للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجمعية العلمية في الآستانة
كان تأليف الجمعيات ممنوعًا في البلاد العثمانية في العصر الحميدي المظلم،
بل كان لفظها ممنوعًا أيضًا، حتى كاد يمنع الاجتماع للعبادة بغير مراقبة، كما منع
لغيرها ألبتة، وقد بينا ذلك في المجلد الثاني عشر، ولهذا اندفع العثمانيون بعد
الانقلاب إلى تأليف الجمعيات كما هو شأن الناس في الممنوع إذا أبيح بعد التشديد
في منعه، فألفوا جمعيات كثيرة بأسماء مختلفة لمقاصد مختلفة، ولبعض تلك
المقاصد أصل ثابت، وبعضها نشأ عن وَهْم عارض، ولما زرتُ سورية بعد
الانقلاب، رأيت في كل من بيروت وطرابلس ودمشق جمعية تسمى (الجمعية
العلمية) ، ألفها أفراد من صنف العلماء المسلمين، ولم يكن بينها صلة، وربما كان
بعضها تقليدًا، وقد سمعت يومئذ عن جمعية دمشق؛ أن الغرض منها حفظ جاه
مؤسسيها ومقاومة رجال الدستور؛ ولذلك لم يُدْخلوا فيها خيار العلماء الأحرار
العاملين، مهما قيل فيها وفي غيرها وسواء صح أو لم يصح، فلا يمكن أن يدعي
أحد أنها عملت شيئًا لخدمة العلم أو الدين.
ولما زرت الآستانة في العام الماضي، سمعت أخبارًا متعارضة عن الجمعية
العلمية التي أُسست فيها، وكنت قد سمعت قبل ذلك أنها جمعية جمود؛ تعارض كل
إصلاح ديني أو غير دنيي، إذا لم يقم عندها دليل من فقه الحنفية عليه، وأن
مجلتها (بيان الحق) أُنشئت لهذا الغرض، فهي ترد على المجلة التركية
الإصلاحية (صراط مستقيم) التي يكتب فيها محبو الإصلاح كموسى كاظم أفندي
(شيخ الإسلام الآن) وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وأضرابهما من شيوخ
الآستانة وشبانها المحبين للإصلاح، وبلغني أيضًا أنها ردت على المنار في مسألة
الاستقلال والتقليد، بل كان شاع أن علماء الآستانة هم الذين أوقدوا نار فتنة ٣١
مارث أو ١٣ إبريل، المشهورة، وأن الحكومة الدستورية قتلت كثيرين منهم.
لهذا الاختبار والإشاعات كانت صورة الجمعية العلمية في ذهني غير جميلة
عندما جئت الآستانة، واتفق أن سمعتُ من بعض أكابر رجال السياسة هناك شكوى
من جمود العلماء وتعصبهم، حتى قال لي من لا أسمي منهم: إن مشروعك الذي
جئت لتأسيسه هنا لا يخشى عليه إلا من العلماء، فإنهم هم العقبة في طريق
الإصلاح، ولهم نفوذ عظيم لاتباع العامة لهم، ثم إنني علمت بعد طول الاختبار أن
كثيرًا مما كنت أسمعه عنهم باطل، وبعضه مبالغ فيه، وأنهم لم يكن لهم يد ولا
أُصْبُع في الفتنة بل كان لهم الأثر الصالح في إطفاء نارها، وحَمْل الناس مع العسكر
وغيرهم على طاعة الحكومة الدستورية، ولكن بعض رجال الفتنة قد لبسوا لها
لباس العلماء، حتى قيل: إنهم اشتروا نسيج العمائم الأبيض من خارج الآستانة.
لما عرضت مشروعي على الصدر الأعظم أول مرة، عقد له بالاتفاق مع
عميد جمعية الاتحاد والترقي لجنة علمية مؤلفة من أمين الفتوى أسعد أفندي،
ومستشار المشيخة مصطفى أفندي أوده مشلى وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي،
وموسى كاظم أفندي من الأعيان، وكلهم من كبار شيوخ العاصمة، فلما اتفقوا على
استحسان المشروع كما ذكرت ذلك في وقته في رسائلي من الآستانة، حمدت الله
على وجود أمثالهم، واعتقدت أنه لا بد أن يوجد كثير من العلماء على رأيهم
ومشربهم ولا سيما من الشبان والكهول، وصرت أمدح علماء الآستانة، فيقول لي
بعض أهلها: لا تَقِسْ على هؤلاء فالأكثرون متعصبون غلاة في مقاومة كل إصلاح
والجمعية العلمية هي بؤرة التعصب.
