للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ


بحث في الخلاف [*]

ولنوضح لك صورة من كثير صور من شطارة أهل وقتنا الذين هم كما ذكرنا
خير الناس [١] سيرة اليوم فيما علمنا وكيفية تصرفهم فإنه إنما تعد معائب من غلبت
عليه مناقبه.
(كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه)
وضعوا عن زكاة الغنم على كل شاة أربعة دراهم من ضَرْبهم وستسمع الآن
قدرها فتؤخذ على مئتي شاة مثلا ثمان مئة درهم مع أن الواجب شاتان ولم يكونوا
قَبْلُ يعتدّون بنصاب الشاة والبقر ثم ذكروا النصاب لكن تؤخذ قيمة نحو ما ذكر
كالمتعينة لا من عين المال وهذا حق المال الشرعي بزعمهم ولا ندري بأي وجه
تعين ما ذكر من الصورتين ولا كيف تكون الثالثة وكثير من المآخذ له نحو ذلك من
المداخل هذا ما سمعنا في بعض الجهات ويزيد قليلا وينقص كذلك في بعض الجهات
والمقصود التقريب.
هذا حين يريدون الأخذ وأما حين يريدون إنصاف المظلوم من الظالم فيأمرون
بأخذ الدية ألف حرف والحرف عبارة عن أربعين درهمًا في ضربهم وهي تخرج
الدية تقريبًا من الذهب مئة دينار وستين أو سبعين دينارًا فيسقطون نحو أربعة
أخماس الدية، وعلى هذا فَقِس حال خير الناس الذين يجب شكر الله على أن أنعم بهم
نظرًا إلى سائر الأرض، وسألت بعض قضاتهم حسن الخيمي ما هذه الدية التي
تحكمون فيها؟ فقال: قال الإمام: يعني المتوكل إسماعيل بن القاسم إمام العصر:
تكون هذه الدراهم قيمة عن نوع آخر من أنواع الدية يعني لأن أنواعها عندهم كلها
أصول من أهل الإبل والذهب وغيرها على السواء ويخير الجاني عندهم أيضًا،
فقلت للقاضي: تعال ننظر في قيمة تلك الأنواع فنظرنا فما رأيناها إلا متقاربة بالنظر
إلى الأرض التي كنا فيها صنعاء وما والاه وعلى الجملة فإنما ذلك الجواب ترميم
والمسألة مائلة عن السنن كأخواتها في جميع الفرق إنما الغرض التمسك
للتنبيه.
صورة أخرى قليل نَفْعُها لهم كثير ضررها بل بليّة عظيمة على جميع الناس
في وقتنا هذا ضَرْبة فضة من عمل الكفار يسمَّى القروش فأخذت هذه الدولة منها
وضربتها دراهم وخلطوا فيها نحاسًا نحو الربع تقريبًا ليكثر عدده فيربحوا بزعمهم
ذلك القدر الزائد وهي سُنّة اقتدوا بها عن من مضى من الأتراك وغيرهم الذين
يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، لكن لم تر الناس إذ ذاك
المصارفة وزنا لأنه لا يصلح لهم بيع الفضة بالنحاس وهو ربا أيضًا فصارت
الضربة كسائر السلع يرتفع عنها تارة وينخفض أخرى ويبيعون الدراهم بالقروش
بالعد لا بالوزن ففعلوا هذا الباطل وهم يعلمون حين دَعَتْهم الضرورة إلى الصرف ثم
نهاهم الإمام عن الصرف مع إصراره على الضربة وشدة حاجتهم إلى المُصَارفة
فكان عملهم معهم كما قال:
أَلقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تَبتلّ بالماء
ومن مفاسد الخلاف استحلال الأعراض وهو واضح فانظر ما في هذه
المصنفات من العياط والهتور والتكفير بلا دليل، حتى إن الأشاعرة أصلوا أنه لا
يُكفّر أحد من أهل القبلة وإنما الكفر البواح ولا كفر بالتأويل ثم تجد في تضاعيف
كُتبهم المناقضة وكذلك الماتريديّة في كلام إمامهم الأعظم أن لا يُكفَّر أحد من أهل
القبلة، ولم أر التكفير أسهل على أحد ولا أكثر منه في متأخري الحنفية كأنهم
