجبهم منه وما لا يعجبهم؛ فكيف تكون عنايتهم بحفظ كلام الله عز وجل وهم يؤمنون
بأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم يتقربون به إلى ربهم وينالون رضاه؟
وقد تعمدوا ذلك وحرصوا عليه وعنوا به أشد العناية وقد رغبهم الله ورسوله بحفظه.
على أن حفظه أن يضيع شيء منه لا يتوقف على حفظ الكثيرين له كله بل
يكفي فيه حفظ الكثيرين لكل سورة من سوره وهل يعقل أن تنزل سورة ولا
يحفظها الجم الغفير من أهل الصفة المقيمين في المسجد لأجل حفظ القرآن من النبي
صلى الله عليه وسلم؟ وكذا من غيرهم من المقيمين في المدينة وكان أكثرهم يصلي
مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عنه أحدهم إلا لعذر عارض وكان يقرأ
القرآن كله في الصلاة كما كان يدارسهم إياه سورة سورة على النحو الذي يتدارسه مع
جبريل عليه السلام؛ إذ ورد في الصحيح أنه كان يعارضه القرآن في رمضان كل
سنة مرة أي كل ما نزل منه وفي آخر رمضان من عمره الشريف عارضه جبريل
القرآن مرتين وكان قد تم نزوله أو كاد فعلم من ذلك أنه حان أجله الشريف صلى الله
عليه وآله وسلم.
إن الذين تولوا جمع القرآن في المصحف بأمر أبي بكر ثم بأمر عثمان كانوا
يحفظونه وإنما كانوا يجمعون المكتوب في الصحف والعظام وغيرها ويراجعون
القراء الحافظين لأجل أن لا يبقى مجال لدعوى أحد من المنافقين أو غيرهم أن عنده
شيئًا منه يخالف المجموع في المصاحف فيشكك به بعض الضعفاء أو الجاهلين،
ولو رأى المنافقون أن في جمع القرآن شبهةً ما لأذاعوا بها وأكثروا الإرجاف ولم
يقع شيء من ذلك ولو وقع لقامت له القيامة وعرفه كل الناس.
أما آخر سورة التوبة فقد كان يحفظها الجم الغفير ومنهم جامعو القرآن وقد
التمسوها ممن كتبها وهم بها عالمون فوجدوها عند خزيمة أو أبي خزيمة الأنصاري
كما رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت الذي كان يتولى الجمع، وكذلك آية
{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: ٢٣) ... إلخ فقد
روى البخاري والترمذي عن زيد رضي الله عنه أنه قال: فقدت آية من سورة
الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فالتمستها فوجدتها مع
خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة
رجلين وذكرها فألحقتها في سورتها من المصحف.
فأنت ترى أنه التمس شيئًا كان يعرفه، كيف لا وهو أحد الحفاظ المشهورين
الذين جمعوا القرآن كله عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد روى البخاري ومسلم
في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد
ابن ثابت، وأبو زيد، قيل لأنس: من أبو زيد. قال: أحد عمومتي. وقد قال علماء
الأصول: إن العدد لا مفهوم له. أقول: ولا سيما في مثل هذا الخبر الذي يخبر
صاحبه عما علم أو بعض ما علم عن قومه، وكان أكثر الحفاظ من فقراء المهاجرين
أهل الصفة رضي الله عنهم. نكتفي الآن بهذا الجواب المجمل الموجز الذي كتبناه في
مركب يجري بنا في زقاق (بوسفور) القسطنطينية، ونظن أنه يكفي السائل فإن لم
يكفه؛ فليراجع ما كتبناه من قبل في أحد مجلدات المنار وما كنت أظن أنه لم يقرأه
وهو على ما أعهد ولوع بالمنار حريص على تتبعه، وسنفصل هذه المسألة تفصيلاً
فيما سنكتبه من أصول الدين لطلاب مدرسة (دار العلم والإرشاد) ثم ننشره على
سائر الناس إن شاء الله تعالى.