ثم أسعدني التوفيق بلقاء بعض رجال العلمية في مجلس المبعوثين وغيره،
فرأيت فيهم من آيات الغيرة والإخلاص والميل إلى الإصلاح ما حمدت الله عليه،
واعتقدت أنه لا خوف على مشروعي منهم، بل رجوت أن يكونوا من خير
المساعدين عليه، إذا هو تم بمساعدة جمعية الاتحاد والترقى، وأن يقوموا هم به إذا
لم تساعدني تلك الجمعية من جهة الحكومة، ولكنني لم أطالبهم بذلك؛ لأنني لم أكن
أسمع من الحكومة إلا الوعود الجميلة، حتى تم المشروع على الوجه الذى بيناه.
ولمَّا عزمت على السفر من الآستانة إلى مصر، كتبت في جريدة الحضارة
ذلك الخطاب إلى علماء الإسلام في الآستانة وسائر البلاد الإسلامية؛ (وهو ما
ستراه قريبًا في هذا الجزء) ، وأحببت أن أجعله تمهيدًا لزيارة الجمعية العلمية في
ناديها، وإبداء شيء من التفصيل في الإصلاح الإسلامي لجمهور رجالها، فرأيت
للخطاب من التأثير فيهم فوق ما كنت أحسب، حتى كنت ألقى الواحد منهم في
الطريق أو في بعض الدور أو المعاهد العامة كالمساجد والمدارس فأجده حافظًا
لبعض جملها، يتلوها عليّ معجبًا مُثْنيًا، وقال لي بعضهم: إن رجال الجمعية
العلمية قد أعجبوا بهذه المقالة، واقترح بعضهم ترجمتها بالتركية، ونشر الترجمة
في مجلة الجمعية (بيان الحق) ، فعلمت أن ما كنت أسمعه من أنباء الدنيا في
علماء الآستانة من التعصب والجمود؛ ناشىء عن سوء فهم أو سوء قصد كما يقال
ورغبت في زيارة الجمعية في ناديها، وذكرت ذلك لبعض أعضائها، فأخبرني أنه
قد تقرر أن لا يجتمعوا فيما بقي من ليالي رمضان القليلة، (قال) : فلابد أن
نرسل إلى من يوجد منهم في الآستانة دعوة خاصة، ولا شك أنهم يُسرّون بذلك،
وموعدنا ليلة الإثنين ٢٩رمضان، ولما جئت النادي لميقاتهم ألفيته حافلاً بجمهور
عظيم منهم غص به النادي، وبعد التحية واستراحة قليلة ألقيت عليهم خطابًا
ارتجاليًا طويلاً لا تقل مدته عن ساعتين، فتلقوه بالقبول والارتياح التام، وسألتهم
هل انتقدوا منه شيئًا؟ فلم أجد عندهم انتقادًا، بل إجماعًا على جميع مسائله وثناءً.
لا أتذكر جميع ما قلته في الخطاب من المسائل والدلائل، ولكن لم أنس مقاصد
الكلام وأقطابه، وهى ثلاث:
١- وجوب تعارف العلماء وتعاونهم على خدمة الأمة والدولة، فإن هذا
العصر عصر الجمعيات، لا يستطيع أحد أن يعمل عملاً لأمته؛ إلا ويتوقف نجاحه
التام على قوة جمعية تظاهره وتعاونه عليه.
٢- تساهل العلماء في خلاف المذاهب في الأصول والفروع؛ والاكتفاء في
عقد الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين بالمسائل المجمع عليها.
٣- إحياء هداية الكتاب والسُّنة في المسلمين، وبث دعوتهما والذبّ عنهما.
فمما قلته في المقصد الأول أن علماء الإسلام في عهد نهضتهم العلمية الأولى
في بلاد العراق والفرس ومصر وإفريقية والأندلس كانوا يتعارفون بالسياحة
وبنقل الكتب من قطر إلى قطر، حتى كان المعاصرون في الشرق والغرب ينقل
بعضهم عن بعض، كما ترى في كلام ابن خلدون عن كتب سعد الدين التفتازاني وابن
هشام. ثم ذكرت ما بين علماء المسلمين من التقاطع بين المسلمين في هذه
العصور الأخيرة على سهولة المواصلات وكثرة المطابع، وبينت أن علماء الآستانة
من أجدر العلماء بخدمة الإسلام، والتعارف بين سائر علماء الأقطار، ولكنهم على
كثرتهم وجِدّهم واجتهادهم في العلوم الإسلامية لا يكاد يُسمع لهم صوت في قطر من
الأقطار كمصر والغرب والهند، وقد كان لذلك سببان:
أحدهما: سياسي؛ وهو ظلم السلطان عبد الحميد ومنعه لمثل ذلك وقد زال.