يكفرون بكل إلزام ولو في غاية الغموض، ومنع بعض الناس قريبًا من بعض
مُتفقِّهتهم نعله فقال: كفرت لأنك هوَّنت العلماء وهو تهوين للشريعة ثم للرسول ثم
المرسل ونحو هذا يفعلون في كل شيء، وفعل بعضهم شيئًا من مُنْكرات الدولة فقال
المظلوم: هذا ظلم وحاشى السلطان من الأمر والرضى به، فقال أنا خادم الدولة
المنتمية إلى السلطان فقد نسبت الظلم إلى السلطان فهوَّنْتَ ما عظَّمَتْ الشريعة من
أمر السلطان فكفرت فأخذوه وجاءوا به إلى القاضي وحكم عليه بالردة ثم جدد إسلامه
وفعل ما يترتب على ذلك، وهاتان الحكايتان في مكة عصرنا مجرد مثال ولا تزال
ألسنتهم رطبة بذلك وهو في رسائل المتأخرين وفتاويهم وسائر كتبهم وهي عظيمة
هونها عموم الجهل وكساد الإنصاف، ونَفاق النِّفاق والاعتساف، نسأل الله حسن
الخاتمة لنا ولجميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم رأيت كتاب التمهيد لأبي شكور السالمي من الحنفية وإذا هو لم يكد يسلم منه
أحد من التكفير لأن من أول الكتاب ... إلخ، يقول: قال أهل السُّنة والجماعة كذا،
وقالت الأشاعرة، وقالت الفلانية ولا يزال يحكم بالكفر، كقوله قال أهل السنة
والجماعة إن الله تعالى لم يزل كان خالقًا [٢] موصوفًا بهذه الصفة وقالت الأشعرية
والكرامية: ما لم يَخْلق الخلق لم يكن خالقًا وهذا كفر. انتهى صورة لفظه ومن العجب
أن يسمي نفسه أهل السنة والجماعة في كل محل ثم يعد أفراد الفرق الذين يتسمون
بذلك كالأشعريه وغيرهم، وغيره لم يبلغ هذا الحد بل يقع منهم ذلك نادرًا يقول
بعض الأشاعرة: قال أهل السنة وخالفت الماتريدية أو الحنابلة أو نحو ذلك على أن
ذلك شائع باعتبار التسمية بذلك إنما اخترعها صاحبها ولم يوافقه عليها الخصم ولكل
أن يدَّعي (ولَيْلَى لا تقرّ لهم بذاكا) وهذا المذكور لا أدري ما أقول فيه فإنه يحكى
الأقوال ويجيء بما لا يوجد في أي كتاب ولا هو مما يتركب على الناقل ولا هو
نادر وأما المعتزلة فإنما مدلول المعتزلي عنده من يصح أن ينسب إليه كلما ألقته
الشياطين، أو جالت به وساوس المجانين، فلْيُطالع وعلى الجملة فإكثار الاطلاع
سيما على الكتب المشهورة في كل فرقة يزيد المهتدي بصيرة وطمأنينة في الهدى مع
التوفيق والتسديد، وإخلاص النية للعزيز الحميد.
وأما المعتزلة فهم فريقان وليسوا كلهم يُكَفِّرون بالتأويل كما تراه في كتب
الأشاعرة ولكن صار كل من الفرق يحكى الشر عن مخالفه ويكتم الخير بل يروي
الكذب والبَهْت كما قدمنا وكما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر ترى ذلك
فاشيًا بينهم حتى القُشيري في التخيير شَرَح الأسماء الحسنى وكأنه استند في ذلك إلى
الكشف، وأما النقل فباطل وهو شبيه قذف الغافلات فإن المعتزلة لا يكاد يظن قائلا
يقول هذا إلا شذوذًا مثل المِرِّيسِيّ وضرار وهما بيت الغرائب مع أن ضرارًا ليس
من المعتزلة في روايتهم لأنهم رَوَوْا عنه القول بالرواية بحاسة سادسة ورووا عنه
القول بخلق الأفعال وأنه رجع عن الاعتزال بسبب شبهة أن يكون فِعْل العبد أَشْرَف
من فعل الله تعالى وعلى الجملة فليس شذوذ عن الفريقين بغريب وإنما المنكر إلزام
المعتزلة قوله وإنما هذه المسألة كسائر المسائل بل لا بد فيها من شذوذ كشذوذات
العنبري والظاهرية وهذا شيء كبير يطالعك عليه كتب المقالات ودَعْ عنك
المتكلمين.
