للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


حجاب المرأة في الإسلام [*]
(٢)

أما ما ورد في القرآن والسُّنة في هذه المسألة من الآداب فهو قاصر على ما
يأتي:
١- الأمر للرجال بغضّ النظر عن النساء بعض الغض وكذلك للنساء، فقال
تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: ٣٠) و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور: ٣١) فإن الواجب أن لا يطيل الإنسان النظر إلى وجه جميل يُخشى منه
الفتنة، فإن له النظرة الأولى وليس له الثانية، وقد سوَّى الله تعالى في أمر الغض
الرجال بالنساء، وهو يشعر بأن كلا الطرفين مكشوف للآخر.
٢- نهى الله سبحانه وتعالى النساء عن كثرة الخروج من بيوتهن، فإن
طبيعتهن تقتضي ذلك؛ بسبب ما يصيبهن من حيض وحمل وولادة ونفاس ورضاعة
وتربية الأولاد وإدارة المنازل، وملاحظة خدمها وجميع شؤونها وأعمالها فالطبيعة
في الحقيقة تلزمهن بالقرار في البيوت في أغلب الأوقات؛ لأن أعمالهن وشؤونهن لا
تسمح لهن بكثرة الخروج؛ ولذلك قال الله تعالى: مخاطبًا نساء النبي صلى الله عليه
وسلم {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: ٣٣)
فإن كثرة خروج النساء مذموم ومضيعة لأعمالهن وشرفهن، فلا يجوز لهن الخروج
إلا لضرورة (والضرورات تبيح المحظورات) ، فإن كان ثمَّ موجب للخروج جاز
ذلك وإلا فلا، فمن موجبات الخروج قضاء بعض المصالح أو الحاجات إذا لم يوجد
من يفعل ذلك لهن، والسعي وراء العيش كذلك، والسفر للحج والرياضة البدنية
والعقلية في الأماكن الخلوية، والتمتع برؤية المناظر الطبيعية والصناعية المباحة
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: ١٠١) ذلك في بعض الأحيان
لا في أكثر الأوقات، كما تفعل نساء الإفرنج في الملاهي (والتيترات) ، فإن ذلك
من الإفراط المذموم في الإسلام.
قال بعض أهل النظر: إن الأمر بالقرار في البيوت هو خاص بنساء النبي؛
لعدم حاجتهن للخروج في تلك الأزمنة؛ ولوجودهن في بيوت خاوية إذ ذاك قليلة
السكان؛ مستشهدًا على صحة رأيه بسياق الآية في سورة الأحزاب وبإفرادهن
بالخطاب في هذه الآية مع إشراكهن بغيرهم في آية {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
المُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: ٥٩) حينما أراد أن يكون الأمر فيها عامًّا للجميع وهو
قول وجيه، ولكننا نحن لا نرى مانعًا يمنع من كون المراد بأمر القرار جميع نساء
الأمة، وإنما اختصاص نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخطاب هو لأنهن
أولى الناس بذلك كما سبق بيانه؛ ولشدة الرغبة في حسن سمعتهن وتطهير
أعراضهن من كل شائنة، كما قال تعالى في آخر الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) فالأمر بالقرار في
البيوت هو لنساء المسلمين واجب عندنا، ولكنه لنساء النبي أوجب، ويصح أن
يقال أيضًا: إن هذا الأمر للجميع هو للإرشاد والندب لا للوجوب، ونساء النبي بهذا
الإرشاد أولى من غيرهن؛ ولذلك قال في أول هذه الآية {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} (الأحزاب: ٣٢) .
