للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التربية القويمة والسياسة الحكيمة [*]
الثقة والظنة

إظهار الثقة بالإنسان مجلبة لما تحصل به الثقة، وابتغاء الظنة فيه مدعاة لما
تتحقق به الظنة، فالمعاملة بالثقة أصل الصلاح والإصلاح، والمعاملة بالظنة أصل
الفساد والإفساد.
رب ولدك مراعيًا هذين الأصلين تحل بينه وبين الرذائل، بما تطبعه في نفسه
من ملكات الفضائل، لا تذكر له الرذيلة ولا تنهه عنها ولم يأتها؛ لأنه لا ينهى عن
الشيء إلا من جعل عرضة لإتيانه، ولا تتهمه بفعل شيء ولا تجعله في موضع
المراقبة ليتقي السوء، بل اشغله بالصالحات عن السيئات، وحل بينه وبين أسبابها
وطرقها حتى لا تخطر بباله إن استطعت، فإن علمت أنه سمع بشيء منها ورآه
فاذكر له مضار ذلك الشيء ومهانة أهله وسوء أحدوثتهم وما ينتظر من العاقبة السوءى
لهم، اذكر له ذلك من باب بيان الواقع، وإظهار الحقائق، مُؤيدًا بالدلائل والشواهد،
واجعل نفسك وإياه من طبقة شريفة عالية لا يليق بشرفها أن تعاشر أولئك المسيئين
ولا أن تجعلهم موضوع أحاديثها إلا قليلاً تقصد به العبرة بأحوال البشر والشفقة
عليهم من ظلم الظالمين منهم الذين يكونون بفساد تربيتهم قدوة سيئة لفاقدي العلم
وفاسدي التربية.
إذا علمت أن ولدك يعرف ولدًا أو رجلاً غير مؤدب وأنه عُرضة لمحادثته
ومعاشرته، فلا تنهه عن ذلك نهيًا صريحًا يشعره بأنك تمنعه منه بسيطرتك عليه، بل
أشعره بأنك تعلم أنه يحتقره في نفسه ولا يرضى لها أن تتخذه صاحبًا ولا عشيرًا
وابن على هذا نصحه بأن لا يظهر له الإهانة والاحتقار في وجهه ويكتفي من ذلك
بالإعراض عنه كما أمر الله تعالى بقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) وإذا تعرَّض ذلك الذي لا أدب له وبدأه بالحديث
فليكن جوابه جواب مسالمة وتخلص يفهم مخاطبه منه - مع الأدب - أنه لا يجب
مجاراته والاسترسال في الحديث معه، كما وصف الله الكملة من عباده بقوله: {وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: ٦٣) أي: قالوا قولاً يسلمون به من
الإثم، ولا يقارعون الجهل، ولا يُنجي من شر الشرير مثل البُعد عنه وترك الإساءة
والإحسان إليه.
إن نفس الولد تشبه الصحيفة البيضاء النقية، وإن سمعه وبصره هما القلمان
اللذان يكتبان فيها أنواع العلوم ويرسمان فيها صور الأخلاق والآداب، فينبغي أن لا
يسمع إلا حسنًا ولا يرى إلا حسنًا، يتحتم هذا في طور التقليد الذي يسلم فيه بكل ما
يروى ويحاكي كل ما يرى، وكلما قويت فيه ملكة التمييز بنفسه بين الحق والباطل
والحسن والقبيح يذكر له بالتدريج كل ما هو معرض له من سيئات العالم وشروره
بالأساليب التي تنفره من الباطل والشر وترغبه في الحق والخير.
ألم تر إلى علماء التربية كيف يتحامون في كتب التعليم ذكر ألفاظ الجرائم
والشرور والفحش والرفث لكيلا تشتغل نفوس النشء بها قبل أن تقوى بالحق
والفضيلة وحب الخير؟!
دخل في الإسلام بيت من بيوت الأمريكيين: رجل وامرأته وأولادهما ومنهم
ابنة معصر ذكية الفؤاد وكانوا في مصر فرغبوا إلى بعض معارفهم من المصريين
أن يدلهم على عالم من علماء الإسلام يأخذون عنه ما يحتاجون إليه من أحكام الإسلام
فدلهم صاحبهم على الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى -؛ لأنهم كانوا
يعرفون اللغة الفرنسية ولا يعرفون من العربية إلا قليلاً والأستاذ كان يحسن هذه
اللغة، ولأن الأستاذ هو الرجل العارف الكامل الذي يُرجى أن يُمَثِّل الإسلام الأعلى
لأمثال هؤلاء الإفرنج الذين تربوا تربية عالية وأخذوا حظًّا عظيمًا من العلوم،
فكانوا يلقونه ويسألونه ويسرون بما يجيبهم ويتلقونه بالإذعان.