ومن المضحكات عند المحدثين أنهم ينقمون على أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه حتى يُجرِّحون من يقول ودَّ أنه معه في كل المواطن كشُرَيْك
القاضي ومن لا يحصى [٣] ثم تراهم يفتون بكفر من لا يساعدهم على نوادر ما عليها
معرَّج ويرون ما المعلوم خلافه لكل من عرف ذلك بلا حياء كما حَكَى الذهبي أن
ابن دِحْيَة قال في يحيى بن نعمان: ضالّ مضلّ عَجَّزَ الله وقال: (نحن أقدر منه)
وهو قول القدرية جميعهم وهذه الجملة الأخرى الظاهر أنها من قول ابن دِحْيَة
ويحتمل أنها من قول الذهبي مع أنه لم يعترضها ومن قال: إنه أََقْدَر من الله فهو كافر
تصريح لا من باب التأويل، ونحو هذا ما حُكي في ترجمة عمر بن إبراهيم العلوي
أنه جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة فلو صدق لكان قد أنكر ضروريًّا من الدين
ولم يعاملوه بذلك وكلماتهم متناقضة إذا تكلموا في غير فنهم وهكذا كل دخيل وليس
لهم في ذلك العناية مع أن قوله جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة يفهم من هذه
العبارة أنها وصف كل من كان جاروديّا فيتسع الخَرْق على الراقع، وكما مضى ذكره
من قولهم من قال: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى فهو كافر وغير ذلك، وكمن
قال في صالح بن حي ذاك الأواه: إنه قد استَصْلَبَ منذ زمان ولم يجد من يصلبه يعني
لأنه يرى الخروج على أهل الجور كرأي الحسين بن علي ثم حفيده زيد بن علي
ومن تبعهم من الزيدية بل وابن الزبير ومن تابعه من فضلاء الصحابة والتابعين بل
طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم إلا أن خطأهم كان واضحًا لأن إمامهم لم
يكن يتشبث به الريب ولقد كانوا فتنة لهذه الأمة كما قال عمار رضي الله عنه:
(واللهِ إنها لزَوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم
هي) فرضي الله عنها وعن طلحة والزبير وعن علي ومن هو من ذلك القَبِيل
كالحسين السِّبْط وزيد بن علي وأبعد الله مَرْوَان وابن جرموز، وابن ملجم والحجاج
ويزيد وابن زياد ومن هو من ذلك القَبِيل أميرهم ومأمورهم. ولعَمْري لمقاصد
أئمة الزيدية في قيامها وسيرها أشبه بالصالحين من السلف لولا دَغَل من الهوى
وغلو فيما يعود على الرياسة وداؤها كمين ما يظهر إلا بعد أن يستحكم وبعد
الاستحكام لا يمكن علاجه كالكلب ولقد دخل داؤها في كل ذي مقصد حتى في الوعَّاظ
الذين رأس مالهم التحذير من الدنيا التي قُطْبها الرياسة، فتيقظْ من الأحوال لما ذكرنا
وغير ما ذكرنا مما يطلعك عليه كتب الجرح والتعديل وكتب السير والأخبار
والحكايات والآثار مع التيقظ في كل باب لزواياه وخباياه.
وليْتهم شفاهم ما في الكتب أعني المختلفين حتى يختص هذه المفاسد من له
اطلاع على الكتب ويسلم مِن ذلك العامة.
