للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رِحْلة القسطنطينية
أو إقامة عام في عاصمة الإسلام

علم قرَّاء المنار كافَّةً سبب رحلتنا في أواخر رمضان من العام الماضي إلى
هذه العاصمة، وشيئًا من خبر عملنا وسعينا فيها، أَمَا وقد عدنا منها إلى مصر في
أوائل هذا الشهر، فإننا نذكر لهم ملخص ما بلغ إليه السعي.
مسألة العرب والترك:
أشرنا في أول مقالة كتبناها عن الانقلاب العثماني عند حدوثه إلى العقبات التي
يُخْشَى أن تعوق سير الدستور، ومنها تعصُّب العناصر العثمانية لجنسياتها، وقد
وقع ما توقعنا، فقد قام كل عنصر يسعى لتقوية عنصره. فأما اليونان والبلغار
والأرمن فلا تسأل عما قالوا أو فعلوا، ولا تعجب مما اقترحوا وطلبوا، على أن
الأرمن أُعْطُوا حتى رضوا، ولا سبيل إلى مرضاة قوم لهم دولة تنازع الدولة العلية
في أملاكها، وتطمع حتى في عاصمة ملكها، وأما الأَرْنَؤُود والكرد والجركس فقد
قاموا يسعون لتدوين لغاتهم، وترقية أجناسهم، ولكل منهم في العاصمة أندية
وجمعيات، وأما العرب فأسسوا عقب الانقلاب جمعية سمَّوْها جمعية الإخاء العربي،
فكنت أنا وكل من أعرف من العرب والعثمانيين في مصر وسورية كارهين
لتأسيسها، ولما زرت سورية كنت أنفر الناس منها , ثم ألغيت؛ لأن الرأي العام
العربي لم يأخذ بيدها؛ لأنه لم يكن يحب أن يعمل عملاً ما في الدولة باسم العرب،
ذلك بأن رأينا أن بقاء الدولة يتوقف على اتحاد الترك بالعرب فيها. ولكن قام بعض
أصحاب الجرائد التركية في الآستانة بالدعوة إلى الجنسية التركية وحفظ السيادة
للعنصر التركي، والتنفير من العرب ودعوة الترك إلى الاستغناء عن اللغة العربية،
حتى عن القرآن العربي بترجمته إلى اللغة التركية، وبتطهير التركية من الألفاظ
العربية، فتألم العرب من هذه الأقوال، وزادهم تألمًا أفعال أخطأت فيها الحكومة،
بيناها في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة التركية
والعربية، فلا نحب إعادتها.
رأينا الحديث قد كثر في هذه المسألة، وتناولتها أقلام الكتاب والشعراء،
فخِفْنا أن تعم وتصير مقررة عند العامة؛ فيصعب نزع سوء التفاهم، ويتعسر ما
نحب من الاتحاد والاعتصام، فكان أول سعينا في الآستانة موجهًا إلى إزالة سوء
التفاهم بين العنصرين، فكتبنا تلك المقالات الست، واخترنا لنشر ترجمتها بالتركية
جريدة إقدام؛ لأنها كانت من الجرائد التي آذت العرب بعصبيتها الجنسية،
عسى أن يزول ذلك بما ننشر فيها، ثم كان أول من كلمناه في ذلك هو الصَّدْر
الأعظم، فاعترف لنا بأن الحكومة والجمعية أخطأتا في بعض تلك الأمور، قال: ولكن ليس هنالك سوء نية وأنه سيتدارك ذلك بالفعل، وكلمت في ذلك أيضًا محمود
شوكت باشا وناظر الداخلية وغيرهما من الكبراء، وقد اتهمني بعض النابتة
العربية في أول الأمر بمصانعة الترك أو الحكومة، ثم بَلَوْني وخَبَرُوني وعلموا أني
مخلص فيما أوافقهم وفيما أخالفهم فيه؛ وبذلك تيسر لي أن أقنعهم بما اقتنعت به
بعد طول اختبار الآستانة ورجالها، وهو أن العرب والترك عنصران يكوِّنان
حقيقة واحدة؛ كالعنصرين المكوِّنين لحقيقة الماء أو الهواء، وأن الإسلام قد ألف
بينهما هذا التأليف، وزادته مصلحة بقاء هذه الدولة بهما، والخطر عليها من
تفرقهما، وأن الذين تحاملوا على العرب واللغة العربية من المتفرنجين مختلفو
الأصول؛ فنمنهم مَنْ أصله تركي ومنهم من أصله عربي، ولعلنا لو بحثنا عن
أنسابهم لوجدنا أكثر آبائهم من الروم والأرمن واليهود والنور، وأنه لا يجوز لأحد
من العرب أن يجعل ذنبهم ذنبًا للعنصر التركي، ولا أن يحمل سعي الترك لترقية
شعبهم منافيًا لأخوة العرب، ما دام خاليًا من العصبية الجنسية، كما لا يجوز لطلاب
ترقية العرب أن يقصدوا بذلك إلا التمهيد للاتحاد بالترك، والقيام معهم بتأييد الدولة
وإعزازها، هذا هو رأيي الذي وافقني عليه العقلاء من الترك والعرب في العاصمة
وإن كان يوجد فيها من المتعصبين المبغضين للعرب الذين يسترون بغضهم
بأماديح النفاق من يحرِّف كلامنا في التوفيق والتأليف عن مواضعه؛ لينفروا إخواننا
الترك منا، والله من ورائهم محيط وقد تداركت الحكومة بعض خطئها بإلغاء ما
كانت أمرت به من وجوب جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية باللغة التركية،
وعدم قبول ما يقدم إلى الحكومة من شكوى وغيرها باللغة العربية، كانت شرعت
في هذا وذاك، ثم علمت بتعذره وبسوء أثره فمنعته، ثم إنها عينت في مدارسها
الإعدادية عشرة معلمين للغة العربية وذلك فاتحة خير إن شاء الله تعالى.
