للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر [*]
لولا أن اليأس من رَوْح الله مقصور في كتاب الله على القوم الكافرين لقلنا:
كيف يرجى إصلاح حال أمة يعتقد علماؤها أن الإصلاح محال، وأن العمل على
إرجاع مجد الدين عبث وضلال، لأن الزمان فسد والساعة قربت وظهر في الناس
مصداق الأحاديث بغوايتهم وتركهم للدين، ولا يوجد أحاديث أخرى تدل على أنهم
يرجعون إلى هديه. وأن العلوم العصرية حتى الحساب والتاريخ مضلة للأمة صادَّة
لهم عن سبيل الحق مسجلة عليهم الحرمان من السعادة. وأن السعادتين الدنيوية
والأخروية اللتين حث عليهما الإسلام لا تُنالان إلا بدراسة هذه الكتب المطولة في
النحو والفقه، وإن كان أكثرها عقيمًا لا يُصلِح لسانًا ولا عملاً، ولا يقي الآخذ به
زيغًا ولا زللاً، وأن ما سوى ذلك من علوم التفسير والحديث والتهذيب لا ضرورة
تدعو إليها، بل لا حاجة لتعلمها، إذ تقليد الفقهاء هو المحتَّم على كل فرد من أفراد
الأمة، ومن اعتقد صحة حديث نبوي مخالف لقول فقهاء مذهبه وقال: آخذ بالحديث
دون قول الفقيه، فذلك زنديق (نعوذ بالله تعالى) .
وهل يوجد في علماء المسلمين من هبط بدينه وعقله إلى هذه الاعتقادات
والآراء؟ نعم، وإننا لنخجل من كتابة ذلك عنهم ونشره بين الناس، ولكن
الضرورة تلجئنا إلى نشره؛ لأنه أدوأ أمراضنا ومن كتم داءه قتله.
اجتمع بعض الناس بشيخ من أكابر علماء الأزهر وتذاكرا فيما لهجت به
الجرائد من الإصلاح، وأن تعليم الأزهر لا يرجى منه خير للملة كما جاء في بعض
الجرائد الهندية، ونقلته الجرائد المصرية (المؤيد والمنار) فقال (الإنسان) : لا
حاجة إلى تكليف كل طالب للعلم أن يدرس جميع مطولات كتب الفقه، لا سيما ما لا
يتعلق به عمل، كفقه المالكية والشافعية ما عدا العبادات وما في معناها، فمن
الإصلاح في التعليم أن يخصص بعض فقهاء المالكية مثلاً لقراءة المطولات لمن
يرغب في ذلك، وتتوجه همته إليه من الطلاب، إذ هذا الفريق هو الذي يرجى منه
حفظ المذهب وإتقانه، ويقتصر باقي الطلاب على درس الكتب المختصرة أو
المتوسطة بحيث يعرفون الواجب عليهم من ذلك، ويعرفون أساليب الفن، حتى إذا
ما دعتهم الحاجة إلى التوسع فيه أمكنهم ما أخذوه من تحصيل ما لم يأخذوا، وأن
يصرف هؤلاء الوقت الذي كانوا يصرفونه في قراءة مطولات الفقه إلى علم القرآن
والحديث وأخلاق الدين التي هي الفقه الحقيقي عند الله ورسوله؛ لأنها هي التي
يكون بها الوعظ والإرشاد والبشارة والإنذار، قال عز وجل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) .
قال حجة الإسلام الغزالي في هذا المقام ما معناه: ومعلوم أن علم الإجارة
والسَّلَم ونحوه مما يسمونه فقهًا لا يحصل به الإنذار، ولا يرجى به الحذر من أسباب
الشقاء، فليس مما عناه القرآن.
فأجاب (الشيخُ) هذا (الإنسانَ) بما محصله: أن علم الحديث لا حاجة إليه
في هذه العصور ألبتة، أما من حيث الرواية فقد فرغ منه من قرون، وأما من حيث
الدراية فلا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن
ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق (كبرت كلمة هو قائلها)
فتعجب الإنسان وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة المعصوم الذي
يعتقد صحته وأنه قاله ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق عمدًا وخطأ - هو
الزنديق، فقال الشيخ صاحب الكلمة: يجوز أن يكون الحديث الذي يأخذ به ضعيفًا
أو موضوعًا، فقال الإنسان: إنما كلامنا في حديث يعتقد أن النبي صلى الله عليه
وسلم قاله، ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن نبيه قاله لقول أي
إنسان من الأناسيّ.