ولكن استولى عليهم الشر فصاروا يكررونه على المنابر كل جمعة كأنه
الذي وصّاهم الله بالتذكير به لينفعوا المؤمنين وأمرهم بالسعي إليه فالخارجي يلعن
أمير المؤمنين والرافضي يلعن الخلفاء الراشدين والسُّنِّيّ يسب الشيعي والشيعي يسب
الباغي والجبري وهذه سنة سنية سنّها مَن سنّها في سب علي رضي الله عنه فيالها من
شنيعة ما أخزاها، وفضيحة عمّ بلاها، ولولا أَنْ عَمَّهم الوهن في دينهم لقام أهل كل
جامع حين سمعوها والعجب ممن يُحْسِن الآن لواضعها كأنه يريد أن يشارك فيها
لما تأخر عن وقتها فأخزى الله المحاباة في الدين، والضِّنَّة بالأنفس والأموال والبنين،
ولقد ضاهت هذه الأمة أهل الكتابَيْنِ في قولهم {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى
عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ} (البقرة: ١١٣) وبعضهم يقول في بعض فوق ما ذكرنا والإنصاف أن الحق لم
يخرج عن أيديهم جميعًا والحمد لله فعند كلهم كل الحق، وكل قد ابتدع وإن اختلف
قلة وكثرة وصغرا وكبرا ومن يطلب الحق وقد هيَّأه الله ويسَّره يعرف هذا من ذلك
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: ٢١٣) .
ومن مفاسد الخلاف سدّ باب الجهاد لأعداء الإسلام مع أنه فرض كفاية وهو
سَنام الدين، ولا انقطاع له إلى يوم الدين ولما استحكمت العداوة بين فرق المسلمين
تركوا الكفار وصرفوا هممهم في حرب بعضهم بعضا، وإنما استحكم ذلك من حين
استحكم التفريق وصاروا أجنادًا مجنَّدة وقد كان في الدولتين حين كان السلطان واحدًا
جهاد الكفار مستمرًّا مع عدم استقامة الخلفاء على الحق، ولكن كم بين تلك الأحوال
وهذه الأحوال لو يستطيع أحدهم اليوم أن يستعين على خصمه من المسلمين بالكفار
لَفَعَلَ [٤] وليتهم تصالحوا على أن يأمن بعضهم بعضا ويشتغل كل منهم بمن يليه من
الكفار ويستعين بعضهم ببعض ولكن ذاك لو كان المراد مطلوب الله منهم ولو اتبعوه
لكانت يدهم واحدة كما قدمنا، نعم مَنْ اتصلَتْ مملكته بالكفار حفظها منهم كحفظه من
مخالفه المسلم وهذا نوع من الجهاد ولكن المطلوب صرف هِمم المسلمين لحرب
الكفار والغزو وإن لم يخشوهم إلا من باب حفظ الملك ولكن عداوة في الله ولتكون
كلمة الله هي العليا في جميع أرضه وهذا هو الفرض الذي لا يَسُوغ الاجتماع على
تركه.
ومن مفاسد الخلاف سدّ باب التفقُّه في الدين ومعرفة الكتاب والسنة حتى
صار المتشوِّف لذلك مُتَّفقًا على جنونه وخذلانه عندهم ويصرحون أن الاجتهاد قد
استحال منذ زمان، وإنما دسَّ لهم الشيطان ذلك لأنه لو بقي الباب مفتوحًا لوقع
لمتأخري المجتهدين أن يوافقوا هذا في مسألة وذاك في أخرى ويصير لبعضهم أتباع
فينتقض عليهم استقرار المذاهب ويختلط الأمر حتى يعود كما كان في وقت الصحابة
رضي الله عنهم، وهذا يقرر مَغْزَى الشيطان لعنه الله تعالى قد دس لهم ذلك.