كانوا يتذاكرون يومًا فجرى لفظ اليأس على لسان الأستاذ فقالت له تلك البنت
الشابة منهم: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك عن أمر اشتبه عليّ في قولك؟ قال: نعم.
قالت: كيف يذكر مثلك لفظ اليأس وأنت تعلم أن الألفاظ التي لها مدلولات ضارة
إذا أُلقيت واستعملت فلا بد أن تؤثر في نفوس السامعين تأثيراً ما، أليس هذا
صحيحًا؟ قال: بلى، وإنني قلت مرة كلمة في تصوير تأثير الكلام، قلت: إنني إذا
ألقيت الكلمة وأنا وحيد ببيتي في حندس الظلام فلا بد أن تبقى تلك الكلمة
معلقة في الهواء حتى تصادف نفسًا مستعدة فتؤثر فيها. قالت الفتاة: أتأذن لي
أن أفسر قولك هذا بما فهمته؟ قال: نعم. قالت: إن الإنسان يكون علمه بالشيء قبل
أن يتكلم به إجماليًّا مبهمًا فإذا تكلم به انتقل إلى حيز التفصيل والتجلي ويستدعي ذلك
إعادته وسماع الناس له فيؤثر في نفوسهم، - أو ما هذا معناه -. قال: أحسنت.
وغرضنا من ذكر هذه الواقعة أن أرباب التربية العالية يتحامون ذكر الألفاظ التي تُذكِّر
بالمعاني الضارة إلا عند الضرورة.
ألا وإن حب الخير وإيثاره من مقتضى الفطرة وهو الغالب على الناس ولولا ذلك
لفسدت الأرض، وإنما يقع الشر في الغالب لعدم تربية فاعله على التمييز الصحيح
بينه وبين الخير له في عاجله وآجله، فهو عرض يعرض من الجهل وسوء التربية.
من آيات هذا أنك ترى الطفل من ابتداء عهده بالتمييز يسر إذا وصفته بالخير،
ويزداد رغبة فيه، ويمتعض إذا وصفته بضده وربما بكى وانتحب. وهذا أعون
صفات الفطرة السليمة على التربية القويمة.
إذا رأيت من وليدك أمارة الكسل وأردت أن تنشطه على العمل؛ فصفه بالنشاط
وأظهر له أنك تثق به وترى أنه أهل للقيام بالعمل الذي توجهه إليه، وإذا أتى شيئًا
منه فاحمده عليه، فبذلك يتجدد له من الهمة والنشاط ما لم يكن له من قبل. صفه
بالجرأة والشجاعة؛ يكن جريئًا شجاعًا. صفة بالصدق والأمانة؛ يكن صادقًا أمينًا.
اجعله محلاًّ لثقتك في حب العلم والعمل؛ تجده أهلاً لها.
لا تتهمه برذيلة من الرذائل؛ فإنك بذلك تُسَهِّل عليه ارتكابها (فإن اللوم إغراء)
ومن يهن يسهل عليه الهوان. فالمرء يشق عليه بمقتضى الفطرة أن يعرف
بالباطل ويوصف بالشر ولو بحق؛ ولذلك يخفي عيبه. وإخفاؤه إياه يكون عونًا
للمربي على تنفيره منه وحمله على تركه؛ فإذا فضح أمره؛ هان عليه
التهتك والمجاهرة بالمنكر، بل ربما يتهم المرء ببعض المنكرات اتهامًا باطلاً فيحمله
ذلك على إتيانها، وقد يعزى إليه ما لم يفعل من المعروف والخير؛ فيحمل نفسه على
تحقيق الظن به، كما روي عن بعض السلف أنه سمع بعض الناس يقول: إن هذا
الرجل يقوم الليل كله. فعز عليه أن يوصف بما ليس فيه ويكذب من أحسن الظن به
فصار يقوم الليل كله وكان قبل ذلك لا يقوم إلا بعضه، ومن أمثال العامة في بلادنا
(من ائتمنك لا تخنه وإن كنت خوانًا) .