٣- حرم الإسلام الخلوة بالأجنبية تحريمًا باتًّا لا هوادة فيه، ونهى القرآن
الشريف عن الدخول على النساء في خدورهن ومخاطبتهن في منازلهن إلا من وراء
حجاب؛ لأن استباحة حرم النساء والدخول عليهن في بيوتهن ومخاطبتهن من غير
حائل يؤدي إلى الخلوة بهن أو مغازلتهن أو رؤية شيء من زينتهن أو عوراتهن؛
لأنهن في البيوت يكشفن منهن ما لا يكشفنه في الخارج، ويبدين فيها لأزواجهن من
زينتهن ما لا يبدينه لغيرهم، ولا يجوز الاطلاع على شيء من ذلك قال الله تعالى:
{لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: ٢٧)
وقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (النور: ٥٨) إلى قوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: ٥٣) أي فخاطبوهن من وراء ستار، ولا تدخلوا عليهن، فأين هذا
المعنى المفهوم من السياق من دعواهم؛ أنها تدل على تبرقع النساء وانتقابهن في
الطرقات، فشتان ما بين هذا وذاك، وإذا وجد داع للدخول عليهن في خدرهن وجب
الاستئذان وتنبيههن لذلك، حتى يُخْفين زينتهن وعوْراتهن واصطحاب أحد محارمهن
قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) فهذه الآداب
هي خاصة بالبيوت. وللطرقات آداب أخرى غيرها والآية السابقة هي الآية الوحيدة
التي ذكر فيها الحجاب كما قلنا، وهي مع ذلك لا تدل على شيء مما زعموا.
٤- ومن آداب الإسلام اصطحاب المحارم في الخروج، وعدم السفر إلا معهم
والخروج إلا بإذنهم وعلمهم، فلا يجوز لامرأة أن تخرج إلا بإذن زوجها، أو تسافر
إلا مع ذي محرم، وقد جرى عمل المسلمين على ذلك من عهد الرسول، وورد في
ذلك كله أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي مَحْرَم) ، وقال: (لا تسافر
المرأة إلا مع ذي مَحْرَم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها مَحْرَم) وقال: (لا تسافر
المرأة بَرِيدا إلا ومعها مَحْرَم يَحْرُم عليها) .
٥- نهى القرآن الشريف عن التبرج بقوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ
الأُولَى} (الأحزاب: ٣٣) ، وعن إبداء أي شيء من زينتهن في الطرقات سوى
الوجه والكفين {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: ٣١) وأمر بضرب
الخُمُر: (وهي أغطية الرأس) على الجيوب وهي الشقوق التي تكون في ملابس
المرأة فوق صدرها، ومنها تظهر النهود؛ فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} (النور: ٣١) ، وألزمهن إطالة أثوابهن من جميع أطرافها حتى لا
يظهر منها العنق ولا الذراعان ولا الساقان، فقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: ٥٩) وهي الثياب التي تسمى الآن بالجلاليب؛ أي أنه يجب على
المرأة أن تطيل أطرافها وتمدها عليها، حتى لا يظهر منها سوى الوجه والكفين،
أما الرأس فإنه عندهن مغطى بالخمار لعدم جواز كشف الشعر، وهذه الملابس
المذكورة في القرآن هي أشبه شيء بملابس نساء الفلاحين في مصر الآن، ويمكن
عملها بطرق أخرى كثيرة (مودات) بحيث لا يظهر من المرأة إلا ما أباح الدين
ظهوره وهو الوجه والكفان، فهذه هي آداب الطرقات.
ومما تقدم تعلم أن البرقع أو النقاب ليس له في الإسلام أثر ولا عين، ولا
ندري من أين أتوْا به في الدين؛ إن هو إلا عادة ورثوها عن الأمم الأخرى، وهي لا
خير فيها بل فيها كل الضرر كما بينا ذلك؛ ولذلك لم يرد لها ذكر في الإسلام، فلو
التزمت نساء المسلمين ما أتى به دينهم القويم من الآداب المذكورة هنا؛ لفُقن نساء
العالم في العفة والفضيلة والكمال والاحتشام بدون أدنى احتياج للحجاب، وإلا فقل
لي بأبيك أي ضرر يلحق بنا إذا تركنا الحجاب واكتفت نساؤنا بما أمرن به في الدين،
فأظهرت المرأة وجهها وكفيها فقط وغضت من نظرها (وكذلك الرجال كما أمر
القرآن) ، وسارت في طريقها غير متبخترة ولا متبرجة ولا مزينة، وأقلت من
الخروج من بيتها إلا لموجب، وإذا خرجت اصطحبت أحد محارمها، ولا تخرج إلا
بإذن زوجها وبعلمه، ولا تسافر إلا مع ذي محرم، ولا تخلو بأجنبي عنها، ولا
يخاطبها رجل في بيتها إلا من وراء حجاب، فقل لي بأبيك إذا عمل المسلمون بهذه
الآداب الشريفة، فأي ضرر يحصل لنا؟ وأي حاجة لنا بالبرقع والنقاب وهما قد
جَرّا علينا من المصائب ما قد جرّا؟ فهل إذا التزمت نساؤنا آداب هذا الدين أفلا
يَفُقْنَ نساء العالمين.