ومن لم يصرح بذلك فعَمَلُهُ عليه تراه يدأب أكثر عمره في العربية وأصول
الأدلة ومعرفة الحديث ثم إذا صار مدرسًا متمكنًا في تلك الفنون أخذ في كتب التفاريع
المدونة من الباب الذي دخله الجاهل بتلك الفنون وكأن الكتاب والسُّنة مع هذه التفاريع
أجنبية لا تتراءى نيرانهما ولو نظر في شيء من الأدلة ووقع في نفسه شيء ما ينبغي
أن ينظر فيه لَمَا قدر على التظاهر بذلك لأنهم يقومون عليه ويردون ما جاء به بلسان
واحد ويقولون هذا يَنْقِم على الأئمة ويخالفهم يرى نفسه خيرًا منهم، وأقل أحواله معهم
أن يسقط جَاهُهُ عندهم وحرموه هذه الأرزاق وإن كان له ضدّ منافس قد يسعى به
إلى الدولة يقضون فيه على حسب ما يقضي الهوى في القضية حتى إن السُّبْكيَّ ذكر
أنه نظر في مسألة السماع فرآها حلالاً ثم قال: الحمد لله الذي جعلنا من مقلدي إمام
إذا تاقت نفوسنا للنظر في مسألة لم تقع إلا على قوله فانظر هذه الكلية التي تدل على
عراقة هذه التحرير في الكمال والدين.
وكذلك ذكر أن الذين بلغوا درجة الاجتهاد من علماء الشافعية مع عدم المخالفة
ليسوا بمقلِّدة إنما وافق اجتهادهم اجتهاده، قال: ولا يخرجهم ذلك عن الانتساب إلى
الشافعي فانظر طبقات المذكور ترى فيها العجائب ومن فعل نحو فعله صار وجيهًا
عند أهل ذلك المذهب في حياته وبعد موته وأما من قال: أنا أتَّبع هذه الآية وهذه
السنة وإن خالفت الإمام فذلك المتخبِّط المدعي الذي لا يُرْفع إلى كلامه رأس
بل يُنهى عنه وعن كتبه وهذا في جميع هذه الأحزاب المحزَّبة فصار الباب مغلقًا،
حتى صار المعروف منكرًا، وذِكْر التعلق بالكتاب والسُّنة وترك المذاهب المنبوذة
كالزندقة عندهم خلا أنهم لا يقولون الكتاب والسنة هو الضلال خشية أن يكون كفرًا
بواحًا ولكن يقولون قد انسد باب معرفتهما وما عرفوا أنه إذا انسد باب معرفتهما فقد
سقطت حجتهما فوجودهما وعدمهما على السواء ولكنهم لا يعبؤون بهذا، ويقولون قد
أخذ ثمرتهما الأئمة وفعلوا ما يجب فالحجة اليوم كلامهم لا غير، وصارت تلاوة
الكتاب مجرد تعبد والحذر أن يتدبره التالي فيخالف الأئمة فيضل وكذلك السنة إلا أن
قراءتها بركة وربما يتحصل لهم بذلك مراتب دنيوية ووجه في الناس وإلا كان فعلهم
مجرد عبث.
وهذا الذي وصفناه من يظن ولم يعرف حال الناس ما يسوغ له أن يقع هذا أبدا
ومن عرفهم علمه ضرورة فذِكْرنا لنحو هذا مجرد إنكار فمن يجهله لا يصدقه في
علماء الإسلام الذين طبَّقوا الأرض ومن يعرفه يقول وما ثمرة هذا الهذيان؟ وهيهات
ليس الشأن في معرفة ذلك من أحوالهم إنما الشأن في السلامة من الوقوع معهم فإنا
رأينا الفضلاء فعلوا كما ذكره صاحب (كليلة ودمنة) من شأن السلطان ووزيره في
(شرب الماء) فهذا هو سدّ باب التفقه في دين الله لأن دين الله الكتاب والسنة والفقيه
إنما هو من عرفهما وأما معرفة هذه التفاريع فمجرد استغناء عن عين الحكم فالمسمى
بالمفتي والحرَّاث والسوقة سواء إذ أولئك لا يخلون من أحكام قد قلدوا فيها فما زاد
عليهم هذا المفتي إلا بكثرة الصور التي جمعها وليست من الفقه في كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء ألا تراه معترفًا أنه لا يقدر على معرفة النسبة
بين ما عنده وبين الكتاب والسنة.