نعم إن هذه الطريقة لا تطرد في الكبار كما تطرد في الولدان، ولكنها تفيد في
سياسة الرجل، كما تفيد في تربية الأطفال، بل تفيد في سياسة الأمم والشعوب فإنك
إذا أردت أن تحث قومًا على عمل من الأعمال النافعة؛ فلا ينبغي أن تصفهم بالبعد
عنه والكراهة له والجهل بمنافعه وفوائده وضعف الهمة عن القيام به وشح النفوس
وبخلها أن تجود بالمال في سبيله، إنك إن تصفهم بذلك؛ تزدهم إعراضًا وضعفًا
وخمولاً وإذا أنت وصفتهم بالمروءة والنجدة وعلو الهمة وسخاء النفس وبسط الكف؛
ترى نصحك مسموعًا وإرشادك مقبولاً.
كانت السياسة الحميدية في دولتنا شر سياسة أخرجت للناس؛ لأنها بنيت على
أساس الظنة والريبة في الأمة ولا سيما في المتعلمين من أفرادها، وقد ورد في
الحديث الشريف: (إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود.
وكذلك فعل عبد الحميد أفسد أمته عليه حتى صار أكثر المقربين منه المتمتعين
بالسلطة والثروة في ظله يتمنون زواله، فما بالك بمن كان يطاردهم، ويضيق عليه
مسالك الحياة ولا نذكر من نفاهم من الأرض، أو زجهم في غيابة السجن.
إنه اتهم جماهير المتعلمين بعدم الإخلاص له وبتمني زواله فصاروا كذلك،
ولماذا يكون الناس غير مخلصين لملكهم وأميرهم ولحكومتهم ودولتهم؟ إن
الإخلاص هو الأصل ولا يتحول الناس عن الأصل إلا لسبب موجب يعرض لهم،
أفلم يكن من العقل والحكمة أن يبحث ذلك الجبار عن سبب ما كان يتهم به عقلاء
الأمة والعارفين بمصالحها من كراهتهم إياه وعدم إخلاصهم له، ويستعين على ذلك
ببطانته وخاصته، ثم يزيل ذلك السبب العارض، ويرجع بخيار أمته إلى الأصل
الثابت؟! بلى، ولكنه ما كان يثق بأحد ثقة تامة فيستعمله في ذلك، فكانت قاعدة
سياسته السوءى أن يبحث دائمًا عن عيون الناس ومفاسدهم ويصدق كل ما يلقى إليه
في ذلك أو يأخذه بالتسليم احتياطًا ويبني عليه ما يبنيه على ما يصدقه ويوقن به، ولا
يبحث عن محاسن الأخيار وفضائل الفضلاء ليستعين بهم على إصلاح الفاسد وتقويم
المائل، بل لا يصدق ما يبلغه من ذلك، فكان كل واحد عنده ظنينًا مريبًا، فكيف
يستطيع مع ذلك أن يصلح عملاً، أويتقي زللاً؟
استعمل في ذلك الألوف من عمال الحكومة في جميع أعمالها ومصالحها،
والمئين من الجواسيس في عاصمتها وولاياتها، وكذا في مصر وعواصم أوربا
وأشهر مدنها، واشتهر أمر سياسته هذه حتى بلغ إفسادها من الأمة أن صار أبناء
الرجل وبناته العذارى يتقربون إلى السلطان بالوشاية والسعاية فيه؛ فيصب عليه
سوط العذاب، أو يسام النفي من البلاد، ويأخذ أولاده الجَعْل على ذلك وهم
فرحون، - إلى هذا الحد وصل فساد سياسة عبد الحميد في هذه الأمة ولا سيما في
العاصمة فهو ما أفسد الناس عليه فقط بالتهمة والريبة وإنما أفسدهم أيضًا في أنفسهم
حتى قطع أقوى صلات الصلاح وأمتنها بينهم وهي صلة الأولاد بالوالدين.