على هذه الآداب الإسلامية جرى نساء سلفنا الصالح، فكن يأتين المساجد
ويحججن ويغشين الأسواق، ويسعفن الجرحى في ميادين القتال، ويخرجن في
الفلوات للرياضة ولاستنشاق الهواء، ويخطبن على الرجال ويحضرن مجتمعاتهم،
ويناقشن الأمراء وهن في كل هذا الأحوال مكشوفات الوجوه، وكن يفقن نساء
العالمين في العفة والفضيلة، ولم يكن هذا الحجاب معروفًا بينهن، وإنما هن أخذنه
بعد طول اختلاطهن بالأمم الأخرى، وتقليدهن في جميع أمورهن. وقد كثر بحث
الفقهاء في الحجاب بعد القرن الثاني، حينما امتدت الحضارة بين المسلمين وتعلقت
الأمراء به؛ لبغضهم أن يرى نساءهم وجواريهم أحد من عامة المسلمين، وقد قلدهم
في ذلك أهل الطبقة الوسطى والعليا من سكان المدن، ووجدوا من الفقهاء من يفتيهم
بأنه من الدين وهو ليس منه في شيء. أما نساء المسلمين الآخرين البعيدات عن
المدن وعن قصور الملوك والأمراء فبقين على ما ورثنه عن أسلافهن من السفور
إلى يومنا هذا، ولو كان الدين الإسلامي هو الآمر بالحجاب لوجدته بين الأمم
الإسلامية في سائر الطبقات وفي سكان المدن والفلوات وفي سائر الأوقات، ولَمَا
وجدته عند الأمم الأخرى غير الإسلامية قبل الإسلام وبعده؛ كقدماء اليونانيين
(الروم) ، والحق يقال: إن الإسلام بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب،
وجميع ما قيل فيه ليس له أصل في الكتاب والسنة، وإنما هو من اجتهادات الفقهاء
المحدثين بعد القرن الثاني وفتاويهم، ولسنا ملزمين باتباع آرائهم وأفكارهم الزائدة عن
الدين، بل يجب رفضها رفضًا باتًّا، وخصوصًا إذا أدت إلى ما أدى إليه الحجاب
الآن بين المسلمين مما سبق بيانه، فالعاقل من اكتفى بأوامر الدين ولم يعبأ بهوس
المخرفين ولا بآراء الجاهلين، وترك الابتداع في الدين أو تحريفه عن معناه القويم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ} (يوسف: ١٠٨) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
٥٥) .
(المنار)
البرقع معروف عند العرب قبل الإسلام وفي كتب اللغة؛ أنه كان خاصًّا
بالدواب ونساء الأعراب؛ كأنهن لكثرة بروزهن في الشمس كن يقين به وجوههن
منها، ثم صار من آيات الحياء، قال توبة بن الحمير:
وكنت إذا ما جئتُ ليلى تبرقعَتْ ... وقد رابني منها الغداة سفورها
وينسب إلى ذي الرُّمة:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدُّمَى غرة ... ويسفر عن منظر أشنع
وقد بينا في المجلد الثاني من المنار؛ أن الخلاف في هذه المسألة في مصر
إنما سببه العادات لا المحافظة على الشرع وعدم المحافظة عليه، فلا يوجد أحد ممن
شم رائحة الشرع، يقول: إن ما يشكو منه أعداء الحجاب من الملاءات والبراقع هو
شرعي، وما كنت أحب أن تشن الغارة على هذه العادات باسم الحجاب الشرعي،
والآية التي ذكر فيها الحجاب خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) حتمًا كما
بينه المحدثون، ولا سيما الطحاوي في شرح الآثار، ولكن أطلق على عادات نساء
المدن المسلمات في الستر اسم الحجاب، فلأجل هذا ينتقدها الكتاب في هذا العصر
بهذا الاسم.