وأعجب مما ذكر أنهم جروا على هذا النمط فيما بين المتقدم والمتأخر
فيعتبرون المتأخر ويطرحون المتقدم عصرًا فعصرا إلى يومنا هذا مثلاً لو قال
المنتسب إلى الشافعي من الطلبة قال الشافعي لسخروا منه وقالوا يرى نفسه أهلاً
لمعرفة قول الشافعي [٥] بل لو قال قال الرافعي وإنما المصرية منهم اليوم مقصورون
على (الرملي) يقولون لا يجوز الإفتاء بغير قوله، ويقولون أخذ علينا العهد بذلك،
لا ندري أي الأباليس أخذ عليهم ذلك لكنا سمعنا ذلك منهم، وأهل مكة يقولون لا
نعدل بقول ابن حجر الهَيْتَميّ فصار شأن العلماء المتقدمين وكتبهم كشأن الكِتَاب
والسُنَّة، ولذا ترى تلك الكتب مهجورة. لقد وجدتُ في باب السلام أربعة عشر مجلدة
عرضها صاحبها بثمن مجلدة صغيرة من المحظية مع أن في تلك مثل (العزيز)
شرح الوجيز، ثم لم تَنْفُق وأرجعها الدلال لصاحبها وهذا في الشافعية آكد منه في
غيرهم وكل قد فعله حتى سمعنا من بعض الطلبة أنه لا يجوز العمل على قول
المتقدِّم لأن المتأخر قد ميز الصواب من الخطأ.
ونقول لهم لو خلقكم الله سبحانه في العصر المتقدم عليكم وأنتم على الحال
الذي أنتم عليه الآن أكانت حجة الله عليكم قائمة عليكم؟ فلا تراهم يجيبون إلا بنعم
فنقول ننتقل معكم إلى العصر الذي قبل كذلك حتى نبلغ إلى عصر الصحابة ثم إلى
عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون بالحق ويصرون إلى ذلك الحال
المألوف بمجرد الهوى وكأنه لم يسمع، وكأنك لم تقل، ونقول لهم هل المتأخر
أفضل من المتقدم حتى رجحتم اتباعه؟ فيقولون: بل المتقدم أفضل، فنقول فقد
عدلتم عن الأفضل، وقد يقول أحدهم إنما هو استقصار لنظرنا عن معرفة قول
الأول فنقول لا فرق بين كتاب وكتاب وليس من اللازم أن المتأخر أجلى بيانًا
وأوضح عبارة وبرهانًا بل لا يزالون مختلفين وكلام الله ورسوله أصح وأوضح،
وأجلّ وأجلى وأشرح، وإذا بلغ عجزكم إلى ما ذكرتم قلنا يا أغبى الناس، وأدناهم،
ثم لا نسلم لكم معرفة كلام أحدث المصنفين، ولا كلام أشياخكم المدرسين، على قدر
ما اعترفتم به على نفوسكم من سوء الحال، وسقوط الشأن وضيق المجال، فاتقوا
الله في هذه الصحف والأقلام، والمساجد التي صدعتموها بالخصام، ولكم بباقل
أسوة في شعره، فلقد كان أعرف منكم لقدره، حيث يقول مترجما عن عذره
يلومون في حمقه باقلا ... وللصَّمْت أجدر بالأموق
خروج اللسان ومد البنان ... أحب إلينا من المنطق
وهذا باعتبار شبيه قول الإمامية: غير المعصوم يجوز عليه الخطأ، قلت
لبعضهم: فهل المعصوم حاضر أبدًا عنه المكلف لكلما عرض عليه كي يصونه عن
الخطأ؟ قال: لا بل لا بد من واسطة غير معصوم، قلت: فإذًا ذلك مسلم
والمعصوم موجود هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدل هذا الدليل مع تسلميه
إلا على معصوم واحد لا على ثلاثة عشر معصومًا فانقطع ويناسب هذا المحلّ قولي:
بَرئتُ من التمْذهُب طول عمري ... وآثرتُ الكتاب على الصِّحاب
ولي في سُنّة المختار صلى ... عليه الله ما يشفي التهاني
ومالي والتمذْهُب وَهْوَ شيء ... يروح لدى المُماري والمُحابي