ومن الغريب أن كثيرًا من الشيوخ يعتقدون صحة قول صاحب هذه الكلمة
الأثيمة وسنبين في الكلام على تقصير العلماء أن هذه الكلمة لبعض المتفقهة الذين لا
يؤخذ بقولهم في الترجيح والتصحيح فضلاً عن الاستنباط أو التشريع، ولم تنقل عن
أحد من المجتهدين (حاشاهم) بل صح عنهم الأمر بالأخذ بالحديث وضرب
عرض الحائط بكلامهم إذا هو خالفه، كما رأيت في العدد الماضي عن الإمام
الشافعي. وكما يقولون تلك الكلمة في شأن الحديث يقولونها في شأن القرآن أيضًا،
وهي أعظم ضلالة وقع فيها أصحاب العمائم الإسلامية، وقد اتبعوا فيها سنن من
قبلهم.
فقد كان الكتاب المقدس عند الأمم النصرانية مقصورًا على رجال الدين، لا
يجوز لأحد أن يتناوله إلا على سبيل التبرك، ومن قال فهمت منه كذا أو أعمل بما
أفهم منه، وإن خالف كلام قسوس الكنيسة وأحبارهم - حكموا بمروقه من الدين،
وهكذا كان شأن اليهود من قبل أيضًا. ومع هذا فإن هؤلاء الشيوخ يفسرون حديث:
(لتتبعن سَنَن مَن قبلكم) إلخ، بما يشتهون، فإذا خاضوا في غيبة الحكام وأبناء
الدنيا قالوا: واأسفاه قد ضاع الدين، وصدق فينا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم
فاتبعنا سنن من قبلنا، فترك حكامنا العمائم والجبب والفرجيات والبوابيج الصفر
ولبسوا الطربوش والبنطلون والجزمة إلخ إلخ، وأكلوا على الموائد المرفوعة بالآنية
الإفرنجية ... إلخ إلخ، فكأن الدين إنما أنزل لبيان الأكل واللباس، ولا يقوم إلا
بذلك، وفاتهم أن النبي عليه السلام لبس الجبة الرومية والطيالسة الكسروية ولكنه لم
يوسع أردانه ويجر أذياله كما يفعلون.
وقد جمح بنا القلم فلنعد إلى المحاورة.
قال (الإنسان) : إذا سلمنا أن الأخذ بكلام الفقهاء متعين وإن خالف الحديث
الصحيح، فهل يفيد ذلك أن الحديث لا فائدة فيه مطلقًا؟ أليست آداب الدين وفضائله
مبثوثة في الأحاديث النبوية؟ ألا يكون المتفقه الواقف على الحديث على بينة من
مذهبه؟ ألا ينبغي له إذا رأى فقهاء مذهبه قد تركوا الأخذ بحديث أن يبحث عن
السبب في ذلك ليطمئن قلبه لقولهم؟ ومن هنا انتقلا إلى البحث في ترقية الأمة
الإسلامية.
فقال الإنسان المشار إليه: إن الدين انتشر بالتعليم والإرشاد، فإذا صلح أمر
التعليم والإرشاد يصلح حال المسلمين ويعود للدين شأنه.
فخالفه الشيخ في كل ما ذهب إليه غير قيام الدين بالدعوة والتعليم والإرشاد
قائلاً: إن الحكومة هي ترقي الأمة وتقويها وبدونها لا يكون في الأمة ترقٍ أو
إصلاح.
فرد عليه بنحو ما كتبناه في إبطال هذا الزعم غير مرة.
ثم قال له: نحن نتكلم في إصلاح شؤون الأمة المِلّية لا الإدارية والسياسية،
فقال الشيخ بعد غض النظر عن كون هذا يُطلب من الحكام أيضًا، أقول: إن الذي
حل بالمسلمين هو مصداق الأخبار الصحيحة، ولا يمكن زواله فهو دليل قرب
الساعة وانقضاء عمر الدنيا (هذا غاية استفادته من علم الحديث، فإن كان كل من
يقرأ الحديث في الأزهر يقع في القنوط واليأس من إصلاح الأمة فنحن على رأيه في
عدم لزومه أو في لزوم عدمه) وأورد عليه حديث: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما
بدأ) .
فقال له الإنسان: إن هذا حجة لي فأنا أقول: إن الإسلام غريب ويعود كما بدأ
بالدعوة والتعليم والإرشاد، فيجب على المسلمين عامة والعلماء خاصة أن يعملوا
على إعادته.
هذا بعض من كل، أوردناه على سبيل الاعتبار بحالتنا والتصديق لما كتبه
العلامة شبلي النعماني مدرس العلوم العربية في كلية عليكره في الهند من أن تعليم
الأزهر لا يرجى منه خير للإسلام إذا بقي على حاله. ولكن لنا الأمل بعلمائه العقلاء
أن يتبصروا ويتدبروا، ويمعن النظر من لم يقف منهم على أحوال الزمان بأقوال من
وقف واختبر ويتعاونوا جميعًا على إصلاح التعليم، ومتى أنصفوا في المذاكرة
تنجلي لهم شبههم التي يحتجون بها على اليأس من الإصلاح، وأن الخير في هذه
الأمة إلى يوم القيامة، وقد ورد أنها كالمطر لا يدرى الخير في أوله أو في آخره،
وسنعود إلى هذه المواضيع إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.