كثر خوض الكاتبين والكاتبات بمصر في هذه المسألة في هاتين السنتين،
وكذلك يفعل الكاتبون والكاتبات في الآستانة وقزان والقريم والهند؛ أي في البلاد
التي سرت إليها عادات المدنية الحديثة، فأكثر المهاجمين للحجاب أو للعادات التي
تسمى حجابًا من المتفرنجين الذين يرون تقليد الأوربيين في عاداتهم، وأكثر الذين
يردون عليهم من الذين يكرهون هذا التقليد ويرونه ضارًّا، والدكتور توفيق صدقي
من المعتدلين المستقلين في رأيه، ولكن تغيير العادات في الأمة لا يمكن أن يكون
بمجرد إقامة الحجة على كونها مخالفة للشرع أو للمصلحة أو موافقة لهما، وإنما
يكون بالتغيير التدريجي في التربية والتعليم الذي تتغير به الآراء والأفكار والميول
والرغبات، فمتى كثر الذين يرون تغيير العادة يتجرأ بعضهم على التغيير بالفعل،
فيتبعه من يوافقه في الرأي ويتبعهم المقلدون الذين لا رأي لهم ومحبو الجديد كيفما
كان، وربما كان الانتقال السريع من العادة القومية الضارة إلى ضدها ضارًّا، وقد بدأ
نساء الآستانة في تغيير العادات بما هو أمثل من التغيير الذي نراه بمصر.
بينا غير مرة أن حكم الشرع في المسألة التي يسمونها مسألة الحجاب؛ هي أن
لا تخلو المرأة برجل من غير محارمها، وأن لا تبدي زينتها للرجال: بإبداء ما لا
ضرورة إلى إبدائه من بدنها وهو ما عدا الوجه والكفين، ومن المشاهد أن لابسات
الملاءات والحبر والبراقع التي يشكو منها أعداء الحجاب يبدين من زينتهن ما لا
حاجة إلى إظهاره، فإذا كان هذه هو الحجاب فالشرع بريء منه، وإنما يريد أعداء
الحجاب شيئًا آخر غير ترك هذه النوع من زينة النساء، يريدون أن يباح اختلاط
الرجال بالنساء في البيوت والمجامع العامة والخاصة، وأن يشارك النساء الرجال في
جميع أعمالهم أو أكثرها، يريدون أن يكون هذا فجأة لا أن يكون أثرًا طبيعيًّا لتربية
جديدة وتعليم جديد، كما كان يطلب زعيمهم قاسم أمين، وإلا لَمَا أكثروا من طلب
النتيجة قبل المقدمات والمسبب بدون اتخاذ ما له من الأسباب، بل يريدون أن يكون
سبب ذلك إقناع الجمهور به في الجرائد، ولا يتدبرون ما يكون وراء ذلك من الفساد
وفوضى الآداب.
وقد جاء إسماعيل بك عصبرنسكي صاحب جريدة (ترجمان) التي تصدر
في بفجة سراي (القريم) بأسلوب جديد للإقناع؛ فكتب أن امرأة من سروات
النمسة غنية لها أملاك ومعامل تدبر نظامها بنفسها، قد كتبت إليه تقول: إنها اطلعت
على حقيقة الدين الإسلامي فأعجبها، واعتقدت أنه الحق، وأحبت الدخول فيه،
ولكن صدها عنه شيء واحد هو الحجاب، فإنها لا تستطيع أن تستر وجهها وتحول
بينه وبين الهواء والنور، ولا أن تكل أمر معملها في إدارته ونفقاته ودخله إلى أحد
سواها، فهل يقبل إسلامها مع بقائها على ما كانت عليه من كشف الوجه ومزاولة
الأعمال مع الرجال مع ثقتها بعفة نفسها، أم الإسلام يجعلها متهمة في عفتها،
ويحرم عليها كشف وجهها والنظر في مصالحها؟ وكيف يسمح للمسلم أن يتزوج
نصرانية، ويأمره أن يأذن لها في البقاء على عاداتها من السفور والذهاب إلى
الكنيسة، ولا يرى ذلك خدشًا لعفتها.