وأما مَن يريد الحق صرْفًا ... ويُوجِل قلبه ذِكْر العقاب
ويرجو حسن عُقْباه إذا ما ... تميَّزت المنازل في الثواب
وفيه هِمّة عاقت وتاقت ... سقوط الشأن أو حسن المآب
وقد رُزق الحياء فلا يسوّي ... برب العالمين بني التراب
فلا والله لا يرضى صنيعًا ... أباه كل مَنْ تحت السحاب
لئن أبقى الإلهُ لهم صوابا ... لقد ضلّوا كثيرا عن صواب
رضيتُ لهم من الوجه الذي لم ... يخلّ من الشريعة بالنِّصاب
وأثري من سوى هذا فإني ... أرى إنصافهم شَيْب الغراب
لعَمْري إنما حاولت أمرًا ... بعيدًا عن شكوك وارتياب
ولكن حبهم حَلْوى هواهم ... أذاقهم الإصابة طعم صاب
فلم تر من يسدد سهمه في ... حيال الحق في رجع الجواب
وغاية أمرهم لَغَط وبَهْت ... ورفض للمروءة والعتاب
يقولون ادعى أمرًا عظيمًا ... يكاد لديهم يدعى بصابي
وقالوا ليس يعرف من إمام ... مقامًا وَهْوَ للإنصاف آبي
لئن كنتم غَلَوْتم في إمام ... وما هبتم مفارقة الكتاب
تبرّضْتم ثِمادا ثم قلتم ... تجنّبْ وارد البحر العُباب
وقلتم قد حُجِبتم أن تنالوا ... بدون إمامكم فَهْم الخطاب
فمن ذا بالفلاح أحق منا ... ولم يُر دون فهم من حجاب
وقلنا حُجة الرحمن فينا ... إلى يوم القيامة والحساب
ولو لم يخلق النعمان أو مَنْ ... يضاهيه من العُلَما النِّجاب
ولكن ذا الكتاب وذا حديث من ... النبي وذا اللسان بلا استراب
ويستفتي الذي قصرت يداه ... بغير تحزب وبلا انتساب
كأعراب زمان الصحب كانوا ... وأعلام سُقُوا صَفْوَ الشراب
ومن مفاسد الخلاف ترك الجمعة والجماعة وهما من شعار الإسلام أما الجمعة
فلكثرة التحكم في شرائطها وإنما هي صلاة من الصلوات أقرب ما يشترط فيها اتحاد
الجماعة لأنها شرعت لاجتماع المسلمين في هذا اليوم وكانوا يعطلون مساجد
الجماعات لها وهذا أمر فرضي في مصر اليوم يصلون في المساجد بلا تقيد بقيد
حتى أن الشافعية يصلون الجمعة ثم يصلون الظهر على الإطلاق ورأيت مصريًّا
في مكة فرغ من الجمعة ثم قام فصلى الظهر فقلت ما هذا فقال: أنا شافعي مذهبنا
نصلي الجمعة ثم نصلي الظهر فقلت: لعل ذاك في مصر لتعدد الجمع على غير شرط
التعدد وهاهنا ليس إلا جمعة واحدة فاستفاق فليت شعري لِمَ لَمْ يصلوا الجمعة في مكة
أربع مرات كسائر الصلوات نظرًا إلى أساليبهم المخترعة ولعل ذلك يكون بعدُ إن
تمادى نزول عيسى عليه الصلاة والسلام فتساهلوا في هذا الأمر الواضح وحافظوا
على ما ليس كذلك كاشتراط إمام عادل كزعم بعضهم أعني السلطان أو اشتراطه
ولو جائرًا أو اشتراط أربعين أو مِصْر جامع أو نحو ذلك مما اتفق وقوعه في
زمنه صلى الله عليه وآله وسلم من دون دليل على الاشتراط وهذه أمور مطولة في
الفروع والمقصود أن الخلاف هو الذي عطل الجمعة ولم يكن ذلك في عصر
الصحابة رضي الله عنهم ولقد صلوا خلف الحجاج ولله دَرُّ عثمان رضي الله عنه
وأرضاه وقد قيل له: أنت إمامنا ويصلي للناس اليوم إمام بدعة؟ يعني أيام حصره
فقال رضي الله عنه خيار أعمالهم الصلاة إن لم يقتدوا بهم فيها فبم يقتدون؟ أو كما قال رضي الله عنه.