مشروع العلم والإرشاد:
هذا هو المشروع الأعظم الذي هو المقصد الأول لي من الرحلة، بل من
الحياة كلها، وهو إذا نفذ يقوي الرابطة والأخوة بين العرب والترك وبين غيرهم من
المسلمين كالأرنؤود والكرد، بل يؤلف بين المسلمين وغيرهم من الملل كما يقتضي
الإسلام؛ لأن كل ما أتصوره وأدركه من إصلاح حال المسلمين محصور فيه؛
ولذلك كان جل السعي أو كله في هذه السنة لهذا المشروع، وبعد العناء الطويل
والمراجعات الكثيرة واللجان المتعددة التي عقدت للمناقشات فيه وُفِّقنا لتأسيس جمعية
العلم والإرشاد كما عرف القراء، وقد وافقت الحكومة على تأسيسها رسميًا، وعرف
القراء مما نشرنا في الجزء السادس أن من أعضائها المؤسسين موسى كاظم أفندي
الذي صار بعد التأسيس شيخ الإسلام للمملكة ورئيس الشرف للجمعية، ومنهم
مستشار المشيخة والرئيس الثاني لمجلس المبعوثين، ورئيس كتاب مجلس الشورى
وغيرهم من خيار رجال العاصمة، فليراجِعْ مَنْ شاء أسماء وقانون الجمعية في ذلك
الجزء من منار هذه السنة.
بعد التصديق الرسمي على نظام الجمعية توسلنا بمولانا شيخ الإسلام إلى
الحكومة؛ لتقرر لنا ما وعدتنا به من المساعدة المالية لتأسيس مدرسة (دار العلم
والإرشاد) . فكتب أحسن الله جزاءه مذكرة للصدر الأعظم بعد مذاكرته في ذلك
والاتفاق معه، طلب فيها: أن تُعْطَى جمعية العلم والإرشاد ثلاثة آلاف ليرة؛ لأجل
تأسيس المدرسة المذكورة في نظامها الأساسي، وأن يقرر مجلس الوكلاء جعل
نفقات هذه المدرسة بالغة ما بلغت في ميزانية نظارة الأوقاف من ابتداء السنة المالية
القابلة، فوضعت مذكرة الشيخ موضع المذاكرة في مجلس الوكلاء الخاص، فقرر
المجلس قبول المذكرة والموافقة على المبلغ المطلوب، واستحسان نظام الجمعية،
إلا أنه ذكر في صورة القرار الذي بلغ مقام الصدارة إلى المشيخة ونظارتَيْ الأوقاف
والمعارف؛ أن المجلس استحسن أن يعبر عنها (بانجمن علم وإرشاد) بدل
(جمعية العلم والإرشاد) ، وأن تكون المدرسة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام.