وثانيهما: عدم التكلم والكتابة باللغة العربية، وكان من غلطتهم قراءة كتب
الفنون العربية والعلوم الشرعية بالترجمة ولا سيما التفسير والحديث والأصول، فإن
هذا يضيع عليهم زمنًا طويلاً في التحصيل، ولو كانوا يتقنون اللغة العربية نفسها
قراءة وتكلمًا وكتابة، ثم يدرسون فنونها وعلومها لكان يكون تحصيلهم أسرع وأكمل،
وتعبهم فيه أقل، ولكان لهم آثار كثيرة يعرفهم بها علماء الأقطار الإسلامية كلها،
وهذا السبب يسهل عليهم تداركه في زمن قليل، وينبغي أن يكون في مجلتهم (بيان
الحق) قسم عربي؛ لتكون وسيلة لاتصالهم بسائر علماء المسلمين الذين يعرفون هذه
اللغة مهما كان جنسهم ولغتهم.
وبينت في المقصد الثاني ما دل عليه العلم بأخلاق البشر وطباعهم، وما أفادته
التجارب من اقتضاء رد الفِرَق بعضهم على بعض، ثباتَ كل على رأيه ومذهبه
وحرصه عليه، وإغرائه بعداوة المخالف، والنظر إلى كلامه بعين السخط لا بعين
الروِيَّة والإنصاف، ومن اقتضاء التساهل التناصف والمودة والنظر إلى الأشياء
بقصد استبانة الحقيقة، وعاقبة ذلك ظهور الحق على الباطل، وأستشهد على هذا ما
كانت عليه الأمم الأوربية من التنازع والتعادي في الدين والسياسة؛ لاختلاف
المذاهب والمطامع وما آل إليه أمرها من عقد الدول المحالفات والموالاة السياسية
بعضها مع بعض، ومن حَذْو الجمعيات الدينية حَذْو الدول في الاتفاق على المخالفين
ووضع الحدود للدعوة الدينية كحدود النفوذ السياسي، وكان بين فرقهم الثلاث
الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت نزاع شديد ومعارضات قوية بعد تلك الحروب
المعروفة، فضعف ذلك واتفقت جمعياتهم كما اتفقت دولهم على اقتسام البلاد
الإسلامية والوثنية؛ كاقتسام روسية وإنكلترة لبلاد الفرس، فعلينا أن نعتبر بأحوال
الأمم، ونجتهد في إدالة الوفاق من الخلاف والحب والائتلاف من العداوة والبغضاء،
والخلاف بين الفرق الإسلامية الكبرى؛ السنية , والشيعة الإمامية , والزيدية
والأباضية أهون من الخلاف بين المذاهب النصرانية؛ التي يحكم كل فريق منها
بكفر الفريق الآخر.
وذكرت أيضًا ما اتفق عليه أئمة أهل السُّنة من عدم تكفير أحد من أهل القبلة
ومن إفتاء الفقهاء بترجيح القول الضعيف بعدم التكفير على مئة قول قوي بالتكفير،
ومقابلة ذلك بما عليه الجامدون من أدعياء العلم المتأخرين؛ إذ يكفِّرون من يخالفهم
حتى في الفروع الظنية، بل في الأمور العادية التي ليست من الدين في شيء،
وبذلك شتّتوا شمل الإسلام ومزقوا نسيجه، وذكرت لهم جمعية ندوة العلماء في الهند
وأن من مقاصدها التأليف بين أهل المذاهب الإسلامية والدعوة إلى الإسلام،
والحكومة الإنكليزية مساعدة لهم على ذلك، وما ذكره لي بعض علماء الشيعة من
ميل علماء النَّجَف وإيران إلى الوفاق، وتَرْك بعضهم تدريس الكتب التي تشتمل
على الردِّ على أهل السُّنة، وما أعلمه من ميل علماء الأباضية إلى مثل ذلك، وإن
حوادث الزمان وعبره قد أعدت المسلمين للاتفاق والاتحاد الديني، فعلى العلماء أن
يغتنموا هذه الفرصة في كل البلاد ولا سيما في الآستانة، فإذا قصروا فاتتهم الفرصة
وخرج الأمر من أيديهم , وأشرت إلى ما قاله الغزالي في القسطاس المستقيم من
كفاية المتفق عليه في الدين للهداية وقلة من يعمل به، فإن المذاهب كلها متفقة على
توحيد الله وتنزيهه وسائر أصول الإيمان، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن، وعلى أركان العبادات وأصول جميع الخيرات، فأين من يعمل بما اتفقوا
عليه.