ولقد غَلَتْ الزيدية حتى حرموا حضور صلاة الجمعة في بلد السلطان الذي
ليس على شرطهم وقالوا لا تصح الصلاة ويعيد الظهر بل قال قائلهم: ويُنْقض وضوء
الخطيب للمعصية لأن بعض المعاصي عندهم ينقض الوضوء وما شئت من غلو.
وكذا اشتراط الأربعين عند الشافعية وتراهم في البلدان الصغار يَعدّون الجماعة
كما يعدُّ الغنم، شيء لم يؤنس في السلف ولا متشبث إلا آثار ضعيفة وتركت
الجماعة لذلك في غير المجامع الكبار ولم يكن شيء مما تشبثوا به يصلح لتخصيص
كتاب الله تعالى وأعجب منه اشتراط المسجد مطلق أو المسقَّف كقول المالكية
وسائر شرائطها مما ينبئك ويلزمك إن كنت ذا همة أن لا تعدل بكتاب الله وسُنة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يصلح مقصدًا للمتمكن أن يَجْمع ما وَضَحَ أنه بدعة في الفروع في كل
فرقة فينجِّي من ذلك التصنيف الكثير وما باب من أبواب الفقه إلا تعصبوا فيه أو لم
يتعصبوا لكن بنوا على أصل منهار ثم فرعوا فروعًا وطال الدليل إلى أن تصير تلك
الفروع - سِيَّمَا الأبْعَدُ - إلا نزل في عداد الأجنبية ثم لم يلتفتوا إلى النظر في
الأصل المبني عليه فإنه لو كان صحيحًا ما أدى إلى الأمور المستشنعة لكن يصممون
إلى أن يخرج أحدهم عن الجماعة ويخرج خصمه في الباب الآخر تحقيقًا لشر
الخلاف وإظهارًا لعظم المفاسد فيما نهى الله سبحانه عنه ويراها مسألة فرعية سهلة
ويقولون مسائل الاجتهاد أمرها هيِّن إنما الشأن في العقائد وهذا من اصطلاحاتهم
وربما تكون تلك العقيدة التي رفعوا شأنها ليست من الدين لا إثباتًا ولا نفيًا ولا
يظهر لها مفسدة وتلك الفرعية السهلة قد صارت مفسدتها من أعظم المفاسد وهاك مثالا من ذلك.
فمما استعظموه من العقائد أن الإنسان إذا أراد أن يكلم زيدًا وجد لنفسه حالة لم
يكن قبل إرادة التكلم ولا بعدها وهذا القدر متفق عليه فقالت الأشاعرة: هذه حالة
مستقلة فينا وهي في البارئ صفة مستقلَّة كذلك ونسميها الكلام ثم نعبر عنها بالألفاظ،
وقالت المعتزلة: الذي يجده الإنسان إنما يرجع إلى علمه بمعنى ما سيكلم به زيدًا
وترتيب اللفظ الدال عليه مع علمه بالقدرة على ذلك وإرادة التكليم فليس ما نجده
بصفة مستقلة ومدلول كلَّم وتكلّم في اللغة فعل الكلام والتكلم وهو اللفظ فقط وإطلاقه
على ما في النفس مجاز، فقط كسائر الملكات فلا صفة للبارئ تعالى نفسية تسمى
كلامًا إنما كلامه فعله فمعنى تكلم خلق الكلام في جسم من الأجسام وإنما قالوا في جسم
لأن الكلام عَرَض لا بد له من محل والبارئ تعالى ليس محلاًّ للأعراض فتعيَّن اشتراط
المحل عندهم والكلام على هذه الصفة في البارئ تعالى وغيره من
فضول الكلام ومعنى تكلم في اللغة معروف فلنقتصر عليه لا سيما في حق البارئ
تعالى، ونقول تكلم حقيقة لغوية ولم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم على غير هذا
فانظر هذا الذي طبق الأقطار هل هو من الدين في شيء إن كنت ممن جعله الله أهلاً
لذلك.