للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


صلاة الظهر بعد الجمعة احتياطًا

س ٥٤ من صاحب الإمضاء في (أكراجي من ولاية ويانقا - روسية) .
حضرة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فأرجوك أن تفيدنا عن الفتوى الآتية:
ما قولكم دام فضلكم في قول رجل يَدَّعي أن الصلاة المسماة باحتياط الظهر
بدعة، والنبي (عليه السلام) ما صلاها، وليس فيها رواية من الصحابة والتابعين
والعلماء المجتهدين: (أول من بيّن في القرآن بدعية هذه الصلاة الشيخ شهاب الدين
الجرجاني) ، ومذهب أبي حنيفة والباقي من الأئمة فرضية الجمعة فقط، ما عندهم
شيء خفي عنا، فمن ادعى مشروعية احتياط الظهر، فليثبت لنا بالكتاب أو السنة
وإلا فما يقنعنا مجرد كتابة الألفاظ العربية.
إن كان مَنْ ترك الجمعة بالعذر جزاؤه من الشارع صدقة ربع دينار أو صاع
ونصف من الحنطة، وليس مأمورًا بأداء الظهر بدلاً عن الجمعة، فإن كان الأمر
كذلك فادعاء بدعية الظهر عن الجمعة ليس بصحيح، والقول بوجوب الاحتياط
للمصلي بعيد جدًّا.
محسوبكم بعد ما فهمت بدعيّة الاحتياط ما أصليها منذ عشرين سنة، وأنبه
أيضًا سامعي كلامي، وبعد ما يسلم الإمام أخرج من المسجد وأرجع إلى بيتي
وأصلي فيه ركعتين، وهذا فِعْلي موافق لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا} (الجمعة: ١٠) ومطابق لسنة رسول الله (بخاري ٢جزء١٤ ص) ،
وسبّ الجهال لفعلي هذا بالاعتزال وغيره ليس بشيء عندي ولا أبالي به، وفتاوى
التاشكند أنّ نظرنا بمقتضى الوجدان والإنصاف ليست بشيء، وقولهم رد الفتوى كفر
أيضًا كذلك، الحاصل عند القول بوجوب الاحتياط شيء كبير لا جرأة لي عليه؛
لأن الشارع (صلى الله عليه وسلم) ما صلى هذه الصلاة في عمره ولا مرة انتهى.
... ... ... ... ... ... المترجم من مجلة الشورى عدد٣٣
... ... ... ... ... ... ... ... ... السياح الحجازي
... ... ... ... ... ... ... ... أبو أديب حافظ حلمي

(ج) تراجع ص ٧٢٩ و٩٣٨ من مجلد المنار السابع، فهناك بيان نافع،
ثم إنا نعلم أن نية السائل في تركه لِمَا جرى عليه بعض الناس في تركه من صلاة
الظهر بعد الجمعة، ونية أولئك المصلين لها كلتاهما حسنة، المسألة متنازع فيها،
وقد قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) أي وأحسن
عاقبة ومآلا في الدنيا لأنه يزيل النزاع والتفرق ويجمع الكلمة وفي الأخرة لأنه
المرضِيّ عند الله تعالى. وإذا رددنا المسألة إلى الله تعالى بعرضها على كتابه،
وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بعرضها على سُنته، لا تجد فيهما دليلاً على
مشروعية صلاتين مفروضتين في وقت واحد بل على عدمه، وهو الأصل، فمن
كان يعتقد أن صلاة الجمعة لا تصح منه حَرُم عليه أن يصليهما، ووجب عليه
الظهر وحده، ومن صلاها معتقدًا صحتها منه أجزأته، ولم يجب عليه غيرها في
وقتها إلى العصر، ومن اعتقد أن صلاته للجمعة صحيحة ولكنها ناقصة نقصًا لا
يقتضي بطلانها، فله أن يجبرها بالنوافل الرواتب وغير الرواتب، وقد صح في
حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بعد
الجمعة ركعتين في بيته، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن الأمر
بصلاة أربع ركعات بعده وورد بلفظ: (من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل
أربعًا) أي إن شاء، والأفضل أن تكون في البيت كسائر النوافل.
ولا يتوهمن الذين يصلون الظهر بعد الجمعة أن الخطب في ذلك سهل؛ لأنه
زيادة من الخير الذي هو الصلاة، فإن فيه خطرًا عظيمًا؛ من حيث إنه شرع عبادة
لم يأذن بها الله، والشارع هو الله وحده، فمن أحدث في الشرع شيئًا، فقد جعل
نفسه شريكًا لله في ألوهيته أو ربوبيته، ومن وافقه فقد اتخذه شريكًا كما قال تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) ، وقد
بيّنا مرارًا تفسير النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ لاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم
ورهبانهم أربابًا؛ بأنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها،
وهم ما كانوا يضعون تلك الأحكام إلا بمثل الشبهات التي حدثت بها البدع الدينية في
الإسلام، من حيث إنها زيادة في الخير أو العبادة أو احتياط في ترك ما لا يرضي
الله تعالى، كما هو معروف في تاريخهم.
فيا أيها المسلمون لا تغلو في دينكم، وإن لكم في الفرائض والمندوبات الثابتة
في الكتاب والسنة بالنص الصريح غنية عن سواها، وقد قال النبي (صلى الله عليه
وسلم) في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على المكتوبات الخمس وسائر الفرائض
من أركان الإسلام ولا ينقص: (أفلح إن صدق) ودخل الجنة إن صدق، وياليت
السوادَ الأعظم من المسلمين يأتون جميع الفرائض القطعية، ويتركون جميع
المحرمات القطعية، وفي النوافل المشروعة ما يستغرق العمر.
وما قاله السائل في رد الفتوى صحيح، وإنما عنى أولئك المشددون المكفرون
مَنْ يرد الفتوى يحتقرها، وهو يعتقد أنها من دين الله تعالى، ويقصد بذلك احتقار
الدين لا من اعتقد خطأ المفتي.