وذكرت في بيان المقصد الثالث أن الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي وترقية
المسلمين في دينهم ودنياهم لا يمكن أن تكون إلا بهداية الكتاب والسُّنة؛ لما فيهما من
التأثير في النفوس بإسنادهما إلى الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛
ولما فيهما من الحِكَم والعبر التي لا توجد في كتب الكلام والفقه؛ ولأنها الأساس
المتفق عليه عند كل المذاهب، وقلت: قد علمت أن بعض الناس هنا كانوا يظنون
أن (المنار) قد سلك هذه الطريقة؛ لأجل أن يدون مذهبًا جديدًا، ويحمل الناس
على ترك مذاهبهم إليه، وقد صرحت بنفي هذه الشبهة غير مرة، فأنا لا أريد أن
أحدث مذهبًا جديدًا، ولا أجيز لنفسي ذلك، وإنما سلكتها لأسباب:
(١) أن المنار عام لجميع المسلمين لا لأهل مذهب واحد منهم، فوجب أن
يكون هديه بما هو الأصل المتفق عليه بينهم.
(٢) للكتاب والسنة من التأثير في النفس والسلطان على القلب ما ليس لكلام
أحد كما تقدم آنفًا؛ فالدعوة إلى الإصلاح بهما أسرع قبولاً، وأقرب حصولاً.
(٣) أنهما مشتملان على كل ما نحتاج إليه؛ لأجل الهداية والنهضة
الاجتماعية التي هي أصل كل ارتقاء.
(٤) أن ما يذكر في المنار من الأحكام الشرعية يقصد بها: إما بيان حكمة
الشرع فيه وكونه موافقًا لمصلحة الناس في كل زمان ومكان، وإما الدفاع عن
الإسلام ورد شبهات المعترضين عليه من الإفرنج وغيرهم، وهم لا يحفلون بالرد
على أقوال الفقهاء وآرائهم الاجتهادية، وإنما يصوبون سهامهم إلى أصل الدين وهو
الكتاب والسنة، وحسبنا أن ندافع عن أصل ديننا، ونبين حقيّته وحكم أحكامه
وموافقتها للعقل والفطرة ومصالح البشر، وإني قد نشأت على مذهب الشافعي في
الفروع والأشعرى في العقائد (رحمهما الله) ، ولست أستطيع إقناع الناس بما
ذكرت، إذا أنا التزمت هذين المذهبين اللذين قرأت كتبهما، وحاولت أن أرد الشُّبَه
عن العقائد، وأبين حكمة الشريعة منهما أو بهما، وكذلك يقال في سائر المذاهب.
قلت: مثال ذلك ما جرى لأحد إخواننا الذين على طريقتنا في مصر: كان
مدرسًا في مدرسة الحقوق للشريعة على مذهب الحنفية، وكان بعض الطلبة من
المسلمين وغيرهم يُوردون الشُّبَه على بعض المسائل الفقهية، ويرون أن حكم
القانون أقرب إلى العدل وأضمن للمصلحة من الحكم الشرعي، فكان ذلك المدرس
يراجع قبل الدرس ما يتعلق بمسائله من الآيات والأحاديث إن كانت ومن أقوال سائر
أئمة الفقه، فإذا أَوْرد طالب شبهة على حكم وظهر له جواب مقنع أجاب به وإلا قال
للطالب: إن ما ذكرته لا يرد على أصل الشريعة، وإنما يرد على رأي الإمام أبي
حنيفة أو الإمام أبي يوسف (مثلاً) في هذه المسألة، وهو رأي اجتهادي ظني
عندي، وقد خالفه فيه الإمام مالك أو الشافعي (مثلاً) ، واحتج بحديث كذا
(مثلاً) ، فإن كان هنالك آية أو حديث صحيح التزم الدفاع عنه وإلا ذكر من أقوال
الأئمة الاجتهادية ما يراه أقرب إلى إقناع السائل وأمثاله بعدل الشريعة.
هذا أهم ما ذكرته وأحببت نشره، وبعد أن عدت إلى مصر جاءني العدد ٨٠
من مجلة (بيان الحق) ، فرأيت فيها كلامًا عن هذا الخطاب فيه إشارة إلى غير ما
تقدم، وهذه ترجمة بالعربية.