كان الأستاذ - رحمه الله تعالى - يقول: أخوف ما أخافه من استبداد عبد
الحميد وظلمه هو إفساده لأخلاق العثمانيين لا لإدارتهم، فإن إصلاح الإدارة من بعده
يسهل إذا كانت الأخلاق صالحة، ولا يحتاج إلى زمن طويل إذا كانت الأخلاق
سليمة، ومتى فسدت الأخلاق؛ فإن إصلاحها لا يسهل إلا بعشرات من السنين كما
جربنا في أنفسنا - يعني المصريين - فإن إسماعيل باشا أفسد الإدارة وأفسد الأخلاق،
فلما وجدنا ريح الحرية وأردنا أن ننهض بالإصلاح، كان فساد الأخلاق هو الذي
عاقنا لا فساد الإدارة، ولولا ذلك لكانت هذه المدة التي أبيح لنا فيها ما نشاء من التربية
والتعليم والكتابة والخطابة والاجتماع كافية لأن نرتقي فيها ونكون أمة.
وقع ما كان يتوقع ذلك الإمام الحكيم فقد أفسدت السياسة الحميدية السوءى
أخلاقنا حتى صار الإصلاح عسيرًا علينا مع الحرية على مقربة مما كان في زمن
الاستبداد فإن الذي كان يتصدى للإصلاح في عهد عبد الحميد كان يتهم بعدم
الإخلاص له، والذي يتصدى له الآن قد يتهم بعدم الإخلاص للدستور ولرجاله، أو
العثمانية وعناصرها، ولا يزال كثير من الكبراء على ما تعودوا في العهد الحميدي
يصدقون التهم وإن كانت سعاية إفك وبهتان، ويرتابون في طالب الإصلاح وإن
قام على صدقه الدليل والبرهان، وكذلك شأن الأمم والشعوب في طور
الضعف والجهل.
أخطأ كثير من المصريين بإساءة الظن بإخوانهم المخالفين لهم في الرأي،
واتهامهم بخيانة الوطن ويقع كثير من العثمانيين في مثل هذا الخطأ وضرره عظيم.
أنا لا أقدر أن أصدق بوجود أحد يريد بأمته أو دولته سوء، ولكن يوجد في كل أمة
أفراد قلائل تغلب عليهم الأثرة حتى إنهم لا يبالون في طلب حظوظهم بالمصلحة
العامة، ويوجد أفراد قلائل يضادونهم فيغلب عليهم الإيثار حتى إنهم لا يبالون
بمصلحتهم الخاصة إذا عارضت المصلحة العامة أو عاقتهم عنها، وأكثر الناس لا
يرضون أن تمس المصلحة العامة بسوء بل يودون حفظها وإن كان أكثر سعيهم
لأنفسهم لا لأمتهم، والذين يتصدون للقيام بالمصالح العامة بالعمل والتعليم أوالكتابة
والخطابة يخطئون ويصيبون ويتفقون في الرأي ويختلفون، ولا يجوز اتهام أحد منهم
بقصد السوء لأمته، وإنما ينبغي أن يتناظروا بالحجة والبرهان، مع اعتراف كل
منهم للآخر بأنه يريد الخير ويطلب الحق، إلا أن يظهر من بعض الناس ما يدل على
اتباعه لهواه في الانتقام من غيره كالبهتان المبين، والتحريف الظاهر، فذلك الذي لا
يناظر ولا يراجع بل يترك للزمان حتى يفضح بهتانه، ويتولى خذلانه، مع بيان
الحق في نفسه، والتحذير من الباطل ورجسه.
لقد كان عجب الناس من خطاب إبراهيم حقي باشا الذي أعرب فيه عن قاعدة
السياسة في وزارته أن يتبع فيها قوله تعالى: {ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: ٩٠) وشاع في العاصمة أنه سيكون من فروع هذه القاعدة طلبه العفوعن
المتهمين بالجرائم السياسية من العثمانيين واستعادة اللاجئين إلى أوربا منهم، ولكن
لم يعجب الجمهور طلبه إعطاء معاش التقاعد لرجال عبد الحميد المنفيين في
(رودس) ؛ لأنه إسراف في الإحسان إلى شر المسيئين، وأعجب من ذلك الطلب
تعليله إياه بأنه لم يثبت عليهم شيء رسميَّا.
على أن سياسة دولتنا أصعب السياسة وأعقدها، فلا ينطبق عليها كل ما ينطبق
على غيرها من قواعد علم الأخلاق وعلم الاجتماع، فنسأل الله أن يوفق رجالها
ويؤيدهم بروح منه؛ ليكونوا مصدر الحياة والخير والبركة لها وللشعوب المكونة
لأمتها، آمين.