أورد إسماعيل بك هذا السؤال الذي ذكرناه بالمعنى الذي بقي في ذهننا، وقال
إنه لا يمكنه الإفتاء به، بل يعرضه على علماء الإسلام في روسية والآستانة ومصر
والهند وبخارى وغيرها من البلاد الإسلامية، ويطلب منه بيان الحكم الشرعي؛
ليكون هو القول الفصل في هذه المسألة، كأنه يطلب اتفاق العلماء أو إجماعهم لتقطع
جهيزة قول كل خطيب، وقد نقل ذلك عنه بعض جرائد الآستانة ولمَّا نطلع على
جواب لأحد.
الخطب سهلٌ، فلا يمكن أن يقول أحد من العلماء: إن صحة إسلام تلك المرأة
تتوقف على ستر وجهها وترك أعمالها المالية، فأما الأعمال المالية في نفسها فهي
مباحة للنساء كالرجال بالإجماع، وأما ستر الوجه فقد قال بعض العلماء بوجوبه؛
لسد ذريعة الفتنة، لا لأنه مما تتوقف عليه العفة، وما وجب لسد الذريعة يباح
للحاجة فضلاً عن الضرورة، وهي أعلم بحاجتها وبثقتها بنفسها، على أن أكثر
نساء المسلمات في البدو والقرى وبعض المدن كالآستانة يكشفن وجوههن، ولعل
اللواتي يسترن وجوههن فلا يراها غير محارمهن لا تبلغ نسبتهن إلى الحاسرات
نسبة الواحد إلى الألف، ومن العلماء من يرى أن وجوب ستر الوجه ليس من
أصل الشرع، ولم يكن في أول الإسلام لا لذاته ولا لسد الذريعة؛ وإنما قال به العلماء
بعد ما دب دبيب الفسق في المدن الإسلامية، ويرى جميع علماء الإسلام أن إسماعيل
بك قد أخطأ في إرجاء إفتاء تلك المرأة بصحة إسلامها إن صح أن للواقعة أصلاً؛ لأن
من يطلب الدخول في الإسلام لا يجوز إرجاء قبوله ساعة ولا دقيقة.
وإذا صح هذا فلا يقاس عليه إباحة مثله للنساء اللواتي نشأن على عادة ستر
الوجه وعدم معاملة الرجال؛ لما يترتب على الانتقال الفجائي من ذلك إلى ضده من
المفاسد التي لا تقابلها مصلحة حقيقية ناجزة، وإن وقفن فيه عند حد ما يبيحه الشرع،
فكيف وهن يتعدينه حتمًا حتى إلى العشق وطلب الزواج بغير المسلمين، وقد
سمعوا بخبر التركية مع الرومي بعد الدستور الذي قطعه الترك في الآستانة إربًا
إربًا.
وصفوة القول أن هذه المناظرات في الجرائد لا تأتي بما يبغيه المتناظرون،
وإذا ظلت مصر والآستانة وما ماثلهما من بلاد المسلمين على ما نراه من التفرنج
التدريجي فسيكون نساؤنا كنساء الإفرنج في شر ما هن عليه ينتهين إلى ذلك
بالتدريج السريع أو البطيء، كما سبق رجالنا المتفرنجون في الغالب إلى شر ما
عليه الإفرنج من السكر والزنا والقمار , وأما إذا وجدت جمعيات إسلامية تتولى
التربية والتعليم للبنات مراعية حاجة العصر مع حفظ آداب الدين وأحكامه، فيمكن
أن تكون المرأة المسلمة خير نساء العالمين أدبًا وعلمًا وفضيلة، مع القدرة على
النظر في مصالحها ومصالح بيتها واتقاء كل ما يعدّ من ضرر العادات التي تنسب
الآن إلى الحجاب؛ وأهمها الخطبة والنظر إلى الخطيبة وحفظ المرأة لأموالها
وحقوقها فالعبرة بالأعمال، وإنما العمل في مثل هذا للجمعيات الخيرية.