بلغنا شيخ الإسلام قرار مجلس الوكلاء، فاجتمع مجلس إدارة الجمعية يوم
الجمعة (١٩رمضان -٢٣سبتمبر) للمذاكرة فيه، فقرر الاعتراض على جعل
المدرسة تحت مسئولية شيخ الإسلام؛ لأنها تكون بذلك رسمية، وقد بلغ الكاتب العام
للجمعية شيخ الإسلام ذلك كتابة، وتكلم معه في وجوب جعل المدرسة خاصة بالجمعية
خالية من الصفة الرسمية، فوافق الشيخ على ذلك ووعد وعدًا مؤكدًا بالكتابة إلى
الباب العالي بوجوب تعديل قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة مما يطلقون عليه
اسم (المكاتب الخصوصية) ، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد بعض أعضاء الجمعية
بالكتابة إلى الباب العالي بذلك، وصرح بأن جَعْل المكتب ذا علاقة بالحكومة ضار،
وأنه خلاف ما كان اتفق عليه، ولماذا يكون ضارًّا؟
صرحنا في المادة الثالثة من نظام الجمعية الأساسي؛ بأن هذه الجمعية لا
تشتغل بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية ولا سياسة غيرها من الدول،
ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده، ونص المادة الثانية المبينة مقصدها هو:
(المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم
الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار
السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين) .
فالمراد من الجمعية ومدرستها الكلية هو الإصلاح الديني الاجتماعي؛ أي إنارة
عقول المسلمين النافعة بالعلوم النافعة، وتربية نفوسهم تربية صالحة؛ ليعلموا كيف
يعمروا دنياهم، مع حفظ دينهم ذي الآداب العالية أن ينال منه الخراب، ويدخل في
ذلك اقتباسهم لِمَا لا بد لهم منه من المدنية العصرية وفنونها وأعمالها، فإذا دخلت
السياسة في مثل هذا العمل أفسدته، ولا شك أن الدول الأوربية تعدُّ جعله تحت إدارة
شيخ الإسلام عين السياسية، وتتهم الدولة بأنها تريد به تهييج التعصب الإسلامي؛
لأن شيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس وزراء الدولة، وإذا قاومت أوربا هذا
المشروع لا يثمر الثمرة المطلوبة، ولا تُتَّقى مقاومة أوربا إلا بجعله في معزل عن
السياسية والحكومة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الذين اكتشفوا الأشعة التي تخترق الكثائف
حتى يُرى ما وراءها، ووضعوا المناظير المكبرة التي يرى بها ما لم تكن تَرى مثله
زرقاء اليمامة، لا يسهل على أمثالنا في ضعفنا وجهلنا أن نخدعهم، وإذا كان هذا
العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية؛ لا يمكنهم أن يعترضوا عليها
اعتراضًا رسميًّا، وإذا كان هذا العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية
لا يمكنهم أن يعترضوا عليها اعتراضًا رسميًا، وإذا اتهموها بالسياسة باطلاً سهل
عليها مع الصدق والإخلاص إقناعهم ببراءتها، كما وقع للجمعية الخيرية الإسلامية
بمصر، اتهمت بالسياسة ومساعدة مَهْدِيّ السودان على الحرب ولكن لم تلبث أن
ظهرت براءتها بإخلاص رجالها.
هذا هو رأيي ورأي محمود شوكت باشا، ذكره لي قبل أن أذكره له، ووافق
عليه شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهو رأي أعضاء الجمعية المؤسسين أيضًا؛
ولأجل هذا يسعون في تعديل قرار مجلس الوكلاء، ولولا هذا لوافقت ناظر الداخلية
أولاً وشيخ الإسلام أخيرًا على جعل نفقات المدرسة من المالية دون الأوقاف،
ولكنني ما زلت أراجع في ذلك من أول السعي إلى آخره؛ إذ قال لي شيخ الإسلام
في يوم الإثنين ١٦أو ١٧شعبان (٢٢أغسطس غ) : إن الوكلاء الفخام يرون من
المناسب أن تكون نفقات المكتب السنوية في ميزانية العلمية (التابعة للمشيخة
الإسلامية) وأنا أرى ذلك؛ لأن هذه خدمة دينية من جنس خدمة المشيخة، فيحسن
أن تكون نفقتها تابعة لها، فما تقول أنت يا عزيزي؟ (قلت) : ما ترونه حسنًا فهو
حسن، ولكني لا أزال أرى أن تجعل نفقات مكتبنا في ميزانية الأوقاف؛ حتى لا
يكون للمشيخة وجه للتداخل في أمره؛ إذ الأَولى أن يكون مستقلاً تمام الاستقلال دونها
إلخ ما قلته ووافقني عليه، بل قلت لغيره من العظماء: لولا أنني خشيت أن تسيء
الدول الظن بالمشروع لاقترحت أن يكون في الحجاز أو في مصر، وأقول: الآن
إذا لم يعدل مجلس الوكلاء القرار كما وعد شيخ الإسلام وناظر المعارف،
فالمسلمون لا يستغنون عن جمعية أخرى كهذه الجمعية، يكون مركزها
مصر؛ لأن جمعية الآستانة لا تأتي بالفائدة المطلوبة إذا كانت رسمية أو شبه
رسمية.